حروف من وحي القداسة..

جهد الفنان العربي المسلم من خلال ابداعه الى اكتشاف القيمة الجمالية للحرف والكلمة العربية، خاصةً بعد أن اصبحت كلمات القرآن الكريم هي جوهر عقيدته ومصدر الهامه الاول.. حيث اصبح الحرف العربي هوية اسلامية تفوق حدود الاقليمية والتعصب والافكار، ومنه استشف الفنان المسلم الشحنة التعبيرية والرمزية الكبيرة التي يحتويها الخط العربي، فكان هذا الفن كسائر انواع  الفنون الإسلامية الاخرى يسير على نفس االنسق ويخضع لنفس الهدف الذي دأب الوجدان الإسلامي على ابرازه وتصويره، فعمد الفنان على تطوّيع الحروف لتصبح قادرة على اشباع حسه الفني .. واستخدم الخط العربي كلوحة فنية متكاملة تتحقق فيها الانسيابية والحركة المتفرقة سواء كان ذلك بتمايز الالوان او بتحريك النقاط والخطوط المتنوعة المتكون منها .

المخطوطة من ابداع المرحوم الخطاط العراقي هاشم البغدادي الذي عرف بإتقانه التام للخط العربي وبرونقه الجميل الذي خط به حروف القرآن، وهو من مواليد بغداد عام 1339 هـ / 1921م، وأخذ الخط عن الأستاذ علي صابر والملا عارف الشيخلي الذي أجازه في الخط عام 1943م، وأجازه كذلك الخطاط التركي المشهور موسى عزمي والمعروف باسم حامد الآمدي وقد أجازه مرّتين الأولى في عام(1370هـ/ 1950م)، والثانية في عام(1372هـ/ 1952م)، بإجازة عامة، وكانت الاجازة الثانية بمثابة إجازة تقديرية وليست اجازة بالمعنى الحرفي، وعند وفاة هاشم البغدادي في شهر ربيع الأول / نيسان من عام 1393 هـ / 1973م، قال الخطاط حامد الآمدي المقولة المشهورة ولد الخط وتوفي في العراق.

تعد هذه الرقعة الخطية التي انجزت عام 1382 هـ بمثابة انعكاس للبعد التجويدي والجمالي والوضوح والمقروئية المميزين امام المشاهد وقد سار فيها الخطاط هاشم على هدي من سبقه من الخطاطين لاسيما العثمانيين منهم الذين تتلمذ وتطور ابداعه على ايديهم ،لذا فهي تعد رقعة قرائية وجمالية في الوقت نفسه ، حيث اعتمد الخطاط الاتجاه الأفقي لكتابة خط النسخ للحفاظ على وحدة مسار النصوص المستخدمة في الرقعة لخطي الثلث والنسخ مما أسهم بتعزيز الصفة الجمالية للرقعة .. وقد حقق الخطاط التناسب في الرقعة من خلال تقسيم المساحات حسب قياسات النصوص من خلال اظهاره التقسيم المتكافئ لمساحتي خط الثلث والنسخ ، اذ ان مساحة خط الثلث امتازت بالاستطالة لاستيعاب تمام النص، كذلك فقد احتوت المساحة الثانية بشكل مناسب لاستيعاب النص بخط النسخ، فيما تم إشغال جانبي هذه المساحة بحشوات زخرفية نباتية مما أضفى على المخطوطة طابعا جماليا تفردياً. 

حاول البغدادي جاهداً الحفاظ على التناسب بين قياسي قلم النسخ والثلث وفق النسبة المقدرة(3:1) على غرار ما درج عليه الخطاطون عند كتابتهم خطي النسخ والثلث معاً وظهرت مهارته الواضحة في هذه الرقعة من خلال رسمه للحروف وضبطها قواعديا ، فضلا عن إظهار انتظام الحروف والكلمات من حيث اتصالها واستقرارها على السطر ولكلا الخطين.. محققاً التوازن في المخطوطة من خلال التوزيع المتناسب للمساحات الخطية و خاصية التناظر التي اتسمت بها اغلب اعماله الفنية في تقسيم المساحات وتماثل الزخارف التي شغلت المساحتين الجانبيتين مقتصراً في تنفيذها على استخدام المداد الأسود لكتابة النصوص وتحديد الوحدات الزخرفية الملونة بالذهبي  ، اضافة الى وجود اللون الأزرق في رسم الإفريز الخارجي (الضفيرة التي مثلت اطار المخطوطة) الذي يحيط بالرقعة.. مما زاد من جماليتها  بشكل ملحوظ.

ومن الملاحظ حين التأمل في تفاصيل المخطوطة انها تخضع للتقسيم وفق مبدأ التنظيم الثنائي المتكافئ لكلا المساحتين، حيث أعطى الخطاط خط الثلث مساحة اكبر استطالة من مساحة خط النسخ وذلك لكبر قياس قلم الثلث مقارنة بقلم النسخ.. فيما خصصت لخط النسخ مساحة ذات ارتفاع اكبر من مساحة خط الثلث وذلك لكبر النص، مما ادى الى ترك مساحتين جانبيتين لخط النسخ افادت المزخرف ودفعته الى اشغالها بتزينهما بحشوات نباتية تحتوي على الأوراق والأزهار.. والتي بدورها أعطت الرقعة بعدا جماليا مناسبا متناغماً مع اشكال الحروف والمفردات الزخرفية النباتية الموجودة في أسفل مساحة خط النسخ، مما حقق التوازن وإشغال المساحة في نفس الوقت.

ويبقى الخط العربي متنقلاً بين فضاءات الجمال والدهشة في ماضي الخط العربي العريق والخطوط الروحانية التي تبثها كلمات الله التامات.. لينطلق منها الخطاط المسلم محلقاً في فضاء الحرف العربي بروحانية تفيض بالسحر منتجاً تحفاً فنية تلامس الارواح.

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات