ملحمة السماء... رسمت بدماء الحسين

تدور الايام ... لتطل علينا ذكرى شهر محرم الحرام من جديد ، معلنة حلول شهر لم يعرف له الزمان من مثل ، سالت به الدماء الزاكيات لترتوي بها ارض كربلاء وتطفأ رمضاءها ، بظليمة أفطرت قلوب العارفين واستدرت دموعهم واعتصرت قلوبهم حزنا على المقتول بكربلاء ... انه شهرشهادة الحسين بن علي بن ابي طالب " عليهم السلام " ، فلترفع رايات السواد لتغطي الاكوان حزنا ، ايذانا بقدوم عاشوراء الحسين " عليه السلام " يوم قتل الهدى وانتهك الدين القويم .   

بطريق أنارته إشراقة اليقين بلقاء المولى جل وعلا ،  مضى الامام الحسين ومن معه من عياله " عليهم السلام " متجها الى الكوفة  في سبعين من أصحابه المخلصين ، حتى حل بأرض كربلاء ليكون اللعين ابن زياد متهيأ لقتاله بجيش كبير ، وما لبثت ان وقعت معركة الطف الدامية لتكون أبشع جريمة عرفتها الانسانية جمعاء ، فلم يعرف التاريخ معركة مماثلة استشهد فيها كل الرجال من انصار ابي عبد الله الحسين ، ولم يكتفي جيش الغدر بذلك بل تعداه إلى قتل الأطفال والصبية وسبي النسوة من آل بيت النبوة وحرق خيامهن ، ليكن اسيرات في موكب حط رحله في قصر يزيد " لعنة الله عليه " في الشام ، لتكون بذلك بداية النهاية واللعنة الابدية لجبروت يزيد واتباعه لعنة الله عليهم .

 فقد رأى الحسين " بأبي وامي " دينا لا يستقيم إلا ببذل دمه الطاهر ومن معه بمعركة غير متكافئة في سوح القتال بقوله عليه السلام  (إن كان دين محمد لم يستقم إلا بقتلي فيا سيوف خذيني) ليبقي ثورة علمتنا الصبر على الالم والأحزان وثورة على الجور والطغيان فهو ضحى بنفسه وكل ما يملك من أجل احقاق الحق وجعل كلمته هي العليا ، فالقلة المحقة واجهت الباطل بكثرة عدده ، إلا انها زعزعت عرش بني امية وازاحت اسسه الواهية بأن تأسس منهج حسيني ثوري إستشهادي زرعه الحسين عليه السلام وخلده في عقول وقلوب مواليه لتتجدد عاشوراء في كل زمان متناقلة من جيل إلى اخرتستنهض همم الامم ورجالاتها .  

اللوحةاعلاه تمثل مشهداً واقعياً وجدانيا مؤثرا من معركة الطف الخالدة في ارض كربلاء ، تم معالجته من قبل الفنان بطريقة سوريالية من خلال مساحة اللوحة الافقية وفضاءاتها ليمثل توثيقا يترك طابعا انفعاليا حسيا لكل متلقي متأمل لتفاصيل اللوحة وعناصرها .

اللوحة من سلسلة المنجزات الابداعية الحسينية للفنان الكربلائي حيدر علي حسين الحسناوي ، وهو من موالد كربلاء 1977 ، نشأ وترعرع في ازقة مدينة كربلاء المقدسة وانجز اولى اعماله الفنية الولائية وهو بعمر الخمس سنوات حيث تلقى الدعم الاكبر من والدته مما دفعه الى الاجتهاد في تطوير ملكته الفنية لإكمال دراسته في معهد الفنون الجميلة ببغداد حتى تخرجه عام 1998 م .

تأثر الحسناوي ببيئته الكربلائية واجوائها الروحية المقدسة حتى اصبحت طابعا تتسم به الكثير من اعماله الفنية ، فقد ابدع برسم لوحاته مستخدما العديد من التقنيات والخامات المختلفة ،  ومنها ابداعه المتجدد بالرسم على نوع معين من القماش الاسود مستثمرا لون القماش وبنيته النسيجية المتماسكة لتفعيل دور الظل والضوء في اللوحة ، فجعل من الالوان المختلفة اداة لابراز هيئة الاشكال المرسومة على القماش الاسود لتعطي انطباعا مميزا للمتعرض لها بانها الضوء كاستخدامه لألوان الأبيض والأصفر وبعض درجات التركواز وغيرها من الالوان الباردة وبعض من الالوان الحارة .

انجزت اللوحة بدقة وحرفية عاليتين بتقنية الزيت على قماش الكانفاس واستغرق الفنان في اتمام اجزاءها قرابعة الاربعة اشهر ، واتت بابعاد 3م *2,10 م وقد جاءت كتجسيد لواقعة الطف واحداثها الدامية بشكل تسلسلي الاحداث متناثر التوزيع على سطح اللوحة وفضاءاتها .

المتأمل لهذا المنجز الابداعي يلاحظ ان الحسناوي اتى بها بمزيج توليفي رائع بين اسلوبي المدرسة الواقعية في الفن والمدرسة السوريالية ، فلم يبتعد العمل عن الجانب السريالي من خلال اسقاط الوهم والخيال، على الواقع المتمثل بحوادث طفوف كربلاء ، فقد ارتبط خيال الحسناوي بدلالات سوريالية ليدفع به الى اخراج الموضوع اخراجا دينيا مرتبطا بالسماء ، فهو انعطاف على واقع المعركة المرير وعودة مقصودة للتطرق الى اللاواقع " الارتباط المرئي بين الارض والسماء " لانه الحقيقة بعينها وكشف مكنونات الاشياء وروحيتها الداخلية ، فقد اعتمد حيدر على مخيلته الواسعة وسعة اطلاعه على تفاصيل واقعة الطف وما حل بالحسين "عليه السلام " ومعيته في تنفيذ وتركيب اجزاء اللوحة السوريالية الطابع ، من خلال استشعاره لأدق احداثها الاليمة والتاثروالاحساس بها ، فضلا عن الدقة المتناهية في رسم الرمال وتصوير بعض ملامح اشخاص اللوحة وتفاصيل الخيول والنخيل وغيرها من العناصر التكوينية لها ، ليقترب بها من واقعية اجواء معركة الطف الدامية ، كاشفا بذلك عن  مركب متجانس من هويته الولائية العقائدية " النابعة من ذات الفنان " ، وثقافة ثـَرَة تراكمت بها الخبرات ،تجلت بموضوعية طرحه لافكاره وثقافاته كما في هذا المنجز التصويري الاستثنائي ليثير فينا آلآم متجددة عن مصاب ابي الاحرار " عليه السلام " التي لم و لن تهدأ ابدا .

فسلام على الحسين .. وعلى اولاد الحسين .. وعلى اصحاب الحسين .. وعلى كل من بذلوا انفسهم دون الحســـــين

 

سامر قحطان القيسي