"عدالة الصحابة" من المسائل التي لا زالت تثير جدلا واسعا في الاوساط العلمية , فقد ادعى أهل السنة والجماعة عدالة الصحابة جميعهم مستدلين لذلك بجملة آيات قرآنية لا تدلّ على مدعاهم بشكل تام وصريح ؛ فالآيات التي جاؤا بها لإثبات المدعى لا تفيد في أقصى حالاتها سوى العموم المجموعي لا غير ، كما في قوله تعالى: { كنتم خير أمة أخرجت للناس }[ آل عمران : 110] الدال على أن مجموع الأمة بما فيها من نبيها الكريم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والأئمة والعلماء والصالحين هي خير من مجموع بقية الأمم ، لا أنها تدل على خيرية كل فرد فرد في الأمة ، وإلا فمن المسلمين العصاة والقتلة والفساق والزناة ونحوهم ، وهؤلاء لا يمكن أن يوسموا بالخيرية قطعا ، وهكذا دلالة الأحاديث التي يستدلون بها في المقام ، فهي - مع كونها من مصادرهم خاصة وهذا لا يفيد الإحتجاج على الآخر بشيء فضلا عن اعتراف بعض علمائهم بوضع جملة منها - تفيد العموم المجموعي أيضا ، ولا تدل على خيرية كل فرد فرد من الصحابة ، كما في حديث البخاري (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) [ صحيح البخاري 3: 151 كتاب الشهادات ] ..والحال أن مدعى القوم واصطلاحاتهم في الموضوع قد جاءت على نحو العموم الجمعي ، بمعنى أنهم يقولون بعدالة كل فرد فرد من الصحابة ، بينما الدليل يقول بخيرية المجموع بما هو مجموع لا خيرية كل فرد فرد ، فشتان بين الدليل والمدعى هنا ، بل الدليل أخص من المدعى في جميع الأحوال .. هذا من حيث استدلالهم بالكتاب الكريم والأحاديث ..
وأما الإجماع , فقد ساقوه كأحد الأدلة في المقام ، وهو محور كلامي هنا ..فاقول:
إن المتأمل في كلمات القوم يلاحظ الإرباك والارتباك واضحا بدعوى الاجماع على عدالة الصحابة, وحتى تكون الصورة واضحة وجلية للقارئ الكريم , أورد هنا على سبيل الإيجاز بعض النقول المختارة من اقوالهم .. فخذ مثلا ما قاله ابن حجر العسقلاني في كتابه الإصابة [1: 131 ]: "اتفق اهل السنة على ان الجميع عدول ولم يخالف في ذلك الا شذوذ من المبتدعة" , وما قاله ابن حزم: "الصحابة كلهم من اهل الجنة قطعا" [ المصدر السابق 1: 163], وما قاله ابن عبد البر: "ثبتت عدالة جميعهم ... لاجماع اهل الحق وهم اهل السنة والجماعة" [ الاستيعاب 1: 8] , وما قاله ابن الاثير في اسد الغابة: "كلهم عدول لا يتطرق اليهم الجرح" [ أسد الغابة 1: 3]..
فهذه النقول تحكي انعقاد إجماع أهل السنة والجماعة على القول بعدالة الصحابة جميعهم , ولكننا عند التتبع نجد أقوالا وتصريحات أخرى لعلماء من نفس أهل السنة والجماعة يقولون بخلاف ذلك ، فهاهو المازري - وهو من كبار علماء أهل السنة - يصرح قائلا : "في الصحابة عدول وغير عدول، ولا نقطع إلا بعدالة الذين لازموه (صلى الله عليه وسلم) ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه..." , وعندما نتصفح كتاب مختصر الاصول لابن الحاجب نجده ينقل الخلاف والاختلاف في المسألة, فيقول: " الاكثر على عدالة الصحابة, وقيل: هم كغيرهم , وقيل قول ثالث : الى حين الفتن , فلا يقبل الداخلون , لان الفاسق غير معين ,قول رابع : وقالت المعتزلة : عدول إلا من قاتل عليا " ..
فهذه الأقوال كما ترى تشكل مناقضة صريحة لدعوى الاجماع المدعاة في كلمات القوم ، والإجماع في الاصطلاح هو ما اتفق عليه الجميع ولم يشذ عنه أحد ، والحال أننا نجد جملة ليست قليلة من علماء أهل السنة قد ذهبوا إلى القول بعدم عدالة الصحابة جميعهم ..
ومما يسفه القول بعدالة الصحابة جميعهم واقعا ، هو أنها تنتهي إلى نتيجة مرفوضة شرعا وعقلا ، فمن المعلوم والثابت تأريخيا أن الصحابة تقاتلوا فيما بينهم في حروب طاحنة في الجمل وصفين ، وقتل بعضهم بعضا ، والنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد وصف الفئة المقاتلة لعلي ( عليه السلام ) بالفئة الباغية والداعية إلى النار [ كما في حديث البخاري عن عمار بن ياسر ]، فلا يمكن القول بعدها بأن البغاة والدعاة إلى النار أنهم عدول وأنهم سيدخلون الجنة أجمعين أكتعين ، والحال أن القرآن الكريم يصرح قائلا : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) [ النساء : 93].. بل ورد عندهم حديث صريح صحيح يقول أن ( قاتل عمار وسالبه في النار ) ، وقاتل عمار بن ياسر هو الصحابي أبو الغادية الذي بايع بيعة الرضوان .[ راجع سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 5: 18].... فكيف سيدخل أبو الغادية الجنة - حسب عقيدة القوم - بينما ينص رسول الله ( صلى الله عليه وله وسلم ) عليه : أنه من أهل النار ؟؟؟!!!!
فالتهافت والتضارب في أدلة القوم وأقوالهم واضح جدا للجميع !!!!
وهاهو التفتازاني - من كبار متكلمي أهل السنة وعلمائهم - يصرح قائلا : "ان ما وقع بين الصحابة من المحاربات والمشاجرات على الوجه المسطور في كتب التواريخ والمذكور على السنة الثقات يدل بظاهره على ان بعضهم –بعض الصحابة- قد حاد عن طريق الحق , وبلغ حدّ الظلم والفسق , وكان الباعث له الحقد والعناد , والحسد واللداد , وطلب الملك والرئاسة" .
فهذا اعتراف صريح بفسق كثير من الصحابة , وبانهم حادوا عن الحق , وبانهم ظلموا ووو... ويشهد لذلك ان ابا بكر نفسه خاطبهم قائلا : انكم تريدون الدنيا, وستور الحرير, ونضائد الديباج, وتريدون الرئاسة , وكلكم يريدها لنفسه, وكلكم ورم انفه... والأعجب من هذا وذاك ان في قبال دعوى الاجماع على عدالة الصحابة تنصيص بعض الايات الشريفة على ارتداد بعضهم في حال ما لو التحق النبي الاكرم بالرفيق الاعلى في قوله تعالى { أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ } (آل عمران 144), مع ما جاء من احاديث الحوض المنقولة في البخاري ومسلم التي تنبئنا عن انقلاب الأصحاب بعد النبي وإحداثهم في الدين ، حتى أنه لا ينجو إلا القليل منهم (( لا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم )) ، وهمل النعم كناية عن القليل جدا..إلى غيرها من الأدلة الواضحة والصريحة التي تناهض هذه العقيدة المدعاة في المقام .
ومن هنا أدعوا بإخلاص أهل السنة والجماعة إلى مراجعة أنفسهم في هذه العقيدة التي حيكت في ليل أموي مظلم ، كان الغرض منه الإيغال في إقصاء أهل البيت ( عليهم السلام ) وإبعادهم عن الأمة وإبعاد الأمة عنهم ، كما يصرح به ابن ابي الحديد المعتزلي الشافعي في شرحه لنهج البلاغة فيما ينقله عن ابن عرفة الذي قال في تأريخه : بأن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أمية ؛ تقربا إليهم بما يظنون أنهم يرغمون به أنوف بني هاشم [ شرح النهج 11: 45]...
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين ... وصلى الله على خير خلقه اجمعين ، محمد وآله الطيبين الطاهرين ..
الكاتب / السيد مهدي الجابري
اترك تعليق