تباينت نظرة الكتاب حول المستشرقين كثيراً, فبعضهم نظر إليهم نظرة ابتعدت عن المفهوم العلمي للاستشراق وأخذت جانباً ايديولوجياً معادياً, أما البعض الآخر فقد عكس هذه النظرة تماماً, فنزّه دراساتهم من النقص والخلل, وهناك نظرة أخذت دور الوسيط وهي أقرب هذه النظرات إلى الحقيقة, فقد وضع أصحاب هذه النظرة أعمال المستشرقين تحت المجهر ونظروا إليها نظرة علمية رصينة جادة فاتضح لهم الغث من السمين.
وخلاصة القول أن المستشرقين طرقوا كل ناحية من نواحي ثقافتنا, وعالجوا كل أمر ذي شأن متّبعين في دراستهم البحث المنهجي المنظم, يقول الدكتور يوسف أسعد داغر: (أما فضل الاستشراق فيقوم في الخدمات الجليلة التي أداها للمدنيات الشرقية عامة وللثقافة العربية خاصة)، (1) وهذه النظرة الفاحصة تبدو جلية في أعمال أغلب المستشرقين الذين لم يتركوا شيئاً إلا ونظروا فيه محاولين أن يكونوا منصفين بقدر ما يمكن للإنسان أن يكون منصفاً.
ولعل توثيقهم للحضارة المدنية كان كفيلاً بصون هذا التراث من الضياع, فاهتموا بتطوّر المجتمع التمدّني وما رافقه من أحداث على الأصعدة السياسية والاجتماعية والاقتصادية, فتميزت دراساتهم حول المدن بالدقة والإلمام باليوميات, والأمانة في النقل, بحيث يسهل على الباحث في تراث المدن الرجوع إليها.
ونرى في رحلة نيبور (2) (3) الذي زار كربلاء بعد رحلة طويلة إلى الأقطار العربية مادة خصبة, وصور تاريخية مهمة عن هذه المدينة, حيث تعد رحلته من أقدم الرحلات إلى كربلاء بعد رحلة المستشرق البرتغالي بيدرو تكسيرا الذي زار كربلاء عام (1604م).
زار المستشرق الألماني كارستن نيبور (1733ــــ1815م) كربلاء في أواخر عام (1765م), ضمن رحلة إلى الشرق ابتدأت عام (1761م) مع بعثة أوفده على رأسها الملك فريدريك الخامس ملك الدنمارك إلى الشرق الأوسط وشبه الجزيرة العربية بشكل خاص لدراسة أحوالها الاجتماعية والجغرافية والتاريخية, كون نيبور كان مختصاً بعلم الفلك والجغرافية واللغات الشرقية, فبدأ رحلته بمصر ثم الحجاز واليمن وحضرموت وعمان حتى وصل إلى ميناء بومبي.
وجاء إلى العراق عن طريق الخليج فوصل البصرة في خريف سنة (1765م) على أمل أن يتوجّه منها إلى حلب عن طريق بغداد فسلك طريق الفرات النهري, وبعد أن مر بالقرنة والمنصورية والعرجة والسماوة ولملوم والمياحية وصل إلى النجف التي كان يسميها (مشهد علي) مع بعض الناس (الفقراء) كان قد استصحبهم من البصرة.
ثم توجه إلى كربلاء أو (مشهد الحسين) كما يسميها من الحلة عن طريق الطهمازية لأنه يذكر ذلك بالذات فيقول: (إنها كانت قرية كبيرة محاطة بالكثير من النخيل والبساتين) واستغرقت رحلته من الحلة إلى كربلاء حوالي سبع ساعات على ظهور الدواب فوصل كربلاء في (27/12/1765م).
لاحظ نيبور في رحلته بين النجف (مشهد علي) وكربلاء (مشهد الحسين) إن كربلاء كانت أكثر من النجف من حيث عدد النخيل وازدياد السكان لكنه يقول إن بيوتها لم تكن متينة لأنها كانت تبنى باللبن غير المشوي, وكانت كربلاء وفق ما جاء في رحلة نيبور في ذلك الوقت محاطة بأسوار من اللبن المجفف بالشمس أيضاً كما كانت في هذه الأسوار خمسة أبواب لكنه وجدها متهدمة كلها.
وفيما يخص الروضة الحسينية المطهرة فقد وصفها نيبور من خلال دخوله إليها في إحدى الليالي لفترة وجيزة بصحبة دليله (الملا البغدادي) الذي كان يرافقه بعد أن لبس عمامة تركية تنكر فيها, وفيما يبدو من خلال وصفه للحالة التي كانت عليها الروضة الحسينية المطهرة من الحركة أنه زارها في إحدى الزيارات المهمة لأنه يقول إن أطراف الحضرة والصحن كانت مضاءة كلها, وكان لها بذلك منظر فريد في بابه نظراً للشبابيك الكثيرة التي كانت موجودة فيها, وهي حالة نادرة في تلك الفترة التي كان موجوداً فيها حيث كانت المدينة تفتقر إلى النوافذ المزججة.
وفي وصفه للحضرة المطهرة يقول نيبور إنها كانت وسط ساحة كبيرة تحيط بها من أطرافها الأربعة مساكن العلماء والسادة (وهذه الساحة التي يقصدها نيبور هي الصحن الشريف).
ويذكر نيبور إنه كان يوجد عند الباب شمعدان نحاسي ضخم يحمل عدداً من الشموع على غرار ما كان موجوداً في ضريح الإمام علي, لكنه يقول إنه لم يلاحظ وجود الكثير من الذهب في الروضة الحسينية المطهرة قياساً بضريح الإمام علي عليه السلام.
أما في الحضرة المطهرة للعباس (عليه السلام) فيذكر نيبور: إنه قد شيّد له جامع كبير تقديراً لبطولته التي أبداها في يوم الطف وتضحيته بنفسه من أجل أخيه (ويقصد بالجامع الروضة العباسية المقدسة) ثم يروي قصة العباس وقطع يديه حينما ذهب ليأتي بالماء.
ثم يصف وصفاً دقيقاً موقع المخيم (الخيمگاه) في ذلك الوقت بقوله (إن هذا الموقع قد أصبح حديقة غنّاء واسعة الأرجاء وتقع في نهاية البلدة وتشاهد فيه بركة كبيرة من الماء وموقع هذه البركة هو نفس الموقع الذي كان الإمام العباس قد حفر فيه لإيجاد الماء فلم يعثر على شيء منه).
وواضح أنه قد استقى هذه المعلومة من الناس المتواجدين هناك وليس من مصدر معتمد والظاهر أيضا أنها كانت بركة كبيرة ومهمة للمدينة حيث يروي نيبور أن الناس هناك كانوا يعتقدون بأن ظهور الماء في البركة بعد ذلك يعتبر من المعجزات, وهذه البركة الكبيرة التي أشار إليها نيبور هي نفس الموقع الذي أشار إليه تكسيرا عندما زار كربلاء قبل نيبور بمائة وستين سنة ــ 1604م ــ وذكرها في رحلته.
كما يشير نيبور إلى اعتقاد ساد بعض الناس في أن القاسم بن الحسن وبعض الشهداء قد دفنوا في موقع المخيم تحت قبة صغيرة كانت فيه, ورغم أن نيبور كان مختصا بدراسة الشرق إلا أنه وقع في الالتباس فهذا المكان الذي رآه هو مكان خيمة القاسم وهو المكان الذي كان فيه قبل أن يستشهد أما مكان دفنه فهو بالتأكيد مع شهداء أهل البيت داخل ضريح الامام الحسين, ومما يؤكد أن نيبور كان يستقي معلوماته ممن يجده في المكان الذي يذهب إليه إنه سرد قصة عرس القاسم كما سمعها من بعض الناس, غير أن ما يهمنا هنا مشاهداته والحالات الاجتماعية والسياسية في كربلاء والأعراف السائدة آنذاك.
فقد ذكر نيبور إن الحالة الأمنية في كربلاء تكاد تكون شبه معدومة فقال: إنه شاهد أثناء إقامته في كربلاء أناساً كانوا قد عادوا من متابعة سفرهم منها بعد أن نهبتهم الحكومة (العثمانية) التي كان المفترض أن تحافظ على الأمن وحماية الناس, كما رأى أناساً غيرهم وقع لهم ذلك من قبل الأعراب الذين سلبوهم جميع ما يمتلكون
ويسرد نيبور بالتفصيل الأوضاع السياسية والأمنية المزرية في ذلك الوقت فيقول: إن كربلاء كان يوجد فيها عدد كبير من الإنكشاريين (الأتراك) الذين كانوا يعتدون على الأهالي والزوار الإيرانيين على الأخص.. ولذلك كان وضعهم هذا يستوجب التحفظ والاحتراز بالنسبة للسائح وغيره لا سيما إذا كان من الشيعة. وكاد نيبور نفسه أن يتعرّض للاعتداء من قبل هؤلاء عندما ظنوا أنه زائراً أرمنياً لكنهم تركوه عندما عرفوا أنه رجلاً أوربياً.. كما يقول
ومن ملاحظات نيبور في كربلاء هو كثرة طيور الحمام في الروضتين ويستغرب من عدم تحرّش الناس بها, ووجود (الترب), والمسبحات المصنوعة من طين كربلاء, وصور الأضرحة المطهرة, والبراق, والكعبة الشريفة, والحرم النبوي الشريف, وسيف الإمام علي (ذو الفقار), وصور بطولات الإمام علي وما شابه ذلك.
أما عن صناعة (الترب) في ذلك الوقت فيقول إنها كانت تصنع في معمل خاص يعود لأسرة من سادات كربلاء, وهي التي تحتكر هذا العمل لنفسها وكانت هذه الأسرة تدفع مبلغاً كبيراً من المال كل سنة إلى والي بغداد لقاء هذا الامتياز, وقد طلب نيبور من صاحبه (الملا البغدادي) أن يشتري له عدداً من الترب بأحجامها وأشكالها المختلفة فرسمها ونشر صورها في رحلته المطبوعة باللغة بالألمانية, ويقول عنها إنها كانت مصبوبة بأشكال جميلة, كما اشترى ورقة ملفوفة تبلغ ستة أقدام وعرضها ثمان بوصات مرسوم عليها صورة الكعبة الشريفة, والحرم النبوي الشريف, وأضرحة الأئمة الأطهار, وغيرها من الصور, وكانت كلها ملوّنة ومذهّبة وتكاد تكون بدائية كما يقول.
كان نيبور دقيقاً في توثيق كل ما يراه حريصاً على أن لا يفوته شئ حتى أنه كان يحصي الساعات بين مدينة وأخرى.., خرج نيبور من كربلاء إلى الحلة ليتابع السفر منها إلى بغداد مع قافلة يبلغ عدد أفرادها مئتي زائر تقريباً وفي جعبته هذه الذكريات.
محمد طاهر الصفار
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
..........................................................................
1ــ مصادر الدراسة الأدبية (ج2 ص779).
2ــ Voyage en Arabie et en d,autre bays ــ Carsten Neibuhr
( Amesterdam 1776 ) Circonvoisins
3ــ السفر إلى الدول العربية ودول أخرى مجاورة لها ــ طبعة أمستردام (1776)
اترك تعليق