اثيرية الحروف ..

دفعت الحروف المدونة في اوائل السور القرآنية كثير من الفنانين الشرق والغرب للبحث في مغاليق اسرارها و بشكل جدي ، لمعرفة أهميتها ودلالاتها وقدسيتها .. وايضا ما انطوت عليه من وجدان وفيض ومرجعية تاريخية حضارية على صعيد الافكار و المراحل التي مرت بها تلك الافكار .. لتجسد في المحصلة الاخيرة موضوعات ابداعية مختلفة في اللوحات الفنية المعاصرة بشكل عام ولوحات الفنان العربي بشكل خاص لما مثلته تجربته من مثار جدل ، لبعدها التنظيري والتطبيقي ، حيث شكلت الحروف المدونة في لوحات الفنان العربي المسلم نقاط ارتكاز على شكل كلمات أو حروف أو رموز أو اشارات تمويه ، اصبحت محوراً اساسياً في سياق التجارب الحروفية التشكيلية العربية الرائعة .

عمد الفنان عبد الله الى رسم الحرف العربي متأثرا بأسلوب مدرسة "البعد الواحد العراقية" التي أسسها الفنان العراقي الرائد شاكر حسن آل سعيد ، والتي اشتهرت بإدخال جماليات الحرف العربي كوسيلة بصرية لأثراء اللوحة التشكيلية بعمق موروث تراثي عقائدي عميق ، من خلال تكريم الله تعالى اللغة العربية بأنزال القرآن الكريم بها ، فضلا عما تزخر به اللغة العربية من حمولات شعرية ، وما يمتلكه الخط العربي من جماليات بصرية وتجليات أستمد منها الكثير من الفنانين افكارا لبعض موضوعاتهم الفنية الأثيرية.

هذا التكوين الفني الابداعي من منجزات الفنان المغربي عبد الله الحريري ، وهو من مواليد الدار البيضاء في المغرب  1949 م، نشأ وترعرع بأحد احياءها الشعبية المتواضعة المكتظة بالسكان من طبقات اجتماعية مختلفة ومتناقضة ، ويبدو انه قد افلح بدمج حياته الروحية مع ما اكتسبه من خبرات وثقافات عبر مسيرته في مجال الفن التشكيلي ببراعة.

اللوحة عبارة عن سطح مستو يحتوي على مجموعة من الحروف المرسومة برشاقة في الأداء التقني ، حيث تظهر الحروف وهي اكثر تجرداً واعظم صفاء ، محاولاً اثراء احساسنا البصري والجمالي بالملمس من خلال التقنية الأدائية المستخدمة من خلال دقة وحرفية استخدام الالوان الحارة اضافة الى استخدامه الالوان الباردة التي توحي بالهدوء والسكينة التي تحتويها هذه الحروف .

فحرف الراء والواو والهاء وحركات تشديد الحروف  والضم والفتح وغيرها من الحروف المائية الرطب البارد والاخرى النارية الحارة جعلها الفنان تنساب من اقصى يسار اللوحة الى وسطها  ، وهي ومحاطاً بسحنه صفراء ترابية يشوبها بعض من الاحمر والازرق موحداً اياها من خلال الايقاع اللوني الساكن المحيط بإشراقة صفراء من الجانب الايمن العلوي للوحة ..

حيث يمثل بها الفنان الكون والبداية لكل شيء في الحياة في الوجود وفي الحرف ايضاً محاولاً اللعب بالحرف من خلال العبثية المستخدمة في ذلك ومن خلال عملية الكتابة للحروف بطريقة متغيرة الاحجام والاشكال بغية أذكاء الطابع الروحي والرمزي في اللوحة بوصفها خطاباً ترميزياً يتطلب جهداً لتفكيك رسالتها وتسلمها .

اما على الصعيد التقني فنجد ان الحريري استخدم التقنية نفسها السكين والزيت الكثيف ، ونشاهد في هذا العمل تحقيق الفنان للوجود الانساني والكوني معاً من خلال جمع عناصر الوجود الاربعة المتمثلة بالهواء و الماء و النار و التراب  من خلال الدلالات الصوفية الكامنة في الحرف المستخدمة في اللوحة ، مبتعداً بذلك عن التشخيص والتجسيم في عمله مكوناً سطحاً ناعماً أملس جاعلاً له فضاءاً مفتوحاً من خلال الخلفية القريبة بلونها الفاتح .

 

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة