روى المؤرخون إن الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم عاشوراء تمثل بهذه الأبيات:
فـإن نَـهـزمْ فـهـــــزّامـونَ قُـدْمـاً *** وإن نُـهـزَمْ فـغـيـــــــر مـهـزَّمـيـنـا
ومـا إن طـبّـــــــنا جـبـنٌ ولـكـن *** مـنـايــــــــــــــانـا ودولـة آخـريـنـا
فـقـلْ لـلـشــامـتـيـنَ بـنـا أفـيـقـوا *** سـيـلـقـى الـشـامـتـون كـمـا لـقـيـنـا
إذا مـا الـمـوتُ رفّـع عـن أنـاسٍ *** بـكـلـكـلـهِ أنــــــــــــــاخَ بـآخـريـنـا
وقد تمثل بهذه الأبيات كثير من العظماء والثوار على مرّ العصور, فلا يكاد يخلو كتاب يتحدث عن تاريخنا الإسلامي والأحداث التي مرّت به من هذه الأبيات. فَلِمن هذه الابيات ؟
لقد وردت هذه الأبيات مع اختلاف كبير في عددها وروايتها ونسبتها في أمهات كتب الأدب والتاريخ وقد عدّها المؤلفون على أنها من عيون الشعر العربي. ولكن هذه الكتب لم تتفق كلها على شاعر واحد لها، فقد نسبها كل من ابن الاثير (1) وابن هشام (2) وابن عبد ربه الاندلسي (3) ومحمد بن سعد (4) وابن حجر العسقلاني (5) وابن جزم الأندلسي (6) والسيد ابن طاووس (7) وابن أبي حاتم الرازي (8) والسيد البطليوسي (9) والسيد عبد الرزاق المقرم (10) إلى فروة بن مسيك بن الحارث المرادي وهو صحابي مخضرم مع ذكر قصة هذه الأبيات مفصّلة في بعض هذه الكتب.
ومجمل قصة هذه الأبيات هي: (إنها قيلت في واقعة (الرزم) وهي واقعة جرت بين مراد وهمدان وقد ظفرت فيها همدان فأكثروا القتلى في مراد وكان رئيس همدان الأجدع بن مالك والد مسروق الصحابي)، وهذه القصة ــ التي ذكرناها باختصار ــ تبيّن مغزى الأبيات، فقد جاءت مطابقة تماماً لمضمونها. أما الذين نسبوا الأبيات إلى غير فروة فإنهم لم يذكروا أي شيء عنها وفِيمَ قِيلت سوى نسبتها إلى اسم شاعر بعينه مع إن مضمونها يدل على أنها لم تقل إلا في أمر عظيم.
فقد نسبها السيد المرتضى إلى ذي الإصبع العدواني (11) كما نسبها البحتري إلى مالك بن عمر الأسدي (12) ونسبها أبو تمام (13) وابن قتيبة الدينوري إلى الفرزدق (14)، بينما نرى أن الفرزدق ينسبها إلى خاله العلاء بن قرظة (15). أما في الحماسة البصرية فقد اشترك مع فروة شاعر آخر في نسبة الأبيات إليه هو عمرو بن قعّاس (16)، في حين إن الخوارزمي لم ينسب الأبيات إلى أحد عندما ذكرها (17)، وكذلك الحال مع ابن عساكر (18)، وابن أبي الحديد (19).
إن تمثل الإمام الحسين (عليه السلام) بهذه الأبيات في يوم عاشوراء يدل على أهميتها التاريخية فضلاً عن جودتها وجزالتها ومضمونها الذي يؤكد على إنها قِيلت في واقعة أو معركة تشابه في بعض مجرياتها معركة الطف، كما إن اختلاف المؤرخين في نسبة هذه الأبيات بين ستة شعراء يدل أيضاً على وقعها العظيم في نفوس الشعراء وإن قائلها قد شهد أحداثاً تناسب مضمونها، لذلك فإن صحة نسبتها إلى ذي الإصبع العدواني ضعيفة جداً لأنه كان يُعد من حكماء العرب وقد توزّع شعره بين الحكمة والوعظ، ثم إنه لم يذكر التاريخ له واقعة تتلاءم وجو هذه الأبيات فتسند صحتها إليه، وكذلك الحال مع مالك بن عمرو الأسدي والفرزدق الذي نفى بنفسه نسبة الأبيات إليه حينما نسبها إلى خاله العلاء بن قرظة، وإن انفراد أبي الفرج الأصفهاني بنسبة الأبيات على قول الفرزدق يجعل احتمال نسبتها ضعيف جداً، ولا يُعرف من أي مصدر استقى صاحب الحماسة البصرية عندما أشرك مع فروة شاعر اخر هو عمرو بن قعّاس وهذا الشاعر هو أقرب إلى شعراء الواحدة. وأكبر الظن إن الخوارزمي وابن عساكر وابن أبي الحديد أعرضوا عن نسبتها لكثرة الاختلاف فيها.
بقيَ شاعر واحد أجمعت أهم كتب الأدب والتاريخ المتقدّمة على أنها له وهو فروة بن مسيك المرادي والذي كانت نسبة الأبيات هي الراجحة حيث كانت مطابقة تماماً لوقائع حادثة (الرزم) التي ذكرها المؤرخون. فقد ذكر ابن الاثير: إن رسول الله كان قد واسى فروة على تلك الواقعة بعد إسلامه والتي أثرت كثيراً فيه وهو يرى كثرة القتلى في قومه فقال له (صلى الله عليه وآله): يا فروة هل ساءك ما أصاب قومك يوم الرزم ؟ فقال له: يا رسول الله من ذا يصيب قومه مثل ما أصاب قومي ولم يسؤه ذلك ؟ فقال له رسول الله (ص): إن ذلك لا يزيد قومك في الإسلام إلا خيرا...
إذن فنسبة هذه الأبيات إلى فروة هي الصحيحة لاتفاق أكثر المؤرّخين المتقدمين عليها، ولمطابقة مضمونها مع حادثة الرزم، ولعدم ذكر أي شيء عنها من الذين نسبوها إلى غير فروة، وكان فروة قد أسلم عام الفتح ووفد على النبي (ص) مسلماً وكان يحضر مجلس رسول الله ويتعلّم القرآن وفرائض الإسلام، فاستعمله (ص) على مراد ومذحج وزبيد وبعث معه خالد بن سعيد بن العاص فكان على الصدقات وكان معه في بلاده إلى أن توفي رسول الله (ص)، فاستعمله عمر بن الخطاب على صدقات مذحج فيما بعد ثم انتقل إلى الكوفة وسكن فيها، وقد كان جميع ما ورد من هذه الأبيات مع اختلاف عددها وتفاوت روايتها عشرة أبيات فكانت صورة رائعة من روائع الشعر العربي آثرنا ذكرها كلها لما تمتع به من جودة وجزالة:
فـأن نَـهـزِمْ فـهـــــــــــزَّامـونَ قُـدمـاً *** وإن نُـهـزم فـغــــــيـرُ مـهـزَّمـيـنـا
ومـا إن طـبّــــــــــــنـا جـبـنٌ ولـكـن *** مـنـايــــــــــــــانـا ودولـة آخـريـنـا
فـقـلْ لـلـشـامـتـــــــيـن بـنـا: أفـيـقـوا *** سـيـلـقـى الـشـامـتـون كـمـا لـقـيـنـا
إذا مـا الـمـــــــوتُ رفّـعَ عـن أنـاسٍ *** بـكـلـكـلـهِ أنـاخَ بــــــــــــــآخـريـنـا
كـذاكَ الــــــــدهـرُ دولــــتـه سِـجـالٌ *** تـكـرُّ صـــــــروفـه حـيـنـاً وحـيـنـا
فـبـيـــــــنـا مـا يـسـرُّ بــه ويـرضـى *** ولـو لـبـسـت غــــضـارتـه سـنـيـنـا
إذا انـقـلـبـت بـه كـــــــــــرّات دهـرٍ *** فـألـفـى لـلألـــى غـبـطـوا طـعـيـنـا
ومـن يـغـبـط بـريـبِ الـدهـرِ مـنـهـم *** يـجـد ريـبَ الـزمـــــانِ لـه خـؤونـا
فـلـو خـلـدَ الـمـلـوكُ إذاً خــــــــلـدنـا *** ولـو بـقـيَ الـكـــــــــرامُ اذاً بـقـيـنـا
فـافـنـى ذلــــــــكـم سَـرَواتِ قـومـي *** كـمـا أفـنـى الـقـــــــرونَ الأولـيـنـا
مـحـمـد طـاهـر الـصـفـار
..........................................................
1ــ الكامل في التاريخ ج 2 ص 202 ، أسد الغابة في معرفة الصحابة ج 4 ص 180
2ــ السيرة النبوية ص 585
3ــ الاستيعاب ص 1261
4ــ الطبقات الكبرى ج 5 ص 524
5ــ الاصابة ج 3 ص 205
6ــ جمهرة أنساب العرب ص 382
7ــ اللهوف في قتلى الطفوف ص 54
8ــ الجرح والتعديل ج 3 ص 82
9ــ الحُلل في إصلاح الخلل من كتاب الجمل ص 444
10ــ مقتل الحسين ص 263
11ــ الأمالي ج 1 ص 251
12ــ الحماسة ص 149
13ــ الحماسة ج 3 ص 191
14ــ عيون الأخبار ج 3 ص 114 ، الشعر والشعراء ص 450
15ــ الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ج 19 ص 49
16ــ ص 30
17ــ مقتل الحسين ج 2 ص 7
18ــ تاريخ الشام ج 4 ص 333
19ــ شرح نهج البلاغة ج 3 ص 244
اترك تعليق