الإمام زين العابدين .. صوت الثورة الحسينية

 

كان من معطيات الثورة الحسينية العظيمة أنها حطمت حاجز الخوف وأزالت حجب الخنوع من النفوس للحاكم الظالم والطغمة الأموية الفاسدة وأوجدت مساحة واسعة للدفاع عن الحقيقة والعدل والمطالبة بالحقوق المغتصبة والدعوة إلى الحرية والوقوف بوجه الظلم والاستعباد, وقد حمل لواء هذه الثورة المعطاء ودعا إلى المبادئ العظيمة التي قام من أجلها الإمام الحسين (ع) في التصدّي للظالمين بعد استشهاده, الأئمة الطاهرون من ولده (عليهم السلام), وقام بأعباء الإمامة بعده ابنه الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع) الذي بث المعاني السامية والمبادئ العظيمة التي سعى أبوه إلى تحقيقها وحرص كل الحرص على ترسيخها في ضمير الأمة ودافع عنها من تحريف السلطة الأموية ومرتزقتها الذين حاولوا تشويه الحقائق وتزييف هذه المبادئ بإشاعاتهم وأكاذيبهم بنسبة قائد الثورة وشهدائها الأبرار إلى (الخوارج) !!!

يقول الدكتور محمود إسماعيل المصري: (إن آل البيت كانوا يمثلون أقوى أحزاب المعارضة لسياسة الحاكمين من حيث تبنيهم لقضية العدالة بالمفهوم الإسلامي كما أكدها الإسلام وكانوا من أبرز دعاته....) (1) ويقول أيضاً: (إن آل البيت كانوا أقدر المسلمين على فهم الإسلام وأكثرهم إخلاصاً لمبادئه, وأشدهم حرصاً على تطبيق تعاليمه، وقد ورثوا مأثرة التفقه في الدين والإحاطة بأصناف العلوم من إمامهم الأول علي بن بي طالب (ع) (2)

لقد حرص الإمام زين العابدين (ع) على ترسيخ مبادئ أبيه سيد الشهداء في النفوس بأبعادها الفكرية والروحية وليس فقط الثورية, فقد دأب على إحيائها رغم الإعلام المضلل الذي مارسته السياسة الأموية, فاستطاع أن يبث الأفكار الثورية والآراء المناهضة للسلطة في القلوب والعقول عبر نصائحه ومواعظه الكثيرة ومنها: (إن أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار).

فانطلق صوت زين العابدين ليدحض هذه الأكاذيب ويؤكد للرأي العام على أن هذه الثورة هي تجسيد للإسلام المحمدي وامتداد لمنهج النبي (ص) في كل المراحل التي مر بها في رحلة الأسر وأول صوت له (ع) كان في الكوفة من خلال خطبته العظيمة التي بين فيها الجريمة النكراء التي ارتكبها الأمويون بقتلهم سبط رسول الله وغدر أهل الكوفة به وفيها من التقريع لهم ما أجج في النفوس مشاعر السخط والغضب على يزيد وكان مما قاله في ذلك اليوم: بأية عين تنظرون إلى رسول الله (ص) إذ يقول لكم: قتلتم عترتي وانتهكتم حرمتي فلستم من أمتي ؟!

كان لهذه الكلمات دوي وضجيج واستفاقة ووجوم وغضب وسخط على السلطة وتأنيب للضمير وتقريع للنفس وجلد للذات: (فارتفعت أصوات الناس من كل ناحية ويقول بعضهم لبعض هلكتم وما تعلمون) !!

ورغم الحالة المأساوية التي كان عليها فقد استأنف حديثه ووعظه لهم.

كما وقف بتلك الشجاعة والصلابة أمام الطاغية ابن زياد وهو أسير فنظر إليه وهو ينكث بالقضيب ثنايا أبيه تشفياً وانتقاماً فلم يمنعه شدة الحزن على التصدّي له والوقوف بوجهه, وقد تعرض (ع) للقتل على يديه ولكن إرادة الله حالت دون ما يريد المجرم ابن زياد، وقد دار حوار بينهما انتهى بأن أمر ابن زياد بأن يضرب عنق الإمام فتعلقت الحوراء زينب بابن أخيها وقالت لابن زياد: (إنك لم تبق منا أحداً فإن كنت عزمت على قتله فاقتلني معه), لكن الإمام السجاد لم يأبه بأمر ابن زياد ولم يخشه في مجلسه, بل وجه إليه كلاماً عرّفه بنفسه الشريفة التي لا تخشى الموت بل تستهين به, فقال له بكل ثبات وجرأة ويقين: (أبالقتل تهددني !!! أما علمت أن القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة). كما وجه رسالة شديدة اللهجة واستنكار للجريمة الفظيعة التي ارتكبها أهل الكوفة فقال:

يا أمة الســـوءِ لا سقياً لربعكمُ   ***   يا أمة لم تـــــــــراعِ جدّنا فينا 

لو أننا ورســــــول الله يجمعنا   ***   يوم القيامــــــةِ ما كنتم تقولونا

تسيــّرونا على الأقتابِ عاريةً   ***   كـــــــــــــأننا لم نشيّد فيكمُ دينا

أليسَ جدي رسول الله ويـــلكُم   ***   أهدى البرية من سبل المضلينا

ولم يمنعه أسره وطول الرحلة الشاقة وهو مثقل بالحديد من أن يقف في مجلس يزيد ويصدع بالحق ويفضح الظالمين بتلك الخطبة المدوية التي زلزلت عروش الأمويين وبقيت اصداؤها تجوب في البلاد وأحدثت انقلاباً فكرياً في أذهان الناس ضد يزيد, وألبت الرأي العام ضده وقد استنكر جريمته البشعة حتى رواد مجلسه وأتباعه فعندما جيء بالإمام أسيراً ومعه سبايا آل محمد أَمر يزيد بمنبر وخطيب ليذكر أمير المؤمنين والحسين بالسوء ويسبهما لكن الخطيب الكافر المنافق أراد أن يحظى بمكانة أكبر عند يزيد بتزلفه ونفاقه (فأكثر الوقيعة في علس والحسين وأطنب في تقريظ معاوية ويزيد فذكرهما بكل جميل) !!!

وفجأة دوّى صوت في المجلس أخرس الخطيب وجعل كل من في المجلس كأن على رؤوسهم الطير..! ارتفع الصوت في مجلس يزيد بهذه الكلمات: ويلك أيها الخطيب اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق فتبوأ مقعدك من النار !!!

كان صوت الحق والحقيقة الصوت الذي انبثق من صوت السماء ودعوة النبوة إنه صوت علي بن الحسين زين العابدين (ع), ثم أراد (ع) أن يصحح المسار ويشير ببوصلة الهدى إلى الحقيقة التي أخفاها الأمويون عن الناس وزيفوها... أراد أن يكشف القناع الزائف الذي لبسه الأمويون باسم الإسلام ويظهر وجوههم القبيحة وأفعالهم وجرائمهم فقَال ليزيد: يا يزيد إئذن لي حتى أصعد هذه الأعواد فأتكلم بكلمات لله فيهن رضا ولهؤلاء الجالسين فيهن أجر وثواب.

لكن ابن آكلة الأكباد يعرف قبل غيره من هو هذا المتحدث ومن أين استقى علمه وبلاغته فهو المجسّد لبلاغة جده سيد البلغاء والمتكلمين فأبى عليه ذلك, فقال الناس ائذن له فليصعد المنبر فلعلنا نسمع منه شيئاً ؟ فقال: إنه إن صعد لم ينزل إلا بفضيحتي وبفضيحة آل أبي سفيان فقيل له: وما قدر ما يحسن هذا ؟ فقال: إنه من أهل بيت قد زقوا العلم زقاً, فلم يزالوا به حتى أذن له.

وها هي شمس الحقيقة تسطع وسط الظلام ها هو لسان الثورة الحسينية الهادر, ووريث النبوة. وسليل الإمامة, وضمير الإسلام الحي يخطب في مجلس عدو الإسلام وعدو نبيه, فأحال سرور يزيد بقتل الحسين إلى حالة من الهلع والخوف وأطار فعل الخمر من رأسه, وأحدث انقلاباً في الرأي العام ضده حتى اضطر يزيد إلى التنصل من جريمته وإلقاء تبعتها كلها على المجرم ابن زياد ولكن ذلك لم ينفعه فاستمر الإمام بخطبته حتى ضج الناس بالبكاء والنحيب وخشي يزيد أن تكون فتنة, فأمر المؤذن فقطع عليه الكلام !!

فلَما قَال المؤذن: أَشهد أَن محمداً رسول الله ...

هنا التفت الإمام زين العابدين (ع) من فوق المنبر إلى يزيد وقال: محمد هذا جدي أم جدك يا يزيد ؟ فإن زعمت أنه جدك فقد كذبت وكفرت وأثمت, وإن زعمت أنه جدي فلم قتلت ذريته وسبيت نساءه ؟ ثم التفت إلى الناس وقال: معاشر الناس: هل فيكم من أبوه وجده رسول الله (ص) ؟ فعلت الأصوات بالبكاء .....

هكذا جرّد الإمام علي بن الحسين (ع) السلطة الأموية الجائرة من الصبغة الشرعية التي أوهموا وخدعوا بها الناس, وفضح جريمتهم النكراء بحق آل الرسول في كربلاء, وأوضح وبيّن أعمالهم الوحشية بقتل الحسين وأهل بيته وأصحابه وهم ظِماء, وأسرهم وسبيهم بنات الرسول والطواف بهن من بلد إلى بلد.

وبقيت واقعة كربلاء الجرح الذي لم يندمل فيقلب الإمام (ع) ولم يزل باكياً حتى قال له بعض مواليه.. إني أخاف عليك أن تكون من الهالكين, فقال (ع): إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله مالا تعلمون.. إن يعقوب كان نبياً فغيّب الله عنه واحداً من أولاده وعنده اثنا عشر ولداً وهو يعلم إنه حي فبكى عليه حتى ابيضّت عيناه من الحزن, وإني نظرت إلى أبي وأخوتي وعمومتي وصحبي مقتولين حولي فكيف ينقضي حزني ؟.. وإني لا أذكر مصرع بني فاطمة إلا خنقتني العبرة وإذا نظرت إلى عماتي وأخواتي ذكرت فرارهن من خيمة إلى خيمة ...

وظلت هذه الذكرى معه حتى  توفي مسموماً بأمر الوليد بن عبد الملك سنة 95 هـ  

محمد طاهر الصفار

..........................................................................................

1 ــ الحركات السرية في الإسلام ص 67

2 ــ نفس المصدر والصفحة

gate.attachment

: محمد طاهر الصفار