الاطفال تلوذ .. والعباس يفزع .. وهناك من يراقب

ايثار تجاوزحدود الزمان والمكان .. تألقت به الروح في دنيا النبل والفضيلة والكمال..لتصرخ تلك الروح مرتجزة

                 لا أرهـب الموت اذ المـوت زقا                   حتى أواري في المصاليت لقى

                 نفسي لسبط المصطفى الطهر وقا            إنـي أنا العبـاس أغــدو بالسـقا

                            ولا أخاف الشرّ يــوم الملتقى

هذا ما ارتجز به المولى سيدي ابا الفضل العباس " عليه السلام " حينما رأى القوم قد ذبلت شفاههم وتغيرت ألوانها وأشرفوا على الهلاك ، من شدّة العطش ، ففزع بأبي وامي واخذ الاَلم يسري بمحيّاه عاصفا لاِغاثتهم ، فأمتطى صهوة جواده ، معلنا به عن شجاعته النادرة ، وعدم خشيته الموت واستقباله بثغر باسم دفاعاً عن الحق ، وفداءً لاَخيه ابي عبد الله الحسين وعياله " عليهم السلام " ، وهو فخور أن يغدو بالسقاء مملوءا بالماء ليروي به عطاشى أهل البيت " سلام الله عليهم " في الخيام .

فاقتحم الجيش منفردا بعزمه الجبار لينهزم اراذل القوم بين يديه يطاردهم الفزع والرعب من صولته العلوية الحيدرية ، واستطاع أن يفك الحصار الذي فرض على الماء لمنع ريحانة رسول الله ابي عبد الله الحسين ومن معه من نساء وأطفال من شرب الماء ، فأحتل النهر ووصل الماء وكان قلبه الشريف كصالية الغضا من شدة العطش ، فنزل الى الماء مغترفا غرفة ليشرب منه ، إلا أنه تذكرعطش أخيه الحسين ومن معه في الخيام فرمى الماء من يده وامتنع أن يروي غليله ، ليجسد كل مفاهيم القيم العالية والوفاء الروحي لاخيه الحسين ، فاخذ القربة بماءها ليوصلها الى الفاطميات واطفالهن لينعق ابن سعد ( لعنة الله عليه ) أن شدوا عليه ، فشد القوم واشتبكت رماحهم عليه ، ولم يستطيعوا بدا على شجاعته حتى كمن له لعين منهم خلف نخلة ليقطع يمينه لياتي اخر بيساره حتى استدارواعليه ليسقط مضرجا بدمه الشريف مقطوع اليدين مناديا " عليك مني السلام ابا عبدالله ادركني "  ليقبل ابي عبد الله الحسين يذود خيل الطغاة عنه يمينا وشمالا حتى وصل اليه محتضنا اياه واخذ يمسح التراب عن وجهه الشريف وانحنى عليه محاولا حمله فأبى العباس ذلك حياءاً فقال له " اخي واعدت الاطفال والنساء بالماء فكيف ادخل عليهم ولم اجلب لهم الماء " الى ان فاضت روحه الطاهرة مجسدة اسمى ايات الاخوة والفداء ، فسلام عليك سيدي ابا الفضل وعلى دماءك الزاكيات السائلات في ارض كربلاء ...

اللوحة تحمل توقيع الفنان التشكيلي الايراني " عبد الحميد قديريان " ، وهو من مواليد العاصمة الايرانية طهران ، درس الفن حتى حصل على شهادة الماجستير في اختصاصه من جامعة طهران ، عمل في مجالات فنية متعددة كالمسرح والسينما فضلا عن الرسم وله العديد من المشاركات الفنية المحلية والعالمية وبصورة شخصية ومجتمعة .

اللوحة اعلاه تمثل جزءا من سلسلة لوحات فنية جسدت مظلومية اهل البيت "عليهم السلام " بعرض وقائع معركة الطف بأرض كربلاء ، نفذها الفنان بغية نشر ثقافة عاشوراء وثورة الحسين " عليه السلام " انطلاقا من مبدأ ربط الماضي بالحاضر من خلال طروحاته الفنية الاسلامية المميزة .

 تصف اللوحة تشخيصا تعبيريا للمولى ابي الفضل العباس " عليه السلام " وهو متمركزا وسط المياه العذبة لنهر العلقمي والجود معلق على كتفه ، متأملا ذلك النور المتلألئ قبالته والمتمثل حسب رؤية الفنان بشخص السيدة فاطمة الزهراء " سلام الله عليها " وحضورها في الطف وعلى شاطئ العلقي ، مصورا اياها كأنها منبع تلك المياه ومصدر نقاءها .

عالج الفنان الموضوع  بدراية وحنكة فنية عالية و بأسلوب تعبيري بلكنة اقرب للواقعية ، فقد ابتعد عن الخطوط في ابراز هيئة الاشكال وحدودها ليعتمد الالوان وتدرجاتها في دراسة تشريح عناصراللوحة بعيدا عن واقعية الحدث (شكلا)، فقد دفع بآلية المنظور الاكاديمي الى اخرى مبتكرة ، بوضعه الالوان بصورة متشابكة متداخلة بتدرجاتها على سطح اللوحة مستثمرا تقنية الظل والضوء في ابراز تفاصيل الاشكال القريبة والبعيدة ، واتى ذلك من خلال اندفاعات الفنان التعبيرية المشحونة بروحيته وذاته المنقادة لحدث اللوحة كجزء من مصيبة كربلاء وعظم ماحل بآل بيت النبوة  سلام  الله عليهم   فاحالها لمدركات حسية ذات تأثير روحي عقائدي على نفس المتلقي المتأمل لتفاصيلها .

عمد قديريان  في هذه اللوحة الى ابرازهيئة المولى ابي الفضل العباس وفرسة وسط الماء من خلال الظل المقابل للضوء على جانبي اللوحة افقيا ، فأحاطه  بالوان غامقة  وبتدرجات مختلفة من اللون البني وبعض الاسود الممزوج  بقليلا من اللون الاخضرليجعل هيئته اللونية اقل حدة من باقي العناصرالمكونة للوحة ، مستفيدا من الظلال بأن جعل شكل ابي الفضل كمركز ثقل اللوحة ، إلا انه برع في سحب عين الناظر الى مركز ثقل اخر في اللوحة بجعل النور المنبثق المتمثل بشخص سيدتي فاطمة الزهراء من اعلى يسار اللوحة (  بالنسبة للمشاهد ) مركز ثقل يعادل الاخرعلى يمينها كأنه لوحة اخرى تتداخل مكملة للجزء المميز بالظل ، فقد استطاع عبد الحميد بذلك من مزج الظل والضوء بتقنية وروحية فنية فريدة في لوحة واحدة دون ان يشتت نظر القراء بجزء منها دون الاخر .

ومن الملفت لنظر المتأمل في تفاصيل اللوحة والوانها توصيف الفنان لماء العلقمي ، حيث جعل المتلقي يشعر بعذوبة الماء وإن لم  يتذوقه فضلا عن موقف ابي الفضل من الماء رغم عطشه الشديد واستذكاره لاخيه الحسين وعياله العطاشى " عليهم السلام " .

ومن هنا نستطيع ان نلمس مدى براعة الفنان في اسقاط دوافعه المعرفية والروحية ممتزجة في مضمون اللوحة وفكرتها ، فالنشاط المعرفي ( عند الفنان او المتلقي ) وكما هو معروف يشتمل على وسائط عديدة  من شانها تلبية الخصائص الانفعالية  ( التأثر بموضة اللوحة ) فهي ( الدوافع المعرفية ) قائمة على الربط بين الاحساس ( مشاهدة اللوحة ) والانفعال ( مضمونها الروحي ) من اجل دفع اشكال اللوحة للاقتراب نحو واقعية الحدث وابراز مأساته وجعل المشاهد يعيش تلك الاحداث ولو بأنفعالاته الوجدانية .

 

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة 

المرفقات