إنّ القرآن الكريم جعل للنفس الإنسانية مراتب :
1- النفس الأمّارة 2- النفس اللوّامة 3- النفس المطمئنة 4- النفس الراضية المرضية ، وإليك وصف هذه المراتب بنحو موجز :
1- النفس الأمّارة:
إنّ النفس بطبعها تدعو إلى مشتهياتها من السيئات ، فليس للإنسان أن يبرّئ نفسه من الميل إلى السوء ، وإنّما له أن يكف عن أمرها بالسوء ودعوتها إلى الشر وذلك برحمة من الله سبحانه ، يقول سبحانه : (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) [يوسف : 53].
فما برّأ يوسف نفسه عن أمرها بالسوء ، وإنّما كفّها عن ارتكاب السوء ؛ لأنّ النفس طبعت على حب الشهوات التي تدور عليها رحى الحياة.
والأخلاق جاءت لتعديل ذلك الميل ، وجعلها في مسير السعادة وحفظها عن الإفراط والتفريط ، فالمادية نادت بالانصياع لرغبات اللّذات مهما أمكن ، والرهبانية نادت بكبح جماح اللذات والشهوات والعزوف عن الحياة واللوذ في الكهوف والأديرة ، ولكن الإسلام راح يدعو إلى منهج وسط بينهما ، ففي الوقت الذي يدعو إلى أكل الطيّبات ويندّد بمن يحرّمها ، ويقول : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) [الأعراف: 32] يأمر بكبح جماح النفس عن ارتكاب المعاصي والسيئات التي توجب الفوضى في المجتمع وتسوقه إلى الانحلال الأخلاقي.
2- النفس اللوّامة:
النفس اللوامة وهي الضمير الذي يؤنّب الإنسان على ما اقترفه من السيئات والآثام خصوصاً بعد ما يفيق من سكراتها فيجد نفسه تنحدر في دوامة الندم على ما ارتكبه وإنابة إلى الحقّ ، وهذا يدل على أنّ النفس ممزوجة بالميل إلى الشهوات ، وفي الوقت نفسه فيها ميل إلى الحقّ والعدل ، ولكلّ تجلٍّ خاص ، فانّ غلبة الشهوات يحول دون ظهور نور العقل فيقترف المعاصي والآثام ، ولكنّه ما إن تخمد شهوته حينها يصفو أمامه جمال الحياة وتنكشف مضرات اللّذة فتستيقظ النفس اللوامة وتأخذ باللوم والعذل إلى حد ربما تدفع بصاحبها إلى الانتحار ؛ لعدم تحمله وطأة تلك الجريم وهذه النفس حيّة يقظة لا تتصدع بكثرة الذنوب وإن كانت تضعف بممارستها.
3- النفس المطمئنّة:
وهي النفس التي توصلها النفس اللوّامة إلى حد لا تعصف بها عواصف الشهوة ، وتطمئن برحمة الرب وتحس بالمسؤولية الموضوعة على عاتقها أمام الله وأمام المجتمع ، يقول سبحانه : (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً) [الفجر: 27، 28] فصاحب هذه النفس يمتلئ بالسرور والفرح عند الطاعة وتجد في صميمها لذة للطاعة وحلاوة للعبادة لا يمكن وصفها بالقلم واللسان.
وبعبارة أُخرى : (النفس المطمئنّة) هي التي تسكن إلى ربها وترضى بما رضي به ، فترى نفسها عبداً لا يملك لنفسه شيئاً من خير أو شر أو نفع أو ضر ، ويرى الدنيا دار مجاز ، وما يستقبله فيها من غنى أو فقر أو أي نفع وضر ابتلاء وامتحاناً إلهياً ، فلا يدعوه تواتر النعم عليه إلى الطغيان ، وإكثار الفساد ، والعلو والاستكبار ، ولا يوقعه الفقر والفقدان في الكفر وترك الشكر ؛ بل هو في مستقر من العبودية لا ينحرف عن مستقيم صراطه بإفراط أو تفريط (1) وهناك كلمة قيمة للحكيم (محمد مهدي النراقي) حول واقع النفوس الثلاث يقول :
والحقّ إنّها أوصاف ثلاثة للنفس بحسب اختلاف أحوالها ، فإذا غلبت قوتها العاقلة على الثلاثة الأُخر ، وصارت منقادة لها مقهورة منها ، وزال اضطرابها الحاصل من مدافعتها سمّيت ( مطمئنة ) ؛ لسكونها حينئذٍ تحت الأوامر والنواهي ، وميلها إلى ملائماتها التي تقتضي جبلتها ، وإذا لم تتم غلبتها وكان بينها تنازع وتدافع ، وكلما صارت مغلوبة عنها بارتكاب المعاصي حصلت للنفس لوم وندامة سمّيت ( لوامة ) وإذا صارت مغلوبة منها مذعنة لها من دون دفاع سميت ( أمّارة بالسوء )؛ لأنّه لما اضمحلت قوتها العاقلة وأذعنت للقوى الشيطانية من دون مدافعة ، فكأنّما هي الآمرة بالسوء (2).
- النفس الراضية المرضية:
وهي النفس المتكاملة الراضية من ربّها رضى الرب منها ، واطمئنانها إلى ربّها يستلزم رضاها بما قدّر وقضى تكويناً أو حكم به تشريعاً ، فلا تسخطها سانحة ولا تزيغها معصية ، وإذا رضى العبد من ربّه ، رضى الرب منه ، إذ لا يسخطه تعالى إلاّ خروج العبد من زي العبودية ، فإذا لزم طريق العبودية استوجب ذلك رضى ربّه ولذا عقب قوله : ( راضية ) بقوله : ( مرضية ).
قوله تعالى : (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي) [الفجر: 29، 30] تفريع على قوله : ( ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ )، وفيه دلالة على أنّ صاحب النفس المطمئنّة في زمرة عباد الله حائز مقام العبودية ، وذلك إنّه لما اطمأنّ إلى ربّه انقطع عن دعوى الاستقلال ورضى بما هو الحقّ من ربّه فرأى ذاته وصفاته وأفعاله ملكاً طلقاً لربّه فلم يرد فيما قدر وقضى ، ولا فيما أمر ونهي إلاّ ما أراده ربّه ، وهذا ظهور العبودية التامة في العبد ، ففي قوله : (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ) تقرير لمقام عبوديتها.
وفي قوله :(وَادْخُلِي جَنَّتِي ) تعيين لمستقرها ، وفي إضافة الجنة إلى ضمير المتكلم تشريف خاص ، ولا يوجد في كلامه تعالى إضافة الجنة إلى نفسه تعالى وتقدس إلاّ في هذه الآية (3) هذا كلّه حول المقسم به.
وأمّا المقسم عليه فهو محذوف معلوم بالقرينة أي ( لتبعثنّ ) وإنّما حذف للدلالة على تفخيم اليوم وعظمة أمره ، قال تعالى : (ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) [الأعراف: 187] وقال : ( إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى) [طه : 15] ، وقال : (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) [النبأ : 1، 2]. (4)
وأمّا وجه الصلة بين المقسم به والمقسم عليه فواضح فإنّ الإنسان إذا بعث يوم القيامة يلوم نفسه لأجل ما اقترف من المعاصي إذ في ذلك الموقف الحرج تنكشف الحجب ويقف الإنسان على ما اقترف من المعاصي والخطايا فيندم على ما صدر منه قال سبحانه : (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [يونس : 54] ، وقال سبحانه : (وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[سبأ : 33] وبالجملة فيوم القيامة يوم الندم والملامة ، ولات حين مناص.
من كتاب : مفاهيم القرآن / المؤلف : جعفر السبحاني .
________________
(1) الميزان : 20 / 285.
(2) جامع السعادات : 1 / 63 ـ 64.
(3) الميزان : 20 / 286.
(4) الميزان : 20 / 104.
اترك تعليق