كوكب من كواكب الإمامة, وطود من أطواد العترة الطاهرة, يخشع القلم أمام عظمته, ويتقاصر الوصف أمام سيرته المعطاء, غمرت الدنيا حياته بالأحزان والمآسي والمصائب, فغمرها بالصبر والعطاء والبذل والخير, وجابهته بظلمها وظلامها فشعّ عليها بعلمه ونوره النبوي, وواجهته بزعازعها فوجدته جبلاً شامخاً راسخاً لا تزعزعه الأعاصير ولا تثنه الأهوال.
ولادة النور
ولد الإمام علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم الملقب بـ (زين العابدين) في المدينة المنورة سنة (38هـ)، ونشأ في ذلك البيت الذي شعّ منه نور الإسلام، وهو الإمام الرابع في سلسلة الأنوار الإلهية الاثني عشر (صلوات الله عليهم أجمعين) من بني هاشم الذين أكد النبي (صلى الله عليه وآله) الاصطفاء السماوي لهم في أحاديث كثيرة، فهم أوتاد الأرض، وأمناء الإسلام، وحفظة الوحي، ومعدن الرسالة، وأمان الأمة، وباب حطة، ونجوم الهداية، وسفينة نوح، وهم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
ولو أردنا الاسترسال في فضله (عليه السلام) لأعيانا ذلك وحسب الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) فخراً أن يكون حفيداً لأمير المؤمنين (عليه السلام) الذي أرسى دعائم الإسلام وكان أعظم شخصية عرفها التاريخ بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله), وابناً لأبي الأحرار ورمز الثوار وسيد الشهداء وعلم الإباء ومنار الفخر وقدوة الأبرار.
أمّا أمّ سيدنا ومولانا الإمام علي بن الحسين فهي السيدة الطاهرة شاه زنان بنت يزدجرد بن شاهنشاه آخر ملوك الفرس وقد وردت إلى المدينة مع سبي الفرس، ونصّت على ذلك كثير من كتب التاريخ المعتبرة وقد اختلف المؤرخون في اسمها فقد وردت لهذه السيدة الجليلة عدة أسماء في كتب المؤرخين وأشهرها شاه زنان كما جاء في أرجوزة الحر العاملي:
وأمّه ذاتِ العلى والمجدِ *** شاه زنان بنت يزدجردِ
كما ورد أن اسمها شهربانو أيضاً، وقد اختلف المؤرخون في تاريخ وصولها إلى المدينة المنورة على ثلاثة أقوال، القول الأول في خلافة عمر بن الخطاب، والثاني في خلافة عثمان بن عفان، والثالث في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وقد ورد أن لهذه السيدة الجليلة أخت تزوجها محمد بن أبي بكر فولدت له القاسم وهو جد الإمام الصادق (عليه السلام) لأمه أم فروة، وعلى هذا فإن القاسم والإمام علي بن الحسين (عليه السلام) ابنا خالة.
وروى القطب الراوندي في الخرائج والجرائح: إنه لما زوَّج الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ولده الإمام الحسين من هذه السيدة قال له: (يا بُني احتفظ بها، وأحسن إليها فإنها ستلد لك خير أهل الأرض في زمانه بعدك وهي أم الأوصياء الذرية الطيبة).
ولمّا أشرق نور الإمام علي بن الحسين على هذه الدنيا وزفّت هذه البشرى إلى الإمام أمير المؤمنين سجد لله شكراً وأسماه علياً، فنشأ في حجر النبوة ونهل من علوم الإمامة فكان كما قال الفرزدق فيه:
ينشقّ نورُ الدجى عن نورِ غرَّته *** كالشمسِ تنجابُ عن إشراقِها الظلمُ
الله فضّـــــــــــــــله قدماً وشرَّفه *** جـــــــــرى بـذاكَ له في لوحهِ القلمُ
مشتقّة من رســــــــولِ اللهِ نبعتُه *** طابتْ عنــــــــــاصرُه والخيمُ الشيمُ
ويقول فيه مهيار الديلمي:
قد قبستَ المجـــــدَ من خيرِ أبٍ *** وقبســـــــــــــتَ الدينَ من خيرِ نبي
وضممتَ الفخــــــرَ من أطرافِهِ *** سؤددَ الفـــــــــــــرسِ ودينَ العربِ
وذكر المجلسي في بحار الأنوار: أن هذه السيدة الطاهرة ــ شاه زنان ــ توفيت في نفاسها بالإمام زين العابدين (عليه السلام) بعد أن ولدته، وروي أيضاً: إنه لما توفيت، تزوج الإمام الحسين (عليه السلام) من أختها بعد أن قتل زوجها محمد بن أبي بكر في مصر فقامت بتربيته (عليه السلام) ولعل في ذلك ما يوضح سبب الاختلاف الذي يقع فيه المؤرخون في اسم السيدة أم الإمام زين العابدين بين (شاه زنان) و(شهربانو) ومن المرجح أن تكون السيد شاه زنان أمه وشهربانو خالته التي ربته ويكفي أم الإمام علي بن الحسين شرفاً أن النور انحصر بها عن طريق وليدها السجاد ذلك النور الذي جرى في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة.
أهم الأحداث في إمامته
تسلم الإمام علي بن الحسين (ع) مواريث الإمامة من أبيه الإمام الحسين (ع) بعد أحداث كربلاء الدامية حيث دخل عليه أبوه (ع) قبل استشهاده وأوصاه، وكانت آخر وصية أوصاه بها:
يا بني أوصيك بما أوصى به جدك رسول الله (ص) علياً (ع) حين وفاته وبما أوصى به جدك علي (ع) عمك الحسن (ع) وبما أوصاني به عمك.. إياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلّا الله ..
ثم ودّعه ومضى إلى المعركة التي استشهد فيها فشاهد (ع) مصرع أبيه وعمومته وأخوته وبني عمومته وسبي عماته وأخواته من كربلاء إلى الكوفة ومنها إلى الشام وهو مقيّد بالحديد ورؤوس الأهل والأصحاب على الرماح يتقدّمهم رأس أبيه (ع).
كما شاهد عبيد الله بن زياد ويزيد بن معاوية وهما ينكثان بالقضيب ثنايا أبيه في الكوفة والشام تشفياً وانتقاماً.. وقد تعرض (ع) للقتل أكثر من مرة على يديهما ولكن إرادة الله حالت دون ما يريدان، ولم يمنعه أسره وهو مثقل بالحديد من أن يقف في الكوفة ومجلس ابن زياد ومجلس يزيد ويصدع بالحق ويفضح الظالمين بتلك الخطب المدوية التي زلزلت عروش الطغاة وقد بقيت أصداء هذه الحوادث في ذاكرته حتى وفاته (ع).
وإضافة إلى هذه المآسي التي شاهدها الإمام (ع) في كربلاء والكوفة والشام فقد شاهد الكثير من الأحداث المأساوية التي جرت بعدها على يد السلطة الأموية الطاغية فعاش (ع) ظروفاً صعبة للغاية وهو يرى أمام عينيه الجور والظلم والانحراف والفساد وهو يستشري ويطغى فحمل هموم الأمة والرسالة بأكملها وراح يصدع بتعاليم الدين الحنيف مدافعاً عنه بكل ما أوتي من قوة ويبث بين الناس من روحه الكبيرة ما حملته من أخلاق وعلم وصفات نبوية.
واقعة الحرة
من الحوادث المأساوية التي شاهدها (ع) هي واقعة الحرة وما جرى على مدينة جده (ص) من قتل ونهب وسلب وانتهاك للحرمات من قبل الجيش الأموي, فعندما رأى أهل المدينة استهتار يزيد بالدين والأخلاق وجميع القيم والمقدسات, إضافة إلى ظلمه وجوره وفجوره وعبثه وشربه الخمر جهراً، والأدهى من ذلك قتله ريحانة رسول الله وسيد شباب أهل الجنة, أعلنوا نقضهم لبيعته وولّوا عليهم عبد الله بن حنظلة وعبد الله بن مطيع العدوي وطردوا عامل يزيد على المدينة عثمان بن محمد بن أبي سفيان وحصروا بني أمية في دار مروان فأرسل إليهم يزيد, المجرم مسلم بن عقبة المري فجرت معركة ضارية كانت الغلبة فيها لجيش الشام وقتل عبد الله بن حنظلة ومعه أولاده الثمانية ثم دخل مسلم بن عقبة بجيشه إلى المدينة المنورة فارتكبوا فيها من الجرائم ما يندى له جبين الإنسانية.
وقد قضت هذه الواقعة على البقية القليلة من آل أبي طالب وبني هاشم في المدينة فنكأت جراح الإمام (ع) من جديد وهي لم تندمل, وتجدّدت أحزانه, والجدير بالذكر أن هذه الواقعة جرت سنة (62 هـ) أي بعد سنة واحدة من واقعة الطف.
يقول المسعودي في مروج الذهب: قُتل في تلك المعركة خلق كثير من الناس من بني هاشم وقريش والأنصار وغيرهم من سائر الناس, فممن قتل من آل أبي طالب: عبد الله بن جعفر بن أبي طالب, وجعفر بن محمد بن علي بن أبي طالب, ومن بني هاشم من غير آل أبي طالب: نوفل بن الحرث بن عبد المطلب والعباس بن عتبة بن أبي لهب وأكثر من تسعين رجلاً من قريش ومثلهم من الأنصار وأربعة آلاف من سائر الناس ممن أدركهم الاحصاء دون من لم يُعرف.
وقال ابن قتيبة الدينوري في الإمامة والسياسة: إن عدد من قُتل من أبناء المهاجرين والأنصار والوجوه بلغ ألفاً وسبعمائة ومن سائر الناس عشرة آلاف سوى النساء والأطفال !! ...
ثم ينقل ابن قتيبة إحدى الصور عن تلك الجرائم الوحشية التي قام بها الجيش الأموي في مدينة رسول الله (ص) فيقول:
دخل رجل من جند مسلم بن عقبة على امرأة نفساء من الأنصار ومعها صبي لها فقال: هل من مال ؟ فقالت: لا والله ما تركوا لنا شيئاً. فقال: والله لتخرجن إليَّ شيئاً أو لأقتلنك وصبيك هذا, فقالت له: ويحك إنه ولد ابن أبي كبشة الأنصاري صاحب رسول الله (ص) فأخذ برجل الصبي والثدي في فمه فجذبه من حجرها وضرب به الحائط فانتثر دماغه على الأرض !!
وقد أباح (مجرم) بن عقبة المدينة ثلاثة أيام ولم يبق بعد هذه الواقعة بدري ! ثم أمِروا بالبيعة ليزيد على أنهم عبيد له, إن شاء استرق وإن شاء أعتق فبايعوه على ذلك وأموالهم مسلوبة ورحالهم منهوبة ودماؤهم مسفوكة ونساؤهم مهتوكة وبعث (مجرم بن عقبة) برؤوس أهل المدينة إلى يزيد. وقد ذكر جميع المؤرخين هذه الواقعة.
موقف الإمام من الواقعة
كل هذه الأحداث الفظيعة شاهدها الإمام زين العابدين (ع) كانت تزيد من جراحه, وكان يتلقّاها بقلب كسير وروح متألّمة, تلك الروح الكبيرة والرحيمة حتى بمن نصب له ولأبيه ولجدّه العداء, فعندما خرج مروان بن الحكم وبنو أمية إلى الشام تركوا عيالهم في المدينة فكلم مروان عبد الله بن عمر بأن يترك عياله وحرمه عنده فأبى عليه، فكلم الإمام علي بن الحسين (ع) فوافق على ذلك.
أي روح أعظم من هذه الروح ؟ وأي قلب أكبر من هذا القلب ؟
هذه هي أخلاق الأنبياء التي ورثها الإمام زين العابدين (ع), لقد كفل عوائل بني أمية الذين سبوا عماته وأخواته ونساءه من كربلاء إلى الكوفة ومنها إلى الشام وبقيت عائلة مروان في رعايته إلى أن انتهت المعركة وسلم علي بن الحسين (ع) وأهل بيته من شر مسلم بن عقبة وسلم كل من التجأ إلى بيته من أهل المدينة.
وقد اشتهر بين الرواة والمؤرخين إن الذين انضموا إلى علي بن الحسين يزيدون على أربعمائة عائلة, وجاء في ربيع الأبرار للزمخشري: إنه لما أرسل يزيد بن معاوية مسلم بن عقبة لقتال أهل المدينة واستباحتها كفل الإمام زين العابدين أربعمائة امرأة مع أولادهن وحشمهن وضمّهن إلى عياله وقام بنفقتهن وإطعامهن إلى أن خرج جيش ابن عقبة من المدينة.
وقال الطبري: إن يزيد أوصى مسلم بن عقبة بعلي بن الحسين.
ولم يكن يزيد بذلك البعيد عن دماء أهل البيت (ع) أو مراعياً لهم حرمة النبي حتى يوصي بالإمام زين العابدين بل لأنه أحس بوطأة جريمته النكراء التي ارتكبها في كربلاء بحق الإمام الحسين (ع) وأهل بيته وأصحابه وأدرك حجم الأخطار التي أصبحت تهدد عرشه من جميع الجهات, والأصوات التي تنادي يا لثارات الحسين تتعالى في جميع الأرجاء وتجد ترحيباً وتجاوباً من الجميع. وفيما كان يزيد بن معاوية يتعقب الثائرين في المدينة كان التوابون في الكوفة منذ أن قتل الحسين يعدون العدّة للثورة على السلطة الأموية وقد بدأوا يحسّون بمرارة تلك الفاجعة حينما وقف الإمام زين العابدين وخطب في جموعهم تلك الخطب البليغة.
محمد طاهر الصفار
اترك تعليق