فقه الإعلام.. المنبر الحسيني أُنموذجاً

تصدير

الكلمة والكلام والقول، كل أولئك يحتل مكانة مُتميزة في الإسلام، فاعتنى بها عناية فائقة، وجعل لها رقابة ومسؤولية مهمة، فهو مصداق لكل خير أو شر، بحسب استعمال المتكلم أو الكاتب؛ فإنْ كان يدعو إلى الخير والفضيلة فهو خير، وإن كان يدعو إلى الشـرِّ والرذيلة فهو شرٌّ.

ولِعظم أهمية تلك المفردات وخطرها في الإسلام جعل الله عزوجل عليها رقيباً وحسيباً، كما في قوله تعالى: (مَا يَلْفِظُ من قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)[1].

والكلام عمليّة ربط مضمونات الفكر الإنساني بأصوات ينتجها النطق، وذات دلالات اصطلاحية في البيئة الاجتماعية التي تجري فيها هذه العملية. والأصل في اللغة أن تكون كلاماً ومشافهةً.

ثم إن للكلمة دوراً مهماً وعظيماً في التوعية والإرشاد، وهي العنصر الأساس في الإعلام والتبليغ؛ لأنها أهم وسيلة للتعبير عن أطروحات الفكر النيّر، ونشـر المبادئ السامية والأفكار الخلاَّقة، بل تُعدّ المحور الأبرز، والدعامة الرصينة الفاعلة، التي ترتكز عليها الوسائل الإعلاميّة المختلفة والمتنوعة، على الرغم من تطوُّر مراحلها وتغيّر وسائلها، وتعدُّد أدواتها وسعتها.

كما أن للكلمة ـ وتنوع استخدام الكلام ـ أثراً بارزاً، فهي عنصـرٌ فاعلٌ ومحركٌ في تأجيج الأحاسيس والمشاعر واستيعابها، وبيان ما في القلب والنفس والفكر، فالكلام كما قال الإمام الصادق عليه السلام: (هو إظهار ما في قلب المرء من الصفاء والكدر، والعلم والجهل)[2]. وهو عمليّة ربط مضمونات الفكر الإنساني بأصوات ينتجها النطق، وذات دلالات اصطلاحيّة في البيئة الاجتماعيّة التي تجري فيها هذه العملية. وأما الكتابة، فتُقصد إلى تمثيل الكلام المنطوق بطريقة منظورة، أي أنها تميِّز الكلام الملفوظ[3].

فالكلمة المكتوبة أو المسموعة هي العنصـر الأساس في دائرة الإعلام، وحولها تدور الوسائل الإعلاميّة المختلفة، فهي قناة الارتباط والتفاهم بين صاحب الرسالة أو الإعلاميّ وبين الناس والمتلقين، فينبغي أن تكون الكلمة المُلقاة أو الرسالة المعروضة، سليمة في مبناها، قويّة في معناها، مُحكمة في دلالاتها، وأن يكون صاحبها مؤمناً بما يعرضه متمسكاً به، كما ينبغي أن يتمتَّع بحسن الأُسلوب وقوّة العَرض والإقناع، ويمتلك كفاءة عالية على الاستدلال والبرهان، بعيداً عن الخداع والكذب، والمماطلة والسفسطة الفارغة، التي سرعان ما تكشفها الحقائق، وتظهرها الأيام؛ فيفتضح بين الناس، ويخسـر ثقتهم، وتسقط مكانته من النفوس، فلا يؤخذ عنه ولا يُقبل منه؛ فيسقط اعتباره بينهم، وتهتزّ مصداقيّته عندهم، سواء أكان شخصاً، كالخطيب أو الإعلامي، أم وسيلة إعلامية، كالصحيفة والقناة الفضائية ونحو ذلك.

إنّ الإعلام المسموع أو المقروء مسؤولية دينيّة وأخلاقية، واجتماعية وسياسية، وتربوية وتوعوية، يجب علينا مراعاتها، والحفاظ عليها مهما أمكن ذلك؛ تمهيداً لبناء المجتمع السليم والارتقاء بأبنائه.

كما أنَّ تَعَدُّد وسائل الإعلام وتنوعها، وشيوع وسائل الاتّصال وتطورها، مع إمكانيّة الحصول عليها والوصول إليها بسهولة ويسر، لا سيما في العقدينِ الأخيرين، جعل من هذا العالم الكبير بمثابة قرية صغيرة تتناقل المعلومات بين أطرافه المترامية، ساعة الحدث وعين الواقعة، وتتفاعل الجماهير مع الأحداث بأقصـى سرعة وحين الخبر، وأصبح الجميع مُتلقين مُنشَدّين إلى ما توصله لهم وسائل الإعلام، وما تَبُثّه من معلومات ووثائق، وأحداث ووقائع، وأخبار وصور، حيث أصبحت وسائل الإعلام الحديثة الرفيق القريب والصديق الحميم للمجتمع والأسرة والفرد، على اختلاف طبقاتهم ومستوياتهم الفكريّة والعقائديّة.

وسواء شئنا أم أبينا، لا بد من أنّ إحدى وسائل الإعلام الحديثة قد دخلت بيوتنا، ونازعت بعض خصوصيتنا، وفرضت إرادتها علينا في الجملة، تاركين وراءها، ركائز ثقافتنا وخصوصيتنا وبيئتنا، وربما قلبنا لها ظهر المِجن كما يقال في المثل[4]، بما تحمله هذه الوسائل الإعلاميّة من قدرة على التأثير والإقناع، والتجديد والإبداع، والحرية والانفتاح.

فما هو مفهوم الإعلام؟ وما هي أبرز وسائله وأدواته؟وما هي أهم أغراضه وأهدافه ومقوماته؟وما هي سمات وخصائص الإعلام الإسلامي؟ وما هو الوجه الفقهي للإِعلام في المنظور الإسلامي؟  وما هو دور المنبر الحسينيّ، وأثره الإعلامي في المجتمع الإسلامي أُنموذجاً؟

 وسيكون عرض صورة البحث على نحو الإيجاز والبيان؛ إذ يعتبر هذا البحث كمدخل لدراسةٍ أوسع لفقه الإعلام في المنظور الإسلامي.

 

الإعلام لغةً  واصطلاحاً:

الإعلام في اللغة: يُعبّر عن عدة معانٍ، كمعرفة الشـيء، أو الإخبار ونشـر المعلومات، أو الدعوى والتبليغ.

فلفظة الإعلام مشتقَّة من كلمة علم، ومعناها معرفة الشيء على حقيقته، وأيضاً تأتي الإعلام بمعنى الإخبار، وأعلمْ بالشـيء، أي: أبلغْ عنه وأخبرْ به، ومنه التعليم أي: تبليغ المعلومات وإيصالها.

فهي معانٍ مترادفة لمفهوم انتقال المعلومة وانتشارها في المجتمع من جِهةٍ ما، فرداً أو جماعة أو مؤسسة؛ لِتَكون لغةً للتفاهم والتفاعل، والتواصل والمشاركة بين أفراده، في ضِمن حدودهم الثقافيّة والبيئيّة.

أما في الاصطلاح: فهو: نشر الحقائق والأخبار والأفكار والآراء بين الجماهير بوسائل الإعلام المختلفة، كالصحافة والإذاعة والسينما، والمحاضرات والندوات والمؤتمرات، والمعارض وغيرها؛ وذلك بُغية التوعية والإقناع وكسب التأييد [5].

وقيل: هو مجموعة الوسائل الهادفة إلى تحقيق الاتّصال ونقل المعلومات والمعارف بموضوعيّة، بُغية الإخبار والتوجيه وتشكيل رأي الأمّة إزاء القضايا المطروحة [6].

وهناك معانٍ متعددة أُخر لتعريف وبيان مصطلح الإعلام، حاولنا لملمتها من هنا وهناك؛ لبيان وتوضيح المصطلح بأوسع الدلائل وأقرب المعاني هو: تزويد الناس بالأخبار الصحيحة والأحداث الواقعة، ونشـر المعلومات السليمة، ونقل الحقائق الثابتة والمعارف والعلوم الراقيّة، وانتقاؤها والتدقيق في صحتها، بناءً على وجهة نظرٍ ما، وفق سياسة هادفة، وغاية مرسومة، وحسب منهج تربوي معيّن، بغية تكوين رأي صائب في الأمّة، إزاء القضايا المعروضة، ومشكلة من المشكلات عند الجماهير، بحيث يعبّر هذا الرأي تعبيراً موضوعياً عن آراء الناس واتجاهاتهم وميولهم، كما يؤدي إلى تشكيل اتجاه الرأي داخل المجتمعات، هذا من أهم أغراضه وعوامله.

 

وسائل الإعلام

يقوم العمل الإعلامي على شكل من أشكال الاتّصال بالآخر لتبليغه فكرةً ما، وتتنوّع طرق وأشكال الاتّصال والتواصل، فقد تتمظهر بعدَّة مظاهر، كالخطب المنبرية، أو الندوات التثقيفيّة وحلقات الحوار، أو طبع المؤلفات والكتب ونشـر الروايات، كالمجلات والجرائد، انتقالاً إلى الرسائل الصوتية والمرئية كالإذاعة والتلفزيون، وصولاً إلى القنوات الفضائية، وإلى وسائل الفن الدرامي، كالتمثيل في المسـرح والسينما، ومعارض الفن التشكيلي، وغير ذلك من الطرق والوسائل والأشكال المتعددة والمتجددة، والتي تعرف بـوسائل الإعلام.

فكل أداة تنقل الآراء والأفكار والرؤى إلى الناس هي في الحقيقة وسيلة إعلاميّة، فهي القناة أو الرابط التي يَعْبُر منها الرأي إلى الناس، وفي الغالب أساسها الكلمة أو القول.

إذن؛ وسائل الإعلام: هي مجموعة الأدوات والآلات التي من خلالها يُعبّر صاحب الرسالة الإعلاميّة عن آرائه وأفكاره، وينقل آراءَه ومعارفه ـ أي مضمون الرسالة وماهيتها ـ إلى المتلقين أو المستمعين، بشكل مباشر أو غير مباشر، على اختلاف أنواعها وطرقها: كالإذاعة، أو التلفزيون، أو المسـرح، أو الصحافة المقروءة، أو المؤتمرات، أو المنبر ونحو ذلك.

هذا، وإنّ الفكرة هي أساس العمل الإعلامي، وقد تكون سياسيّة أو دينيّة أو اجتماعيّة أو اقتصاديّة، ويجب أن تكون الفكرة واضحة ومفهومة، وأن تتمكن من أن تحقق فعلاً التأثير والاستجابة، والسلوك المطلوب من المتلقي، وأن تخدم مصالحه، وأن يكون في حاجة إليها، وتتمشّى مع الصالح العام[7].

 

مقومات العمل الإِعلامي

إنّ مقومات العمل الإعلاميّ وقاعدته ترتكز على أربعة عناصر أساسيّة وثابتة، لا يمكن الاستغناء عن أحدها؛ لتكامل الصورة الإعلامية والهدف المنشود من ذلك، وهي:

الركيزة الأُولى: الإعلاميّ أو صاحب الرسالة الإعلاميّة.

الركيزة الثانية: المستمع والمتلقي والمخاطب، فرداً كان أو جماعة.

الركيزة الثالثة: الرسالة أو المضمون للطرح ـ من فكر أو ثقافة أو معلومة أو خبر ونحو ذلك ـ إلى المستمع والمتلقي والمخاطب.

الركيزة الرابعة: الأداة أو الوسيلة الإعلاميّة التي تكون الواسطة بين الإعلاميّ والمتلقي، سواء أكان المنبر أم الصحيفة أم الإذاعة أم القناة الفضائيّة ونحو ذلك.

إِن رسالة الإعلام رسالة سماويّة، أخلاقيّة تربويّة، نظير رسالة الأنبياء والأوصياء والعلماء، إن لم تكن مُكَمّلة لها.

 فلا بد أن تُبنى الرسالة الإعلاميّة على عُروضٍ عالية المضمون، سليمة الفكر، ذات هدف سامٍ، بما يخدم الأمّة وأبناءها، بعيداً عن الخداع والتَّضلِيل والمراوغة، والانحراف الفكري والأخلاقي والعقائدي، وهذا هو الهدف الأساس الذي تُبنى عليه رسالة الإعلام، وسلوك الإعلاميّ الملتزم.

 

الإِعلام الإِسلامي

الإعلام الإسلاميّ: هو إِعلام رساليّ داعويّ بنَّاء، وأسلوب من أساليب التأثير في الجماهير والرأي العام بشأن العقيدة الدينية، وهو أكبر من مجرد عمليّة الإخبار أو الإعلام؛ لأنه يفترض وجود علاقة ولاء قائمة أو ممكنة، فهو ليس دعاية؛ لأنه يرفض كل تشويه أو تمويه[8].

ويطلق على الإعلام الإسلامي في القرآن الكريم التبليغ أو البلاغ، وهو نقل الحقائق والإرشادات السماويّة للناس، دون كذب أو تحريف أو زيف، وهي مهمة رسول الله صلى الله عليه وآله والأنبياء والأوصياء والأولياء، كما في قوله تعالى: (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ)[9]، وقوله عزوجل:(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ)[10]، وقوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ من رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ من النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)[11].

فالإعلام الإسلامي هو عمليّة نقل المعلومات والحقائق إلى المتلقي بطريقة إسلاميّة؛ فإنه يتصف بكونه إِعلاماً ذا مبادئ أخلاقيّة عالية، وأحكام سلوكيّة راقية،ومبانٍ قِيَميِّة سامية، تكون مستمدة من تعاليم الدين الإسلامي الحنيف، ومستوحاة من سيرة النبي الكريم محمد صلى الله عليه وآله، وأهل بيته الأطهار عليهم السلام.

 ويجب أن يكون إعلاماً واضحاً غير مشوّش، وصريحاً ليس فيه ضبابية، وشفافاً لا يكتنفه الغموض، عفيف الأسلوب والعرض، نظيف الوسيلة والطريق، شريف القصد والهدف، ويتميز بأن غايته الحق، وقوله الصدق، لا يضلّ ولا يُضلل، ولا يتبع الأساليب الملتوية ولا الدنيئة في العرض والبيان، ولا يسلك سبل التغرير والخداع والكذب... بل طريقه التثبّت والدقّة والوضوح والاستقامة النابعة من حقيقة الإسلام، وعقيدة المسلم المبنيّة على تحري مَواطن العلم واليقين بالأمور، والابتعاد عن مَواطن الظن والوهم، والشبهة والريبة، قال تعالى: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً)[12]. أسلوبه اللِين والحكمة، والإرشاد القويم في الدعوة إلى منهج الدين الحنيف، كما أمر الباري رسولَه الكريم صلى الله عليه وآله، فقال عزوجل: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[13]، ثم مدحه تبارك وتعالى على أسلوب تعامله مع الناس وطريقة دعوته في نشـر الرسالة الإسلاميّة، فقال عزوجل: (فَبِمَا رَحْمَةٍ من اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا من حَوْلِكَ) [14].

كما أمر هارونَ وموسى عليهما السلام عندما أرسلهما إلى فرعون، فقال لهما: عزوجل (... اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) [15].

 فإن هذا الأسلوب والطريقة في الدعوة والعرض تبعث روح التآخي والمودة في المجتمع الإسلاميّ، وتزرع الألفة والمحبة بين أبنائه على اختلاف طبقاتهم ومذاهبهم، تمسكاً بقوله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا)[16].

إنّ الإِعلام الإسلاميّ يعتمد على كافة الوسائل الإعلاميّة المتاحة في المجتمع الإسلامي والإنساني، من وسائل مقروءة أو مسموعة أو مشاهدة، أو إقامة الندوات والبرامج والمؤتمرات، بعروض وموضوعات هادفة وموجّهة ومُحَكّمة.

هذا، وقد كانت للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسائله ـ التي نقلها لنا التاريخ ـ في تبليغ الرسالة وإيصالها إلى الناس، فتراه صلى الله عليه وآله تارة يدعو الناس على شكل ندوات أو مؤتمرات ـ إن صح التعبير ـ وذلك عندما جمع عشيرته وأهله ودعاهم ليبلغهم رسالته عندما نزل قوله تعالى:(وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ)[17].

وتارة استغلّ جانب التجمعات والمواسم العامّة: كالحج والعمرة، ومواسم التجارة لإلقاء الخطب على الناس، وعرض الدين الجديد عليهم، وبيان أحكامه وسننه وتشريعاته.

كما أنه صلى الله عليه وآله استغلّ منبر الشعر والشعراء في الدفاع عن الإسلام، والذبِّ عن أعراض المسلمين، وكان من الأدوات الإعلاميّة الفاعلة في ذلك المجتمع.

كما جعل الخطب في الصلوات الجامعة، وخطب صلاة الجمعة والعيد وغيرها من الوسائل الإعلامية المهمة، التي سخّرها في نشر تعاليم الدين الجديد، وتركيز عقائده، ونشـر مفاهيمه ومبادئه بين المسلمين، ونحو ذلك من الوسائل في حدود ذلك العصر.

 

الإعلام الإسلامي أهم وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

إن جميع الأمور والوسائل الإعلاميّة تجمعها ضابطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بشـروطه وأحكامه، التي روحها وديمومتها كل ما هو حَسن من القول أو العمل أو السلوك المعتدل في المجتمع الإنساني.

إن القيام بمسؤولية الإعلام الإسلاميّ الهادف ـ وعَرْض معالم الفكر الإسلامي النَيّر، ودفع الشبهات والأباطيل عن الدين الحنيف ورجاله المخلِصين، وفضْح الأراجيف الزائفة، التي تحاك ضد المجتمع الإسلامي وأبنائه، وبيان الحقائق الناصعة ونشـرها، والأخبار الواقعيّة من مصدرهاـ يُعدّ من الواجبات الكِفائية الأساسية، ومن المرتكزات الدينيّة الثابتة في الدين الإسلامي؛ بدلالة قوله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[18]، وقوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)[19].

فنرى أن الله تعالى قد مدح الأمّة بـالخَيريّةِ حال كونها تقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما مدحها بالإيمان به  عزوجل، وهذا إن دلّ على شيء، فإنه يدلّ على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

كما حضّ عليه عزوجل وأمر به، في وصيّة  لقمان الحكيم لابنه؛ إذ قال عزوجل على لسان لقمان: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ من عَزْمِ الأُمُورِ) [20].

وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: (لا يزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وتعاونوا على البر والتقوى، فإذا لم يفعلوا ذلك نُزعت منهم البركات، وسلط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء)[21].

وروي عن أبي جعفر عليه السلامأنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من طلب مرضاة الناس بما يسخط الله كان حامده من الناس ذامّاً، ومن آثر طاعة الله عزوجل بما يغضب الناس كفاه الله عزوجل عداوة كل عدو، وحسد كل حاسد، وبغي كل باغٍ، وكان الله عزوجل له ناصراً وظهيراً)[22].

وروى جابر عن أبي جعفر عليه السلام، قال: (يكون في آخر الزمان قوم يتبع فيهم قوم مراؤون، يتقرؤون ويتنسكون، حدثاء سفهاء، لا يوجبون أمراً بمعروف، ولا نهياً عن منكر، إلاّ إذا أمنوا الضـرر، يطلبون لأنفسهم الرُّخَصَ والمعاذير، يتبعون زلاّت العلماء وفساد عملهم، يقبلون على الصلاة والصيام وما لا يكلِمهم في نفس ولا مال، ولو أضرت الصلاة بسائر ما يعملون بأموالهم وأبدانهم لرفضوها كما رفضوا أسمى الفرائض وأشرفها، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، هنالك يتمّ غضب الله عليهم فيعمُّهم بعقابه، فيهلك الأبرار في دار الفجار، والصغار في دار الكبار.

 إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء، فريضة عظيمة، بها تقام الفرائض وتأمن المذاهب وتَحُلّ المكاسب، وتُرَدّ المظالم، وتُعمّر الأرض، وينتصف من الأعداء، ويستقيم الأمر، فانكُرُوا بقلوبكم، والفظوا بألسنتكم، وصكّوا بها جباههم، ولا تخافوا في الله لومة لائم، فإنْ اتعظوا وإلى الحق رجعوا فلا سبيل عليهم، إنما السبيل على الذين يَظلمون الناس، ويَبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم، هنالك فجاهدوهم بأبدانكم، وابغضوهم بقلوبكم، غير طالبين سلطاناً، ولا باغين مالاً، ولا مريدين بظلمٍ ظفراً، حتى يفيئوا إلى أمر الله ويمضوا إلى طاعته)[23].

وروي عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام: (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلقان من خلق الله، فمَن نصـرهما أعزّه الله تعالى، ومَن خذلهما خذله الله تعالى)[24].

فالواجب الشرعي على أهل الإسلام والإيمان، التمسكُ بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في كل الظروف والأزمان، بحسب الإمكان وشرط الصلاح.

فالإعلام الإسلامي، والتبليغ والدعوة والإرشاد، من أبرز مصاديق فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا حياد فيه ولا تسامح ولا صمت، لا سيما إنكار المنكر، وإلاّ يكون ميت الأحياء، سواء أكان شخصاً أم جماعة أم وسيلة إعلاميّة، كما قال أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام: (مَن ترك إنكار المنكر، بقلبه ويده ولسانه، فهو ميت الأحياء)[25].

فإن الكلمة قد ترفع الإنسان إلى مقام الأنبياء والمصلحين بدعوته الصادقة، وكلمته النبيلة، أو بالعكس قد ينحدر إلى هوّةِ المُفسدين والمُضلليّن، إذا خان الكلمة الصادقة، وحاد عن  الصِراط.

 

فقه الإعلام

بعد أن عرفنا أن المحور الأساس في الإعلام هو الكلام أو القول، الذي به تخاطب عقول الناس وقلوبهم، وبواسطته وعن طريقه تصل رسالة الإعلامي أو المبلِّغ أو الداعيّة إلى الناس، سواء أكان ذلك مسموعاً أم مكتوباً، ينبغي علينا معرفة وجهة نظر الشريعة الإسلاميّة تجاه الإعلام، وهو ما يعبر عنه بـ فقه الإعلام.

وفقه الإعلام هو الطريق إلى فهم الموقف الشـرعي في المنظور الإسلامي، من خلال أدلة وأقوال الشارع المقدس، وفحوى خطابه، وفنون بيانه، في ضمن مقاصده الشـرعيّة التي رسمتها الشـريعة المقدسة، وأهم غاياتها وأهدافها، في إطار الأحكام الشرعيّة.

وحيث إن للإعلام الدور البارز في التأثير في الناس ـ وفي صياغة عقولهم وأفكارهم، وبناء ثقافتهم، وتوجيهها توجيهاً صالحاً، ونشر الوعي بينهم نحو الأهداف المقصودة ذات المُثل العليا والقيم السامية ـ فقد أَولى الإسلامُ أهميةً كبرى للجانب الإِعلامي، ورعاية خاصّة؛ للاستفادة منه في نشـر الدعوة الإسلامية وبثّ مبادئها وتعليم أحكامها.

فكان رسول الله صلى الله عليه وآله يأخذ أي وسيلة مشـروعة للدعوة والتبليغ، ويسلك أي طريق مُعبّدٍ لنشـر رسالته وإعلانها، بأشكال متعددة وألوان متنوعة، وحسب المقتضـي والحال.

كما يجب أن يُبنى الإعلام على الصدق والحقائق الموضوعيّة، بعيداً عن الكذب والتَّضليل وقلب الحقائق، والترويج للأفكار المنحرفة أو المشككة أو الهدّامة، فضلاً عن الفساد الفكري والأخلاقي؛ بمحاكاة الغرائز والعواطف، ونشـر الرذيلة.

وأن يكون إعلاماً ملتزماً بالأخلاق الفاضلة والقيم النبيلة والتعاليم الإسلامية، يسمو بالمجتمع إلى أدبيّات وسلوكيّات راقية، وأفكار وآراء واعية، تنسجمُ مع الأهداف النبيلة، التي تسعى إلى إقامتها الشـريعة الإسلاميّة بين الناس، وأن يحترم الإنسانَ ويقدس العقلَ، ويخاطبهما بالمنطق السليم.

 

فقه الإعلام في الكتاب العزيز

إنّ عمدة ما يُستدل به من القرآن الكريم على فهم الموقف الشـرعي في المنظور الإسلامي لفقه الإعلام، وما يرسم طريقه ونهجه ـ فيما أحسبه ـ هو قوله تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا)[26].

 والحُسن هو ضد القُبح، الذي هو كل ما خالف الشـرع والعقل، والناموس والعرف، والخلق الحسن والعادات الطيّبة في المجتمع، بل هو كل دعوى إلى الانحراف والانحلال عن السلوك المستقيم، والطريق السويّ للمجتمع الإسلامي الملتزم.

فالمراد من القول الحسن هو كل ما يوصل إلى القول والعمل بالمعروف شرعاً وعقلاً وعرفاً، والالتزام به والحثّ عليه، قولاً أو فعلاً أو سلوكاً، وتُلازمه الدعوةُ إلى النهي عن كل منكر وقبيح، شرعاً وعقلاً وعرفاً، والحثّ على الابتعاد عنه، قولاً وفعلاً وسلوكاً، وذلك في حدود أحكام الشريعة الإسلامية وثقافتها العامّة، قال تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ من رَبِّكُمْ) [27]، بعيداً عن تجريح الآخرين والتنكيل بهم، وإن خالفوا الدين والعقيدة والمذهب، ولكن بالحكمة والموعظة الحسنة: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [28].

وعلى هذا؛ يؤسّس الإعلام الإسلاميّ الملتزم، ويوجه لبناء مجتمع عقائدي واعٍ، متماسك وصالح.

فالحسن هو اسم جامع عامّ يضمُّ جميع معاني الحسن، من الخير والصلاح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونشـر معالم الدين، واللِين في القول، والابتعاد عن إشاعة الرذيلة والفاحشة، واللغو وقبيح القول والفضول فيه، والدعوة إلى التعايش السلمي بين أبناء المجتمع، بل كل ما اندرج تحت معنى الحسن، وبه صرّحت جملة من الروايات الشـريفة:

منها: ما رواه الشيخ الكليني بسنده، عن جابر بن يزيد، عن أبي جعفر عليه السلام، قال ـ في قول الله عزوجل: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا)ـ : (قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال فيكم)[29].

ومنها: ما روي في الكافي عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله عليه السلامـ في قول الله عزوجل : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) ـ قال: (قولوا للناس حسناً، ولا تقولوا إلا خيراً حتى تعلموا ما هو)[30]. فإنّ العلم بما يأمر به الإعلامي، والمعرفة بما يدعو إليه، وينهى عنه، من أهم شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا من أساسيّات العمل الإعلامي التبليغي.

والقَولُ الحسن، يشمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم المسائل والأحكام، والإرشاد إلى منافع الدنيا والآخرة، وكل ذلك يندرج في قوله عليه السلام: (ولا تقولوا إلا خيراً حتى تعلموا ما هو).

ولما كانت بوادر اللسان وآفاته كثيرة، نهى عن القول من غير تَفَكُّر، وأمرَ بإحضار القلب، وهو التفاته إلى معرفة حقيقة الشيء أولاً، ثم التكلم بما هو الحق الخالص[31].

وقال الشيخ الطبرسي: (واختُلف في معنى قوله حُسْنًا، فقيل: هو القول الحسن الجميل، والخلق الكريم، وهو مما ارتضاه الله وأحبه، عن ابن عباس. وقيل: هو الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، عن سفيان الثوري. وقال الربيع بن أنس: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) أي: معروفاً.

وروى جابر عن أبي جعفر الباقر عليه السلام ـ في قوله : (قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا)ـ قال: قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال لكم، فإن الله يبغض اللّعّان السبّاب الطعّان على المؤمنين، الفاحش المتفحش السائل الملحف، ويحب الحليم العفيف المتعفف.

ثم اختُلف فيه من وجه آخر، فقيل: هو عامّ في المؤمن والكافر، على ما روي عن الإمام الباقر عليه السلام. وقيل: هو خاص في المؤمن.

واختلف مَنْ قال: إنه عامّ، فقال ابن عباس وقتادة: إنه منسوخ بآية السيف، وبقوله عليه السلام: قاتلوهم حتى يقولوا: لا إله إلا الله، أو يقرّوا بالجزية. وقد روي ذلك أيضاً عن الإمام الصادق عليه السلام.

وقال الأكثرون: إنها ليست بمنسوخة؛ لأنه يمكن قتالهم مع حُسن القَولِ في دعائهم إلى الإيمان، كما قال الله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[32]، وقال في آية أُخرى: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ من دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْم[33] )[34].

على أنه يستفاد من بعض الآيات الشـريفة الأُخرى نفس المضمون والدلالة، منها: قوله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا)[35]، أي: قولاً صحيحاً.

وقال الشيخ الطوسي: ((قَوْلاً سَدِيدًا)، هو السليم من خلل الفساد، وذلك الحق بالدعاء إلى العدل... وأصل السديد من سدِّ الخلل، تقول: سددته أسدّه سدّاً، والسَداد: الصواب، والسِداد - بكسر السين - من قولهم: فيه سِداد من عوز، وسدد السهم: إذا قوَّمه)[36].

وقال أيضاً: ( (قَوْلاً سَدِيدًا)، أي: صواباً بريئاً من الفساد، خالصاً من شائب الكذب والتمويه واللغو)[37].

وقال الشيخ الطبرسي: ( (قَوْلاً سَدِيدًا)، أي: موافقاً للشرع) [38].

وأما الزمخشـري في الكشّاف، فقال : (قَوْلاً سَدِيدًا)، قاصداً إلى الحق، والسداد: القصد إلى الحق والقول بالعدل، يقال: سدّد السهم نحو الرَّميَّةِ، إذا لم يعدل به عن سمتها، كما قالوا: سهم قاصد... وعدل في القول، والبعث على أن يسدّ قولهم في كل باب؛ لأن حفظ اللسان وسداد القول رأس الخير كله، والمعنى: راقبوا الله في حفظ ألسنتكم وتسديد قولكم، فإنكم إنْ فعلتم ذلك أعطاكم الله ما هو غاية الطلبة من تقبل حسناتكم والإثابة عليها، ومن مغفرة سيئاتكم وتكفيرها. وقيل: إصلاح الأعمال: التوفيق في المجيء بها صالحة مرضيّة... وهذا على الأمر باتّقاء الله تعالى في حفظ اللسان([39].

ومن الآيات الكريمة قوله تعالى:(وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا)[40]، وقوله  عزوجل: (إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفًا) [41]، أي: قول الخير، وطلب الحلال، والبرِّ والصلة ونحو ذلك.

وقال تعالى: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ من صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ)[42].

وقال عزوجل: (طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ)[43].

وقال سبحانه وتعالى:(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي من الْمُسْلِمِينَ)[44].

وقال عز من قائل: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا)[45]، وأشباه ذلك، مما فرضه الله عزوجل لعمل اللسان، وأن يكون عليه حقيقة القول والبيان، في التبليغ والإعلان.

وهذه الآيات الكريمة يجمعها قول الحق مطلقاً، كما في قوله تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ من رَبِّكُمْ)[46]، الذي أمر به المولى عزوجل، ودعا إليه، وأرسل الأنبياء والرسل للدلالة عليه، وأنزل الصحف والكتب السماويّة؛ لبيانه وتوضيحه للعالمين أجمع.

 

فقه الإعلام في السنّة الشريفة

قد مرَّ عليك أنّ من أبرز مصاديق فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو الإعلام الإسلامي والتبليغ والدعوة والإرشاد، بكل أشكاله وتعابيره وصوره، الصادقة، الهادفة، الواقعيّة، التي تنبع من روح الدين الإسلامي وتغرس الفضيلة بين أبناء المجتمع، بأسلوب رصين متزن.

يمكن أن يُستدل بمجموعة كبيرة من المرويات في هذا الباب، فيمكن تطبيقها في فهم الموقف الشرعي في المنظور الإسلامي لفقه الإعلام، وحيث لا يسع المجال لسـرد العديد من الروايات، ونرى أنَ أقرب الروايات لبيان ذلك، هو ما ورد في وصيّةٍ للإمام جعفر الصادق عليه السلام يوصي بها شيعته ومحبيه، فيما رواه  سليمان بن مهران، قال: >دخلت على الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام وعنده نفر من الشيعة، فسمعته وهو يقول: معاشر الشيعة، كونوا لنا زيناً، ولا تكونوا علينا شيناً، قولوا للناس حسناً، واحفظوا ألسنتكم، وكفوها عن الفضول، وقبيح القولكونوا لنا زيناً، ولا تكونوا علينا شيناًعمدة الغرض هنا حسن القول مع المخالفين تقيةً، وكـذا المراد بـحفظ الألسنة حفظهـا عمّا يخالف التقيّة، والفضول زوائد الكلام، وما لا منفعة فيهقال رسول الله صلى الله عليه وآله: رحم الله عبداً قال خيراً فغنم، أو سكت عن سوء فسلمقال أهل التحقيق: كلام الناس مع الناس: إما أن يكون في الأمور الدينيّة، أو في الأمور الدنيويّة.

فإن كان في الأمور الدينيّة: فإما أن يكون في الدعوة إلى الإيمان وهو مع الكفار، أو في الدعوة إلى الطاعة وهو مع الفاسق. أما الدعوة إلى الإيمان، فلا بد وأن تكون بالقول الحسن، كما قال تعالى لموسى وهارون: (فَقُولاَ لَهُ قَوْلاَ لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)[50]، أمرهما الله تعالى بالرفق مع فرعون مع جلالتهما ونهاية كفر فرعون وتمرده وعتّوه على الله تعالى، وقال لمحمد صلى الله عليه وآله: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا من حَوْلِكَ)[51].

 وأما دعوةُ الفسّاق، فالقول الحسن فيها معتبر؛ قال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[52]، وقال: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)[53].

وأما في الأمور الدنيويّة، فمن المعلوم بالضـرورة أنه إذا أمكن التوصل إلى الغرض بالتلطف من القول لم يحسن سواه.

 فثبت أنّ جميع آداب الدين والدنيا داخلة تحت قوله تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا)وأشعِر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سَبُعاً ضارياً تغتنم أكلهم؛ فإنهم صنفان: إما أخٌ لك في الدين، وإما نظير لك في الخلقحسين مني وأنا من حسين< [59].

فإنّ رسالة المنبر الحسينيّ هي رسالة الإسلام، ومنهجه الدعوة للإيمان والإصلاح والتكامل الإنساني، وعلى ذلك؛ لا بد أن تكون رسالة الخطيب الحسينيّ رسالة الإسلام، وأهدافها عين أهدافه، ومضمونها هو مضمون رسالة الحسين ودعوته.

فكما أن الحسين عليه السلام كان ممثّلاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله في دعوته ومنهجه الذي يمثّل حُكم الله عزوجل في أرضه، فكذلك الخطيب الحسينيّ المفترض أنه يمثّل الحسين عليه السلام في دعوته ونهضته وأهدافه على منبره.

 

أهداف نهضة الحسين عليه السلام وشعارها

إنّ الإمام الحسين عليه السلام لم يخرج في نهضته لأهداف دنيويّة ولا لمصالح آنية، ولا طالباً لسلطة أو مال أو جاه؛ فإنه عليه السلام قد ملك أسباب ذلك كله، وحاز أصولَها وفروعها، وقد استغنى عنها، شرفاً ونسباً، علماً ومكانةً، إخلاصاً وإيماناً، غنىً وكرماً، شجاعةً وحلماً، جاهاً وتواضعاً، منزلةً وزهداً، إباءً ومروءةً، مع احتياج الكل إليه في ذلك.

ولكنها حميّة الرسول على ضياع الرسالة، وخوف الوصيّ من إهمال الوصيّة، وحرص المؤمن على حفظ صورة الدين؛ ولذلك قال عليه السلام عند مسيره إلى كربلاء: >إنّ هذه الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت، وأدبر معروفها، فلم يبقَ منها إلا صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل، ألا ترون أن الحق لا يُعمل به، وأن الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقَّاً، فإني لا أرى الموت إلا سعادة ولا الحياة مع الظالمين إلاّ برماًوأنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدي صلى الله عليه وآله، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب عليه السلام، فمَن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومَن رد عليَّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمينيا يزيد، ائذن لي حتى أصعد هذه الأعواد، فأتكلَّم بكلمات لله فيهن رضا، ولهؤلاء الجلساء فيهن أجر وثواب