أسد الأسود

من يتتبع مواقف أصحاب الحسين (رضوان الله عليهم) في يوم كربلاء تتولد لديه قناعة مطلقة بأن هؤلاء الأبطال العظماء لم ولن يلد الزمن بأمثالهم أبدا فلا تجد لإخلاصهم ووفائهم وثباتهم نظيراً في التاريخ البشري، ويدل على ذلك قول الإمام الحسين فيهم: (والله لقد بلوتهم فما وجدت فيهم إلا الأشوس الأقعس يستأنسون بالمنية دوني استئناس الطفل بمحالب أمه).

لقد أرخصوا أرواحهم ولم يكترثوا للدنيا كلها بما فيها.. ضحوا بأموالهم وأولادهم وأرواحهم بل كانوا مستبشرين ومتفانين لما سيلاقوه من الكرامة الأبدية, ونجد ذلك متجسدا بأروع تجسيد في أقوالهم وأفعالهم, لقد محص سيد الشهداء أصحابه الأوفياء وبلاهم واصطفاهم فكانوا هم الذين اختارهم الله لهذه التضحية ليكونوا قرابيناً متوهّجة بالدم لوجهه تعالى، فتبلورت في هذه النخبة النادرة كل قيم الثورة ومبادئها.

من هذه النخبة الواعية الشهيد البطل عابس بن أبي شبيب الشاكري الذي أحجم عنه الجيش الأموي كله عندما برز للقتال.

ينتمي عابس إلى بني شاكر وهم بطن من همدان كانوا من المخلصين للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث أبلوا بلاءً عظيماً معه في حروبه حتى قال (عليه السلام) يوم صفين فيهم: (لو تمت عدتهم ألفاً لعُبد الله حق عبادته)، وهذه الكلمة على قصرها كانت ذات دلالة واضحة وعميقة على شجاعة بني شاكر وفروسيتهم حيث كانوا من شجعان العرب وحماتهم المعدودين وكانوا يلقبون بـ (فتيان الصباح) وكان عابس من لبّتهم.

كان عابس من رجال الشيعة الكبار اجتمعت فيه خصال نادرة وصفات عظيمة قلما تجتمع عند رجل. كان رئيساً شجاعاً ناسكاً متهجّداً وكان من رجال البيعة للإمام الحسين ومن رجال ثورته العظيمة وكانت فراسته ووعيه ينبئانه بتلك النفوس الخائنة التي انقلبت على مسلم بن عقيل بمجرد دخول ابن زياد واستعماله معها أساليب الترهيب والترغيب فقال لمسلم معرباً عن نيته وولائه الخالص لأهل البيت (عليهم السلام):

(إني لا أخبرك عن الناس ولا أعلم بما في نفوسهم وما أغرك منهم ووالله إني أحدثك عما أنا موطن نفسي عليه والله لأجيبنكم إذا دعوتم ولأقاتلن معكم عدوكم ولأضربن بسيفي دونكم حتى ألقى الله لا أريد بذلك إلا ما عند الله) فلمّح بهذا القول الموجز عن نوايا القوم الدنيئة بالغدر، كما فسّر موقفه الصريح من نصرته للحسين.

أرسله مسلم بن عقيل إلى الحسين بالرسالة التي أخبره فيها ببيعة أهل الكوفة ودعاه إلى القدوم قبل انقلاب أهل الكوفة فسار إلى الحسين مع شوذب مولى بني شاكر الهمداني وانضما إليه وكان شوذب من رجال الشيعة ووجوههم ومن أعظم الثوار إخلاصا وقد جعل داره مألفا للشيعة يتحدثون فيها فضل أهل البيت (عليهم السلام).

لقد انضم هذان البطلان إلى معسكر الحسين ليجدا مكانهما مع الصفوة الخيرة المصطفاة من أصحابه وأهل بيته حتى كان يوم عاشوراء.

ليس من الغريب على عابس وشوذب وغيرهم من أصحاب الحسين الشهداء الإستهانة بالموت والتهافت على القتال دون الحسين بعد أن آمنوا بقضية الحسين والتي هي قضية السماء وقضية كل الرسالات السماوية.

في ذلك اليوم أقبل عابس على شوذب وقال له ما في نفسك أن تصنع؟ لقد كان عابس واثقا من شوذب وكان يعرف إخلاصه لعقيدته ودينه وولائه للحسين فلماذا سأله؟ أراد أن يستمع إلى كلمات تشدو بحب الحسين وتفيض روحه بهذا الحب وقد سمعها من شوذب عندما قال:

(أقاتل معك دون ابن بنت رسول الله حتى أقتل).

لقد سمع عابس نشيد الحماسة من فم شوذب فقال له:

(ذلك الظن بك فتقدم بين يدي أبي عبد الله حتى يحتسبك كما احتسب غيرك وحتى احتسبك أنا فإن هذا يوم نطلب فيه الأجر بكل ما نقدر عليه فإنه لا عمل بعد اليوم وإنما هو الحساب)

أجل لا عمل بعد اليوم كان شعار عابس وأصحابه وما أروعها من حكمة وما أروعه من عمل وما أروع من عمل به وهل تجدي الأعمال نفعاً لو عمل بها الإنسان طول عمره ولم ينصر الحسين؟ وهل يجدي له عمل إذا لم ينصر رسول الله؟ ولم ينصر دين الله؟ وهل هناك عمل أعظم من هذا العمل عند الله ورسوله؟

إذن العمل كله في هذا اليوم ثم الكرامة الأبدية التي لا انقضاء لها، تقدم شوذب إلى الإمام الحسين وقال: (السلام عليك يا أبا عبد الله ورحمة الله وبركاته استودعك الله فرد الإمام الحسين عليه السلام وجزاه خيراً فتقدم وقاتل حتى قتل (رضوان الله عليه).

وبعد أن قتل شوذب تقدم عابس من الحسين متحسراً ومعتذراً لأنه لا يملك سوى نفسه ليقدمها بين يديه فقال: (يا أبا عبد الله أما والله ما أمسى على ظهر الأرض قريب ولا بعيد أعزّ عليَّ ولا أحب منك ولو قدرت على أن أدفع عنك الضيم والقتل بشيء أعز علي من نفسي ودمي لفعلت السلام عليك يا أبا عبد الله أشهد أني على هداك وهدى أبيك) ومشى إلى الحرب مصلتاً سيفه ولكن هل تقدم أحدهم لقتاله؟ كلا لم يجرأ أحد على ذلك!!

لنترك خبر مبارزته إلى الطبري (محمد بن جرير) ليرويه بنفسه حيث روى في (ج6 ص254) من تاريخه المعروف تاريخ الأمم والملوك: (لما برز عابس قال ربيع بن تميم ــــ وهو مع جيش ابن سعد ــــ فلما رأيته مقبلا: عرفته وقد كنت شاهدته في المغازي فكان أشجع الناس فقلت للقوم: أيها الناس هذا أسد الأسود هذا ابن شبيب لا يخرجن إليه أحد منكم فأخذ ينادي: ألا رجل؟ ألا رجل لرجل؟ فتحاماه الناس لشجاعته فقال لهم عمر بن سعد: ارضخوه بالحجارة فرموه بالحجارة من كل جانب فلما رأى ذلك ألقى درعه ومغفره وشد على الناس فهزمهم بين يديه)!!

هذه رواية الطبري بنصها وقارن بين شجاعة عابس وجبن ابن سعد واتباعه وتستمر الرواية: (فوالله لقد رأيته يطرد أكثر من مائتين من الناس ثم أحاطوا به من كل جانب فقتلوه فرأيت رأسه في أيدي الرجال كل يقول أنا قتلته).

قتل عابس وشهد له التاريخ موقف البطولة والعز والفخر قتل عابس وضحى بنفسه في سبيل مبدئه وإحياء عقيدته ومات شهيد الحق والفضيلة وبلغ بعمل ساعة ما لم يبلغه أحد ولو عمل الدهر كله.

 

محمد طاهر الصفار

: محمد طاهر الصفار