المرجعية العليا: استقرار العراق مرهون بـ(لا تظلمون ولا تظلمون)

لطالما كانت الغريزة الاجتماعية سمة من سمات الانسان، منذ بدء الخليقة وحتى عصرنا الحاضر، ويؤكد المختصون في علوم الانثروبولوجيا على ان ظاهرة التكوين البشري ما كانت لتتطور لولا هذه الغريزة الفطرية، فالإنسان بشكل قاطع غالب لم ولن يكون قادرا على العيش منعزلا، وما كان لهذه السلالة الناطقة ان تستمر الى يومنا الحاضر لولا دافعها المتمثل بالعيش على شكل تكتلات بشرية في مختلف إنحاء المعمورة.

إلا ان هذه الغريزة بطبيعة الحال والمتغيرات البيئية والاقتصادية المحيطة بالفرد والمجتمع، لم تكن قادرة عن كبح جماح التنوع والاختلاف في اللون والحجم والملامح والفكر والثقافة وسبل العيش المختلفة التي سلكتها كل أمة استقلت بمرور الزمن بنفسها، فكان الاضطرابات الاجتماعية المصاحبة لتطور الانسان دالة ايجابية في اغلب الأحوال، وسلبية في بعضها بسبب عوامل جانبية لم يكن الاختلاف المحور الأساسي في أصل هذه الاضطرابات، بل حسابات اقتصادية في معظم الأحوال، كالصراع على الثروات او الأرض او مصادر الطاقة المختلفة العناوين.

فالحروب الدولية والأهلية بين الأمم او في داخلها، لم تكن العوامل التكوينية او الاجتماعية البحتة، كالعرق او الفكر او الثقافة المحرك الرئيس لاشتعالها، على الرغم من توظيفها بعض الأحيان بصورة عنصرية لتأجيج الفتن والصراعات، بل كانت العوامل الاقتصادية هي جوهر كل صراع او حرب وجدت على كوكب الأرض منذ فجر التاريخ.

وهنا تتوقف المرجعية الدينية العليا المتمثلة بالسيد السيستاني لتتدارك حجم الأزمة العراقية التي وظفت وقوعها العديد من العوامل الاجتماعية لديمومتها، وإبقاء هذا البلد في عنق الزجاجة بشكل مستمر، لتمرير أجندات سياسية مختلفة تعود بالفائدة على من يؤجج الفتن، ووبالا وخسران على الشعب العراقي منذ عام 2003 وحتى ألان.

اذ يركز الشيخ عبد المهدي الكربلائي نقلا عن السيد السيستاني على ضرورة التمييز بين الاختلاف كظاهرة اجتماعية يستوجب التعايش في كنفها بسلمية وأمان، وبين الصراعات السياسية والاقتصادية التي تطرأ بين الفينة والأخرى وسط المجتمع الواحد او المجتمعات المختلفة.

فيقول الشيخ الكربلائي، "ان مسألة الاختلاف بين الأديان في منظوماتها الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية وغيرها تفرض مجموعة من التحديات خصوصاً في ظل تعايش أتباع هذه الديانات في وطن واحد او أوطان متجاورة او بينهما علاقات متعددة، وهذه التحديات تتجاوز النطاق الديني والثقافي وتشمل مجالات الحياة المهمة المتعددة".

ويضيف، "ومن اجل تجاوز هذه التحديات بما يحقق المصالح المطلوبة للجميع فقد كان للإسلام موقف واضح يعكس إرادة الشرع في التعامل العادل مع أتباع الأديان والثقافات المختلفة يتلخص في ضرورة التعايش السلمي بين الجميع على أساس قاعدة (لا تُظلمون ولا تَظلمون) وهذه القواعد المشتركة والمصالح المتبادلة وملاحظة مصلحة البلد والشعب والعمل على أساسها".

ويلفت الشيخ الكربلائي الى ان الدين الاسلامي وضع حجر الأساس لهذا المفهوم، فيقول، "أكدت المصادر الإسلامية على ان التعايش السلمي المبني على رعاية الحقوق وأداء الواجبات هو التجسيد لمبدأ العدالة في الدين الاسلامي".

وتستند المرجعية العليا في إسناد رؤيتها الى الآية القرآنية الكريمة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً). (1) سورة النساء.

وتحذر المرجعية من خطورة تجاوز هذا المفهوم قبل ان ترهن الاستقرار في العراق خاصة والشعوب المجاورة عامة بأسلوب التعايش السلمي، معللة وقوع الملاحم والفتن بين المجتمعات بطبيعة سبل التعايش بينها، فيقول الكربلائي، "إذا لم نحسن التعايش بين أتباع هذه الديانات سيقود الى الكثير من المخاطر في مجالات الحياة المختلفة كما قد يتصور بعض الناس ان هذا الاختلاف بين أتباع الديانات إنما مخاطره وتحدياته ومشاكله في الجانب الثقافي والعقائدي فقط.. (لا).. إذا لم نحسن التعايش الاجتماعي والثقافي أيضا فانه ستتولد مخاطر ومشاكل أمنية واجتماعية وغير ذلك".

وتشدد المرجعية على ضرورة التعارف بين الشعوب، معتبرة ذلك "عهد للتفاهم والتعاون والتعايش والقبول بالاختلاف مع الآخرين ورفض القهر والإكراه فيما يتعلق بالدين والمعتقد".

مؤكدة على، ان "الإسلام يكرس متطلبات ودعائم التعايش مثل القسط والعدل والإنصاف والصفح والعفو وإحقاق الحق ونفي الظلم والاعتداء وغيرها".

فتحث المرجعية بشكل خاص العراقيين على التفريق بين "كون الأخر في عقيدته ودينه على حق صحيح او لا، وبين حقه في الوجود والعيش بسلام مع الآخرين".

فالحق الإنساني بالعيش الكريم لم ولن يرتهن وفق التعاليم الإسلامية بطبيعة الدين او المذهب او الاثنية الخاصة بالأفراد داخل المجتمعات الإسلامية، وهذه المبادئ الإنسانية والإسلامية أمس ما بات العراق بحاجة إليها، خصوصا مع تفاقم أسباب النزاعات والإشكاليات التي تسهم في زعزعة الامن الاجتماعي.

ويختتم الشيخ الكربلائي، "نحن في العراق الآن في ظل وجود أسباب عديدة للنزاع والصراع والاحتقان والتناحر.. أحوج الى تطبيق هذه المبادئ والأسس ".

محمد حميد الصواف

ومضات من فكر المرجعية العليا

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات