الريحُ ترفعُ خَصَلاتِ رمالِها, لتنثرَ أديمَ العشقِ السرمديّ, والشمسُ التي تعرفُ وجهَها أكثرُ من السماءِ تشاطرُها الذكرى الدامية, فالدمعَة الصمَّاءُ هي تذكِرةُ المُرورِ إلى طقوسِ الجُرحِ فِي جَسَدِ المدينة, تُسكبُ في الضرِيح . .
وأدتِ الليلَ بأنفاسِها، وانتفضتْ كالعنقاءِ وهيَ ترفعُ رايةً حمراءَ نسجَها متحف الطفِّ ولوّنها بألوان الظمأ والوفاء والإيثار, فالمدنُ التي تنكّرتْ لها هيَ الآنَ كأراملٍ عجائز أضناهنَّ أولادهنَّ العاقون..
أمّا هيَ فقد نأتْ عن غفلتِهن لتوقدَ تراتيلَ السماء..
كربلاء.. المدينة التي لا يشلُّ حركتَها الظلامْ, ولا يستولي عليها الأرقُ, كربلاء المكان الذي لن يشيخ بعد أن التحمَ مع الزمانِ والرمزِ لتشكيلِ لوحة اللهِ في أرضهِ .. الطف.. عاشوراء.. و.. الحسين.. المشهدُ الذي يتكرَّرُ كلُّ عامٍ على مسرحِ الذّكرى..
عاشوراء.. البرقُ الخاطفُ الذي ينطلقُ من عمق التأريخِ ودويُّ الرعدِ يقصفُ الأرضَ ثم... يتساقط المطرُ... دماً !! الأرضُ تموجُ وتضطرب! وتتناهى إلى الأسماعِ أصواتُ السنابكِ وهي تدبُّ من بعيد وتلوحُ الخيول وهي تتقدَّم كالسهام وتبرزُ الرماحُ المشرَعة وما فوقُها من رؤوسٍ مقطوعة..!!
وهناك.. حيث يقعي الليلُ مكبّلا بالجراحِ, رثّ الثيابِ وهو يصغي إلى ترانيم الأرامل والثكالى وصراخ الأطفال وهم مقيّدون بالأغلال على تخوم كربلاء في طريقهم إلى الكوفة.. وقد أرخى سدوله، تتابع المدينة سيرهم ببطئ شديد فيطرق سمعها صوت الأغلال وصراخ الأطفال من عمق الزمن في لحظات تراجيدية مأساوية لا يمكن أن توصف وهي تذرف دمعها وتطلق زفرتها وتراقبهم وقد أسقط عليهم القمر المنير خشوعاً وكأنه يستقبلهم فيختفون وسط هالته..... هذه هي النهاية البداية... أو البداية التي لا انتهاء لها, تتجدَّد كل عام, هو المشهد الذي يحملُ الماضي الحيّ الذي يزوِّد المدينة بالحياة.
إنها كربلاء, بقبابها الذهبية ومنائرها السامقة أول ما يرى زائر المدينة هذا المشهد الصامت الناطق الذي يتجلى به سمو المعنى.., وجذوة التاريخ.., كربلاء بصبغة الحزن الإنساني العميق تكسب الحياة وجهاً إنسانياً نبيلاً ساطعاً, يمتدّ من الأزل إلى الأزل من عاشوراء إلى الحزن الأبدي الذي تتوارثه الأجيال فتذهب هي ويبقى, ليتدفق في الضمائر والقلوب, ويتجدَّد مع الأيام والأعوام...
الحسين.. وقف وحده مع قلة قليلة ليموت هو ومن معه, ليعلم الناس كيف تعيش وكيف تموت..، في زمن طغى الظلم وساد الإرهاب كان لابد من صوت يوقظ هذه الضمائر التي أوشكت أن تموت، لا بد من يد تقوّم الأود والاعوجاج، لا بد من رجل يوقف هذه المهزلة ويرجع الأمة إلى جادة الصواب، لا بد من ثورة... فكانت ..
لقد ارتقت هذه الثورة على مستوى الواقعية والرومانتيكية, كونها أحدثت تغييراً جذرياً في مسار الأمة, وأعادت إليها كرامتها المهدورة, فالثورة في ذلك الوقت الذي طغى فيه الإرهاب وأخرس السيف الألسن تعني الموت بلا شك, والحسين كان أكثر الناس وعياً بتلك المرحلة فقدّم نفسه فدية متوهجة بالدم.
لقد خرج الحسين ثائراً، ولم يكن لثورته معنى سوى الشهادة، فبالشهادة وحدها يبقى الإسلام.. فارتبط الإسلام بالحسين بمعنى وثيق لا ينفصم أبداً, وارتبط الحسين بالإسلام.. فكان معناه.
محمد طاهر الصفار
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق