قبر الامام الحسين في عصر المتوكل العباسي

في عام (193هـ/809م) قام الخليفة العباسي هارون الرشيد بهدم قبر الحسين وهدم الدور المجاورة حوله، وكانت هناك سدرة عند القبر فأمر بقلعها وحرث موضع القبر ومحى أثره. وبعد موت الرشيد مباشرة بُني القبر مرة أخرى في زمن الأمين وبدأ الناس يسكنون حوله من جديد وبقي هذا البناء مدّة أربعين سنة حتى زمن المتوكل.

المتوكل

تشير المصادر إلى عهد المتوكل كان من أكثر العهود الإرهابية التي مرّت على الشيعة، وأقسى العهود المظلمة التي مرّت على القبر الشريف، يقول أبو الفرج الأصفهاني: (وكان المتوكل شديد الوطأة على آل أبي طالب، غليظاً على جماعتهم، مهتماً بأمورهم، شديد الغيظ والحقد عليهم وسوء الظن والتهمة لهم، فبلغ بهم ما لم يبلغه أحد من خلفاء بني العباس قبله، وكان من ذلك كرب قبر الحسين (عليه السلام) وعفى آثاره، ووضع على سائر طرق الزوّار مسالح لا يجدون أحداً زاره إلا أتوا به فقتلوه أو أنهكوه عقوبة) (1)

ولم يكن هذا التهديم هو الوحيد في عهده، فقد قام بهدم القبر الشريف أربع مرات كما يقول الدكتور عبد الجواد الكليدار: (لم تمض أكثر من أربعين سنة على هدم الرشيد للقبر المقدس حتى كان دور حفيده في ذلك فمُني القبر بالهدم مرة أخرى على يد جعفر بن المعتصم بن الرشيد ــ المتوكل ــ فإنه في خلال خمس عشرة سنة من حكمه هدم قبر الحسين (عليه السلام) ومخر أرضه وكربه أربع مرات في فترات مختلفة تأسياً بسيرة أسلافه من المنصور والرشيد) (2)

التهديم الأول

في عام (233هـ) وفي بداية حكمه أمر المتوكل العباسي بهدم قبر الحسين، وأرسل لذلك اليهودي إبراهيم الديزج، يقول الأصفهاني: (بعث المتوكل برجل من أصحابه يقال له الديزج وكان يهودياً إلى قبر الحسين (عليه السلام) وأمره بكرابه ومخره وإخراب كل ما حوله فمضى لذلك وخرب ما حوله وهدم البناء..... فهدم القبر وكربه وأجرى الماء حوله ووكل به مسالح ــ أي فرقة من الجنود ــ على سائر الطرق بين كل مسلحتين ميل لا يزوره زائر إلا أخذوه ووجه به إليه فقتله أو أنهكه عقوبة).

وهذا الهدم كان في بداية حكم المتوكل في شهر شعبان كما يقول الكليدار: (إن الهدم الأول كان في أوائل حكم المتوكل من شعبان سنة (233هـ)... وإن الديزج حسب أمر المتوكل لم يكتف بهدم القبر وحده، وإنما خرب ما حوله فهدم مدينة كربلاء كلها، وإنه وكل في أطرافها المسالح لمنع الزائرين بالقوة وبعقاب القتل...) وينقل ذلك أيضاً عن السيد محمد بن أبي طالب في كتابه (تسلية المجالس).

ولكن القبر أعيد بناؤه بعد تهديمه مرة أخرى وسكن الناس حوله، ولم تشر المصادر إلى سنة بنائه وعلى يد مَن تم ذلك البناء، ولكن مما لا شك فيه إن بعض الشيعة قام بعملية البناء وسط أجواء من التكتم خوفاً من السلطة، فاشتهر القبر وقصده الناس للزيارة فوصل الخبر إلى السلطات فأرسل المتوكل الديزج مرة أخرى لتهديم القبر..

الديزج مرة أخرى

في عام (236هـ/850م) (أمر المتوكل بهدم قبر الحسين وهدم ما حوله من المنازل والدور وأن يحرث ويبذر ويسقى موضع قبره وأن يمنع الناس من إتيانه) كما ذكر ذلك الطبري (3) وابن الأثير (4) والمسعودي (5) وابن خلكان (6) في تاريخهم في حوادث تلك السنة، وهذه هي المرة الثانية التي يهدم فيها القبر، وقد أرسل لتنفيذ هذا العمل المشين الديزج مرة أخرى فهدمه ومحى أرضه وأزال أثره وخرب ما حوله من دور ومنازل ووضع الجنود على أطراف المكان لمنع الزوار وفرض عليهم عقوبات صارمة وصلت إلى القتل، وقد ذكرت كل المصادر التي تحدثت عن أحداث هذه السنة هذه الحادثة، ولعل اشتهارها من بين أحداث التهديم الأخرى هو أنها كانت أعظم وأشد بكثير عن سابقاتها ولاحقاتها كما يقول السيد عبد الجواد الكليدار: (وقد ذكر المؤرخون كلهم هذا الهدم الثاني في سنة (236) الأمر الذي يستدل منه على أنه أشد وأعظم من الهدم الأول في سنة (233) لظهوره وعدم إخفائه في جميع المصادر) (7)

ولعل سبب اشتهار هذا الهدم أيضاً هو إن الناس خلال الفترة بين عمليتي التهديم قد بنوا بيوتاً حول القبر وسكنوا بها بعد أن بنوا القبر، فأمر المتوكل بهدم القبر والبيوت معاً كما روت المصادر: حيث أمر المتوكل أن يحرث القبر ويبذر ويسقى موضع قبره وما حواليه, وأن يمنع الناس من إتيانه, وأعطى الديزج من كان يسكن حول القبر مدة ثلاثة أيام لمغادرة المكان بعد أن هدم بيوتهم ومن وجده منهم بعد هذا الموعد سيكون مصيره في (المطبق) وهو سجن المتوكل الشهير الذي لا يخرج منه سوى الأموات.

وكان لهذا العمل الفظيع ردود أفعال شعبية كبيرة واستنكار شديد من قبل المسلمين يقول السيد حسن الصدر (فتألم المسلمون لهدم القبر وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان وهجاه الشعراء) (8) ولكن كل هذه الممارسات البشعة التي مارسها المتوكل لم تمنع الشيعة من بناء القبر مجدداً والسكن حوله والمجيء لزيارته فسرعان ما بُني مرة أخرى وكثر تردد الناس إليه...

التهديم الثالث

في عام (237هـ) أعيدت الكرة مرة أخرى عندما وصلت إلى المتوكل أخبار الجواسيس بأن أهل العراق يجتمعون عند قبر الحسين لإداء الزيارة وهم يتوافدون بكثرة: (فأمر بهدم قبر الحسين, وهدم ما حوله من الدور, وأن يعمل مزارع, ومنع الناس من زيارته) كما روى السبكي (9) والقرماني (10)

وتذكر المصادر أن حالة التذمر والسخط والغضب الشعبي المكتوم من هدم القبر انفجرت هذه المرة بوجه السلطة وأخذت حالة المقاومة، وصار الناس يلعنون المتوكل جهاراً ووصل بهم الأمر إلى التحدي والمواجهة في سبيل الدفاع عن القبر والذود عنه بأرواحهم، حيث يروي الطوسي والسيد محسن الأمين ما نصه: (بلغ المتوكل جعفر بن المعتصم إن أهل السواد يجتمعون بأرض نينوى لزيارة قبر الحسين فيصير إلى قبره منهم خلق كثير فأنفذ قائداً من قواده وضم إليه كثفا ــ أي جماعة ــ من الجند كثيراً ليشعث قبر الحسين ويمنع الناس من زيارته والاجتماع إلى قبره، فخرج القائد إلى الطف وعمل بما أمر وذلك في سنة (237هـ)، فثار أهل السواد به واجتمعوا عليه وقالوا لو قتلنا عن آخرنا لما أمسك من بقي منا عن زيارته، ورأوا من الدلائل ما حملهم على ما صنعوا فكتب القائد بالأمر إلى المتوكل فأمر المتوكل بالكف عنهم والمسير إلى الكوفة مظهرا إن مسيره إليها في مصالح أهلها والانكفاء إلى المصر ــ أي الرجوع من الكوفة إلى بغداد ــ فمضى الأمر على ذلك حتى كانت سنة سبع وأربعين ومائتين).. (11) (12)

ويعتقد السيد عبد الجواد الكليدار إن هذا الضغط الشعبي المؤثر كان بعد عملية التهديم في نفس السنة ــ أي 237 ــ حيث يقول: (ويظهر من هذه الرواية كما ظهر من رواية كل من السبكي والقرماني إن القائد نفذ أمر المتوكل في هدم قبر الحسين في سنة (237هـ) الأمر الذي يدل على إعادة تشييد البناء على القبر مرة أخرى من بعد هدمه في سنة (236هـ) السابقة..)

ويطرح الكليدار أدلة منطقية على قوله هذا حيث يثير تساؤلاً ويجيب عليه بالحقائق التاريخية فيقول: (ولكن من الذي أعاد البناء فوراً في تلك المدة القصيرة ؟

لا بد وأن أهل السواد والأهلين هم الذين قاموا بهذا العمل بالرغم من تشديدات المتوكل، ويظهر ذلك من نص الرواية نفسها بأن الناس بالرغم من التشديد والاضطهاد كانوا يتهافتون على قبر الحسين (فيصير إلى قبره منهم خلق كثير) فما كان هؤلاء يزورون أرضاً خالية وإنما كانوا يزورون بالطبع قبراً مشيداً كان قد أعيد بناؤه في هذه الفترة) (13)

وبعد هذا التهديم أعيد بناء القبر الشريف مباشرة وبقي البناء شاخصاً للزائرين لمدة عشر سنوات...

التهديم الرابع

في عام (247هـ) هدم المتوكل قبر الحسين للمرة الرابعة وهي السنة التي قتل فيها المتوكل وجاء تفصيل هذا الهدم في كثير من المصادر يقول الميرزا محمّد تقي سِپِهْر، المعروف بـ (لسان المُلْك) ما نصه: (بلغ المتوكل مرة أخرى أن الناس من مختلف الطوائف والأقطار يتوافدون إلى أرض نينوى فصارت لهم مطافاً كبيت الله الحرام وأسسوا لهم أسواقاً عظيمة بالقرب من القبر المطهر فأثار ذلك غضبه فأرسل جيشاً إلى كربلاء لهدم القبر ومخره وحرثه وقتل من يجدون به من آل أبي طالب وشيعتهم, ولكن الله دفع شره فقتل على يد ابنه المنتصر) (14)

ونجد في مصادر أخرى أن في هذه السنة ــ أي (247هـ) ــ أن قبر الحسين كان مهدوماً وأن السلطة العباسية منعت الناس من زيارته كما أشار إلى ذلك الطوسي الذي روى عن عبد الله بن أبي رابية الطوري قوله: (حججت سنة (247) فلما صدرت من الحج صرت إلى العراق فزرت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب على حال خيفة من السلطان ثم توجهت إلى زيارة قبر الحسين فإذا هو قد حرث أرضه ومخر فيها الماء وأرسلت الثيران العوامل في الأرض.... فلما قدمت بغداد سمعت الضجة فقلت ما الخبر ؟ فقالوا قتل المتوكل). (15)

ويعلق السيد عبد الجواد الكليدار على ذلك بالقول: (فاستحل ابنه المنتصر دمه فاتفق مع القواد الأتراك على قتله فقتلوه تواً بعد الهدم الأخير في ليلة الأربعاء من شوال سنة (247هـ). (16)

ويؤيد هذا الرأي أبو الفرج الأصفهاني حيث يروي نفس أجواء الخوف هذه عن محمد بن الحسين الأشناني حيث يقول: (بعد عهدي بالزيارة في تلك الأيام خوفاً ثم عملت على المخاطرة بنفسي فيها، وساعدني رجل من العطارين على ذلك فخرجنا زائرين نكمن بالنهار ونسير بالليل حتى أتينا نواحي الغاضرية، وخرجنا منها نصف الليل، فسرنا بين مسلحتين وقد ناموا حتى أتينا القبر فخفى علينا فجعلنا نتسمته ونتحرى جهته حتى أتيناه وقد قلع الصندوق الذي كان حواليه وأحرق وأجرى الماء عليه فانخسف موضع اللبن وصار كالخندق فزرناه وأكببنا عليه....) (17)

ويلاحظ من ذلك أن المتوكل هدم قبر الحسين أربع مرات كما يلاحظ أيضاً أن القبر كان يُبنى مباشرة بعد هدمه من خلال التواريخ وسط أجواء مرعبة وكانوا يعرضون أنفسهم للأخطار في سبيل ذلك وإن الناس لم ينقطعوا أبدا عن زيارته رغم الظروف القاسية وقد ذكر الكليدار الأشخاص الذين قاموا بهدم القبر في المرات الأربع من حكم المتوكل وهم:

في المرة الأولى عام (233) إبراهيم الديزج عن مقاتل الطالبيين لأبي الفرج (203ــ204)

في المرة الثانية عام (236) الديزج أيضاً عن مروج الذهب للمسعودي (ج2ص401ــ402)

في المرة الثالثة عام (237) عمر بن فرج الرخجي عن أمالي الطوسي (ص207) والبحار (ج10ص297)   

في المرة الرابعة عام (247) الديزج مع هارون المغربي وقد قاما بهدم القبر تحت إشراف ومراقبة القاضي جعفر بن محمد بن عمار قاضي الكوفة عن أمالي الطوسي (207ــ208) والبحار (ج10ص296) والمناقب (ج2ص190) وناسخ التواريخ (ج6ص437).

تكرر اسم الديزج اليهودي في ثلاث عمليات للهدم وأشهرها كما ذكرتها جميع المصادر هي الثانية ويبدو أن أغلب قواد المتوكل كانوا يتحاشون هذا الفعل القبيح سواه حتى اشتهر به كما في قصيدة ابن الرومي التي يقول فيها:

ولـم تـقـنـعـوا حـتـى اسـتـثـارت قـبـورَهـم  ***  كـلابُـكـم مـنـهـا بـهـيـمٌ وديـزجُ

وروى ابن خلكان: إن الشاعر البسامي (علي بن محمد البغدادي) قال لما هدم المتوكل قبر الحسين عام (247):

تـالله إن كـانـت أمـــــــــــــيـةُ قـد أتَـتْ  ***  قـتـلَ ابـن بـنـت نـبـيِّـهَـا مـظـلـومَـا

فـلـقـد أتــــــــــــــاهُ بـنـو أبـيـه بـمـثـلـه  ***  هــذا لـعـمـري قـبـرُه مـهـدومــــــا

أسـفـوا عـلـى أن لا يـكـونـوا شـاركـوا  ***  فـي قـتـلـهِ فَـتَـتَّـبـعُـوهُ رمـيــــــــمـا 

وما إن تولى المنتصر الخلافة بعد أبيه المتوكل عام (247) حتى بنى القبر وبقي بناء المنتصر هذا حتى عام (283هـ)..

.....................................................................

1ــ مقاتل الطالبيين ص (203 ــ 204)

2ــ تاريخ كربلاء ص (180)

3ــ تاريخ الطبري في حوادث سنة 236

4ــ الكامل في التاريخ / ج 7 ص 36 ــ 37

5ــ مروج الذهب ج 2 ص 401 ــ 402

6ــ وفيات الأعيان ج1 ص455

7ــ تاريخ كربلاء (ص183)

8ــ نزهة أهل الحرمين ص (18) نقلا عن الأستاذ محمد شاكر أحمد المصري في كتابه فوات الوفيات

9ــ طبقات الشافعية ج 1 ص 216

10ــ أخبار الدول في حوادث السنة 237

11ــ الأمالي ص 209

12ــ أعيان الشيعة ج 4 ص 287

13ــ تاريخ كربلاء ص 187

14ــ ناسخ التواريخ ج 6 ص 438

15ــ الأمالي ج 2 ص 209

16ــ تاريخ كربلاء ص 189

17ــ مقاتل الطالبيين ص 204

18ــ وفيات الأعيان ج 3 ص 365

كاتب : محمد طاهر الصفار