ما من شك في أنّ الثورة الحسينية المباركة شكّلت حدثاً تاريخياً كبيراً في حياة الأُمّة الإسلاميّة، بل في مسار الإنسانيّة بصورةٍ عامةٍ. ولم تكن هذه الثورة محض حدثٍ تأريخي عابرٍ طواه الزمان فيما طوى من أحداث كثيرة، وإنّما مَثَّلت عنصراً حاضراً في فكر ووجدان وحركة الناس إلى يومنا هذا.
وحدث بهذا الحجم لا بدّ أن يُدرس دراسةً علميةً شاملةً، تغطي جميع أبعاده وآثاره.
ومن الواضح أنّ فَهم أيّ حدثٍ ما ـ فهماً حقيقاً كاملاً ـ يتوقف على فهم خلفيّاته ومنطلقاته؛ لأنَّ معرفة الخلفيّات تُلقي لنا أضواءً كاشفةً على طبيعة الحدث وأُسسه ومنطلقاته، وبدون التعرّف على خلفيّات أيّ حدثٍ أو موقفٍ ما ودراسته مقتطعاً عن سياقه التاريخي سوف ينتج نتائج مغلوطة ـ وفي أحسن التقادير ـ ناقصة وغير مكتملةٍ، خصوصاً تلك الأحداث الكبرى التي هي ليست ثمرة صدفةٍ عابرةٍ، أو موقفٍ ارتجالي مفاجئ، أو قرارٍ متسرّع.
وما من شك في أنّ الثورة الحسينيّة المباركة بحجمها الكبير، وبنتائجها الخطيرة، لم تكن أمراً ارتجالياً ناتجاً عن انفعال آني غير مدروس، وإنّما كانت نتيجة مواقف مسبقةٍ، وتراكمات عديدةٍ، وقرار مدروسٍ؛ كانت نتيجته تلك الثورة العظيمة، ومن دون ملاحظة تلك الظروف والمواقف السابقة، وقراءة الأحداث التي سبقت الثورة، يبقى تقييمها ـ أو إعطاء حكم موضوعي بشأنها، بل حتى فهمها فهماً كاملاً ـ أمراً غير ميسور.
وهذا هو الخطأ الذي وقع فيه بعض الدارسين لثورة الإمام الحسين عليه السلام؛ حيث حاولوا أن يدرسوها مجتزأة عن سياقاتها الدينيّة والسياسيّة، والاجتماعيّة والتاريخيّة، وحدّقوا فقط فيما جرى في كربلاء، وفي أحسن الأحوال حاولوا دراسة الثورة، من حين بدء سلطان يزيد بن معاوية وخروج الإمام الحسين عليه السلام من المدينة، وحتى استشهاده في كربلاء، ممّا جعلهم يصدرون أحكاماً خاطئةً تجافي الحقيقة، وتبتعد عن الواقع بمسافات طويلة.
من هنا؛ نجد من الضروري ونحن نحاول أن ندرس ثورة كربلاء أن نمرَّ على خلفيّاتها والأحداث السابقة عليها؛ لنتعرف على سياقاتها التي قامت فيها. ولا يخفى على المتتبع لمسرح الأحداث، أنّ الإحاطة بالظروف السابقة على الثورة وملاحقتها من جذورها الأُولى، يستدعي وقفةً طويلةً، وإسهاباً كثيراً هو خارج عن إطار هذا البحث، ولكننا سنقوم بقراءة سريعة نحاول من خلالها إعطاء صورة مقتضبة لتلك الظروف والخلفيّات.
سؤال هام
هناك سؤال يبرز بقوة أمام الدارس لأحداث التاريخ الإسلامي، وخصوصاً في تلك الحقبة التي انطلقت فيها الثورة الحسينيّة، وهو سؤال جوهري لا بدّ من البحث عن إجابة له، والسؤال هو: إنّ الفترة التي عايشها الإمام الحسين عليه السلام شهدت حكومة الطلقاء والأدعياء، وتَحَكُّمَهم بمصير الأُمّة، فما الذي حصل حتى يتمكّن الطلقاء والأدعياء من الاستيلاء على السلطة في الأُمّة والتحكم بمصيرها؟ وكيف وصلوا إلى ذلك؟ ليست قضيةً بسيطة أن يستولي الطلقاء ـ الذين حاربوا الرسول صلى الله عليه وآله والرسالة، وحاربوا الأُمّة طويلاً، ولم يَدخلوا في الإسلام إلا كُرهاًـ على زمام الأُمور فيها.
ثُمّ أيّ داهيةٍ دهت الأُمّة؟! وأيّ عوامل أدت بها إلى أن تصل إلى هذا المنحدر الخطير؟! بحيث تقتل ابن بنت نبيها وسبطه، وريحانته وسيد شباب أهل الجنة، وتسبي عياله كسبي الترك والديلم، هذا ليس سؤالاً بسيطاً فما الذي حدث؟!
لا نريد أن نرجع بك ـ أخي القارئ ـ بعيداً وإلى ما جرى بعد النبي صلى الله عليه وآله من نزاع على السلطة بكل جدلياتها وإشكالياتها، وإن كان النزاع على السلطة ـ وما أفرزه من نتائج ـ يرتبط ارتباطاً وثيقاً بفهم مسار الأُمور، وكيف وصل الأمر إلى الطلقاء؟! إذ من الواضح لو أنّ مسيرة الإسلام جرت كما قد خطط لها النبيُّ صلى الله عليه وآله من قبل، واستمرت التجربة الإسلاميّة بقيادة الإمام علي عليه السلامـ تلك القيادة الإلهيّة المعصومةـ لما وصل الأمر إلى الطلقاء وأبناء الطلقاء. فتَسلُّط الطلقاء وتغَلغُلهم في الجسد الإسلامي جاء نتيجة الأحداث التي أعقبت وفاة النبي صلى الله عليه وآله، والقيادات التي حكمت بعده تتحمل المسؤوليّة عن وصول الطلقاء إلى حكم المسلمين، ولكننا لا نريد الخوض في ذلك فعلاً؛ لأنّه يحتاج إلى بحث، بل بحوث مستقلةٍ هي أوسع مما نحن بصدده، وإنّما كلّ ما نحاول أن نركّز عليه، هو بدايات المشروع الأُمويّ، الذي استطاع أن يستولي على مقاليد الحكم في الدولة الإسلاميّة بفترة قياسيّة.
البراغماتية الأمويّة
الشخصيّة الأُمويّة شخصيّة نفعيّة مصلحيّة، بعيدة عن الالتزام بالمبادئ والثبات عليها، ولعلّ ذلك يرجع ـ بحسب نظر بعض الباحثين ـ إلى طبيعة عملهم في الأسواق والصفقات التجاريّة، التي جعلت من شخصيّاتهم شخصيّات نفعيّة لا تؤمن إلّا بمبدأ الربح والخسارة، ووهبتهم صبغة براغماتية في التعامل مع الأشخاص والأحداث.
وعندما بزغ نور الرسالة في مكّة المكرّمة، شعر الأُمويون بأنّ ذلك يشكّل تهديداً كبيراً لمصالحهم في مكة المكرّمة، خصوصاً وأنّه ظهر من خصومهم ومنافسيهم التقليديين بني هاشم؛ فتصدوا لقيادة جبهة العداء للقضاء على الرسول صلى الله عليه وآله والرسالة، وجيشوا الجيوش وقادوا المعارك في سبيل اجتثاث شجرة الرسالة الباسقة، واستئصال شأفتها، وإطفاء نورها الوقّاد. ولكنّ الله تعالى نصر نبيَّه وأفشل كلَّ محاولاتهم للنيل من رسوله، حتى أتى أمر الله وهم كارهون؛ فدخلوا في الدين الجديد تحت طائلة السيف، ولم يدخلوه بقناعة منهم أبداً، وعلى حدِّ تعبير أمير المؤمنين عليه السلام: «ما أسلموا ولكن استسلموا»[1]. ويقول عليه السلام في كتاب لمعاوية: «وأمّا قولك: إنا بنو عبد مناف، فكذلك نحن، ولكن ليس أُميّة كهاشم، ولا حرب كعبد المطلب، ولا أبو سفيان كأبي طالب، ولا المهاجر كالطليق، ولا الصريح كاللصيق، ولا المحق كالمبطل، ولا المؤمن كالمُدغِل، ولبئس الخَلف خلف يَتبَع سلفاً هوى في نار جهنّم، وفي أيدينا بعدُ فضلُ النبوَّة التي أذللنا بها العزيز، ونعشنا بها الذَّليل، ولمَّا أدخل الله العرب في دينه أفواجاً، وأسلمت له هذه الأمَّة طوعاً أو كرهاً، كنتم ممّن دخل في الدين إمّا رغبةً وإمّا رهبةً، على حين فاز أهل السبق بسبقهم، وذهب المهاجرون الأولون بفضلهم»[2]. وقال أيضاً متحدثاً عن معاوية: «لم يزل لله ولرسوله وللمسلمين عدواً هو وأبوه، حتى دخلا في الإسلام كارهين مكرهين»[3].
لقد رأوا أنّ الدين الجديد أصبح واقعاً لا مفرّ منه، ولا بدَّ من التعامل معه بأُسلوب جديد؛ لأنّ الوقوف بوجهه لن يجدي نفعاً، وقد علّمتهم السنوات الماضية ذلك جيداً. والشخصيّة البراغماتية تُحسِن التعامل مع متغيرات الواقع وتوظيفها لصالحها، فمن الغباء أن تواجه هكذا موجة بحر عاتية تكسر أضلاعها، في حال أنّ بإمكانها أن ترتقيها لتوصلها إلى الشاطئ، إذا كانت من ركاب الأمواج الجيدين.
لقد رأى الأُمويون أن لا فائدة في مواجهة المدّ الإسلامي، فلماذا الإصرار على مواجهته وهو قد يُتيح لهم فرصة استثنائية لم تكن تتوفر لهم في أيام الجاهلية إن أحسنوا استغلالها؟! فهذا الدين الجديد اكتسح الجزيرة العربية، وأسّس له سلطاناً مكيناً في ربوعها، ومن الممكن أن تتسع رُقعته إلى ما لم يتصوره أحد منهم، فلماذا لا ينزعون جلدهم ويلبسون جلداً ثانياً يتغلغلون من خلاله إلى الاستيلاء عليه؟!
إنّ بني أُميّة كانوا يعلمون جيداً أنّ فرصتهم قليلة جداً في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله، ولكن عليهم أن ينظروا نظرةً بعيدةً، وأن يُخططوا للمستقبل الآتي، وهكذا كان!
وقد كان النبيّ صلى الله عليه وآله يُدرك ذلك جيداً، وأنّ القوم سيحاولون التسلُّق إلى قمة المجتمع الإسلامي، وقد رأى في منامه ـ الذي لا يأتيه الباطل ـ كأنّ قردةً ينزون على منبره، وقد عَلِم أنّهم بنو أُميّة، وهم الشجرة الملعونة؛ ولهذا حذّر المسلمين من ذلك كثيراً، بل قالها بصراحة تامة: «الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان»[4].
بداية التغلغل الأُمويّ
كان أبو سفيان يَعرف جيداً أنّه لا فرصة لديه لتبوّء منصب مهمّ في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله، وكذلك سوف لن تكون حظوظه كثيرةً في سلب سلطان محمّد صلى الله عليه وآله، الذي كان يحلم به بعدَ وفاته مباشرةً، فهو عدو المسلمين بالأمس، وليس له في الأمر قَدم ولا قِدَم، ولكن بإمكانه أن يتسلل تحت عباءة اللاعبين الرئيسين في المسرح.
لقد حاول أن يُجرِّب حظّه في البداية مع أمير المؤمنين علي عليه السلام، مستغلاً حنق الإمام علي عليه السلام ممّا جرى في السقيفة من جهة، وقلّة ناصريه من جهة أُخرى. فجاء إلى أمير المؤمنين عليه السلام وحاول أن يستثيره، وأن يتلاعب بمشاعره تجاه اختطاف بني تيم وعديّ لخلافة رسول الله صلى الله عليه وآله، وهم غير لائقين بها في جاهليّة أو إسلام ـ كما كان يرى ـ وكذلك حاول أن يجعله يثور عليهم ويناجزهم القتال، واعداً إيّاه بأنّه سيملؤها عليهم خيلاً ورجالاً إن شاء.
وهنا تبرز قمّة البراغماتية السياسيّة في موقفه هذا، فهو لا يمانع أن يتحالف مع علي عليه السلام خصم الأمس، ما دام أنّه يوفّر له مصالحه، فالقاعدة البراغماتية تقول: ليس لنا أصدقاء دائمون، ولا أعداء دائمون، ولكن لنا مصالح دائمة.
وبطبيعة الحال، لم يذكر التأريخ أنّه اشترط على الإمام علي عليه السلام شرطاً في مقابل ذلك، ولكنّه كان في مرحلة جسّ النبض، واكتشاف المواقف، ولو أجابه أمير المؤمنين عليه السلام لمِا أراد ـ وتلهّف إلى التحالف معه ـ لوضع حينها قائمةً بالشروط التي ستؤمّن له أو لأولاده مكاناً في الدولة الإسلاميّة. ولكن موقف أمير المؤمنين عليه السلام كان حازماً وحاسماً، فرفض هذا العرض رفضاً قاطعاً، وطرد أبا سفيان؛ لأنّه كان يُدرك أنّ الرجل لا يفكّر في مصلحة الإسلام، ولا في مصلحة علي عليه السلام، وإنّما كان يفكّر في مصلحته الشخصيّة ومصلحة عشيرته فقط.
وهنا تظهر المبدئيّة العلويّة في أروع صورها، في مقابل النفعيّة الأُمويّة المخادعة.
بعد أن يئس أبو سفيان من الإمام علي عليه السلام مثلما يئس من ابن عمّه المصطفى صلى الله عليه وآله، وأنّه لن يُداهن في أمر دينه، كان لا بدّ من البحث ـ إذاً ـ عن منفذ آخر يُؤمّن تغلغل بني أُميّة في الجسد الإسلامي؛ وذلك من خلال التقرّب إلى السلطة الحاكمة نفسها، فبإمكانه أن يكون حليفاً قوياً لها، ويكون داعماً كبيراً لسياساتها، وسائراً تحت مظلّتها، متسلّقاً شيئاً فشيئاً حتى يصل إلى قمّتها. وهذا ما يظهر من وصيّته لولده معاوية بعد أن ولّاه عمر بن الخطاب الشام: «يا بني، إنّ هؤلاء الرهط من المهاجرين سبقونا وتأخّرنا، فَرَفَعهم سَبقِهم وقِدَمِهم عند الله وعند رسوله، وقصّر بنا تأخيرنا؛ فصاروا قادةً وسادةً، وصرنا أتباعاً، وقد ولَّوك جسيماً من أُمورهم، فلا تخالفهم؛ فإنّك تجري إلى أمدٍ فنافس، فإن بلغته أورثته عَقِبَك»[5].
وفي هذا الكلام إشارة واضحة إلى غاية أبي سفيان ومبتغاه، من أنّ الإمرة تليق بهم لا بهؤلاء، ولكن ما العمل مع وجود أمر واقع لا بدّ من مسايرته، وهو سَبق هؤلاء في الدخول إلى الإسلام؛ وبذلك استطاعوا أن يتبوّأوا هذه المناصب القياديّة، فلا سبيل إلّا بمتابعتهم ومسايرتهم. فمعنى كلامه المتقدّم بعبارة أُخرى: هو أنّ هؤلاء سبقونا في الدخول إلى الإسلام، فأخذوا المناصب، ونحن مضطرّون لأن نكون تبعاً لهم، ولا نستطيع أن نَخطِف منهم الإمرة بسرعة؛ لأنّنا لا نَملك المقبوليّة الكاملة في المجتمع الإسلامي؛ فعلينا أن نَسير بخطىً وئيدةٍ، وأن نُساير القوم ونُبدِي لهم كمال الطاعة والانقياد إلى أجل مسمّى، وعليك أن تنافس في الوصول إلى الغاية، والغاية هي: الحكم الذي ستورثه في عَقِبك فتنشأ عندها الإمبراطورية الأُمويّة.
ويكشف لنا هذا النص مسألة خطيرة جداً، وهي أنّ توريث الخلافة الإسلاميّة ـ وجعلها ملكاً عضوضاً ـ مسألة قد خُطِّط لها من قبلُ، وحتى قَبلَ أن يصل بنو أُميّة إلى السلطة، وهو الأمر الذي جَرّ الويلات على الأُمّة الإسلاميّة.
بنو أُميّة في أروقة السلطة
أدرك أبو سفيان وبطانته أنّ الأمر انتُزع من بني عبد مناف، وصار لبني تيم وعديّ، وهو وإن كان رافضاً لذلك من منطلق قَبَليّ؛ لأنّه يرى أنّ بني تيم لا يملكون من الشرف والسؤدد بين العرب ما يؤهلهم أن يكونوا ملوك الناس وأسيادهم، إلّا أنّه أدرك أنّ هذه المعادلة أصبحت أمراً واقعاً يصعب تغييرها، فلا بدّ إذاً من التعامل معها والانضمام إليها تماماً كما فعل مع واقع الإسلام الذي انتصر على جبهة الكفر.
لم تمانع السلطة الحاكمة آنذاك أن تغازل أبا سفيان وأن تخطب ودّه؛ لمكانته في قريش من جهة، ولتأثيره الكبير على مُسلِمة الفتح، الذين يشكّلون الغالبيّة السكانيّة في المجتمع الإسلامي آنذاك من جهة أُخرى، فهو يُشكل خطراً كبيراً على السلطة الحاكمة آنذاك، أو لا أقل أنّ باستطاعته أن يُسبب لها بعض المشاكل والصداع، فلا بدّ من احتوائه إذاً. وبما أنّهم يعرفون أنّ أبا سفيان يُحب المال والسلطة، فقد لبّوا له الأمرين معاً؛ ولذا لمّا جاء أبو سفيان ـ وكان قد بعثه النبيّ صلى الله عليه وآله جابياً للصدقات ـ وعَرف أنّ أبا بكر قد بُويع بالخلافة، وقال: أرى عجاجة لا يُطفِئُها إلّا الدم... جاء عمر لأبي بكر وقال له: «إنّ هذا قد قَدِم، وهو فاعل شراً، وقد كان النبيّ يستألفه على الإسلام، فدع له ما بيده من الصدقة. ففعل؛ فرضي أبو سفيان وبايعه»[6].
فكانت بيعته في مقابل استحواذه على ما بيده من أموال الصدقة، أو قل: إنّ الخليفة الجديد اشترى بيعة أبي سفيان بالأموال.
لكنّ أبا سفيان لم يقنع بهذه الكعكة الصغيرة ثمناً لسكوته ومبايعته؛ فهو يطمح لمناصب في الدولة، فأرضته السلطة بذلك أيضاً. روى الطبريّ عن حمّاد بن سلمة عن ثابت، قال:«لمّا استُخلف أبو بكر قال أبو سفيان: ما لنا ولأبي فصيل؟! إنّما هي بنو عبد مناف. قال: فقيل له: إنّه قد ولّى ابنك. قال: وصلته رحم»[7].
فحزب الطلقاء بقيادة بني أُميّة لم يجدوا أيَّ ممانعة عند دخولهم في السلطة الجديدة، بل على العكس، فقد فُتحت لهم الأبواب ليتبوّأوا مناصب عُليا في الدولة الإسلاميّة. وكان دخولهم في جسد السلطة السياسيّة دخولاً تدريجياً تصاعدياً، بدأ ضيقاً في زمن أبي بكر، واتسع في زمن عمر، وتمكّن في زمن عثمان. وهذا التدرّج أمر طبعي، بل ضروري، فليس بإمكان السلطة في بداية أمرها أن تفسح مجالاً واسعاً للطلقاء، ليشكّلوا حضوراً لافتاً في أجهزتها؛ لأنّ ذلك سيُثير حفيظة المسلمين، ويُثير الشكوك والمخاوف في نفوسهم. فلا بدّ من تأهيل حزب الطلقاء تدريجياً ليصبحوا مقبولين في المجتمع الإسلاميّ.
ومن هنا؛ نرى أنّه أُعطيت مجموعة من المناصب لحزب الطلقاء في بداية حياة السلطة الجديدة، وخصوصاً بني أُميّة، وقد بعث الخليفةُ الأول يزيدَ بن أبي سفيان وأخاه معاوية بن أبي سفيان، وخالد بن سعيد بن العاص، وعمرُ بن العاص على رأس جيش الشام، ليتولاها بعد ذلك في زمان الخليفة الثاني يزيد بن أبي سفيان، ومن بعده أخوه معاوية.
والمُلاحظ أنّ الخليفة الأول والثاني ـ فضلاً عن الثالث ـ استعملوا على الأمصار الإسلاميّة مجموعةً كبيرةً من الطلقاء، ومُسلِمة الفتح، ولم يستخدموا أحداً من بني هاشم، أو مَن يدور في فَلَكِهم من أنصار ومهاجرين، فقد قيل لعمر بن الخطاب: «إنّك استعملت يزيد بن أبي سفيان وسعيد بن العاص ومعاوية وفلاناً وفلاناً من المؤلفة قلوبهم من الطلقاء وأبناء الطلقاء، وتركتَ أن تستعمل علياً والعباس والزبير! فقال: أمّا عليّ، فأنبه من ذلك، و أمّا هؤلاء النفر من قريش، فإنّي أخاف أن ينتشروا في البلاد، فيكثروا فيها الفساد»[8].
وعلى أيّة حال، فإنّ بني أُميّة استطاعوا أن ينضمّوا إلى السلطة، وأن يبحثوا لهم عن موطئ قَدم فيها، وراحوا يعملون بدبلوماسيّة ناعمة، حتى تمكنوا من ذلك فعليّاً في زمن الخليفة الثاني، ووجدوا لهم موطئ قَدم في بلد يُعدّ من أهمّ البلاد الإسلاميّة، حيث استخلف عمرُ بن الخطاب يزيدَ بن أبي سفيان على الشام، ثمّ بعد أن مات استخلف أخاه معاوية بن أبي سفيان، ووسّع من رقعة ولايته، فجمع له الشامات كلَّها، وأعطاه صلاحيّات واسعة، لم يعطها لواحد من ولاته على الأمصار؛ تحت ذريعة تقوية الخاصرة الشماليّة للدولة الإسلاميّة.
لم يكن عمر بن الخطاب ـ كما يروي المؤرخون ـ يحاسب معاوية كما يحاسب بقيّة عمّاله، فقد عُرف عنه أنّه كان شديداً مع العمّال، فقد تعتع بخالد بن الوليد عامله على قنسرين، لمّا بلغه أنّه أعطى الأشعث عشرة آلاف؛ فأمر بلال الحبشيّ، فعقله بعمامته وأوقفه بين يديه على رِجل واحدةٍ مكشوف الرأس بين الملأ، ثمّ بعد ذلك عزله، ولم يُولّه حتى مات. وأوجع أبا هريرة ضرباً بالدُرّة لمّا كان عامله على البحرين، وقصصه كثيرة في ذلك. لكنّه لم يكن يحاسب معاوية على شيء من ذلك، وإذا بلغه عنه شيء دافع عنه، فقد روى ابن كثير في البداية والنهاية عن الزهريّ، قال:«ذُكر معاوية عند عمر بن الخطاب فقال: دعوا فتى قريش وابن سيّدها، إنّه لمن يضحك في الغضب، ولا ينال منه إلّا على الرضا، ومَن لا يؤخذ من فوق رأسه إلّا من تحت قدميه» [9].
وروى الذهبيّ في سير أعلام النبلاء قائلاً:«لمّا قَدِم عمر الشام تلقّاه معاوية في موكب عظيم وهيئة، فلمّا دنا منه قال: أنت صاحب الموكب العظيم؟ قال: نعم. قال: مع ما بلغني عنك من طول وقوف ذوي الحاجات ببابك. قال: نعم. قال: ولم تفعل ذلك؟ قال: نحن بأرض جواسيس العدو بها كثير، فيجب أن نظهر من عز السلطان ما يرهبهم، فإن نهيتني انتهيت. فقال: يا معاوية، ما أسألك عن شيء إلّا تركتني مثل رواجب الضرس لئن ما قلت حقاً إنّه لرأي أريب، وإن كان باطلاً فإنّه لخدعة أديب. قال: فمرني. قال: لا آمرك ولا أنهاك»[10].
نعم، إنّه لا يأمره ولا ينهاه، فقد أعطاه الحريّة الكاملة في التصرف. وكان إذا رآه قال: «هذا ابن أبي سفيان كسرى العرب»[11].
يقول الشيخ محمود أبو ريّة: «ممّا يدعو إلى المُلاحظة هنا، أنّنا لم نجد عمر رضي الله عنه قد اتبع هذه السنّة في معاوية بن أبي سفيان، فقد أبقاه عاملاً على دمشق سنين طويلة، ولم يزعجه بالعزل كغيره، وكان ذلك ممّا أعان معاوية على طُغيانه، وأن يحكم حكماً قيصريّاً طوال أيامه»[12].
نعم، استغل معاوية هذه الصلاحيّات، واستفاد من عدم مؤاخذة الخليفة له، فراح يبني له سلطاناً قويّاً في تلك البقعة المهمّة من الدولة الإسلاميّة، لا تنافسه في قوته واستحكامه إلّا عاصمة الدولة في زمان عمر بن الخطاب.
وكان اختيار الشام من قبل بني أُميّة من الأساس اختياراً دقيقاً وماكراً؛ لأنّهم علموا أنّ مشروعهم الكسرويّ لا يمكن أن ينمو في مدينة النبي صلى الله عليه وآله، فتركيبتها الجغرافيّة والديموغرافيّة والاجتماعيّة والدينيّة لا تشكل بيئة مناسبة للمشروع الأُمويّ، بخلاف الشام التي كانت تغايرها في كلّ ذلك، ولا مجال للتفصيل في بيان هذه المسألة الهامة.
بلوغ الهدف
لقد حاول حزب السلطة القرشيّ تسويق الأُمويين في الساحة الإسلاميّة، وراح يعدُّ الأرضية لهم ليتولوا قيادة الحزب؛ لأنّهم الأجدر في الحفاظ على مكتسبات بطون قريش، والأقدر على إقصاء بني هاشم من الساحة. وفعلاً تمّ ذلك من خلال الشورى السداسيّة التي أفضت إلى انتخاب عثمان بن عفّان لمنصب الخلافة.
تكللت جهود الأُمويين بالنجاح من خلال اختيار ابن عمّهم عثمان بن عفّان خليفة للمسلمين، فها هم يتولون زمام الأُمّة التي حاربوها طويلاً، ونالوا بالسلم والمراوغة ما لم ينالوه بالحرب، وها هي الخلافة كُرَةٌ يتلاقفها صبيانهم بأمر من زعيمهم صخر بن حرب (أبي سفيان).
روى ابن أبي الحديد المعتزليّ عن الشعبيّ: «بعد أن صَفَق عبد الرحمن بن عوف على يد عثمان معلناً اختياره خليفة للمسلمين، اجتمع بنو أُميّة كلّهم في دار عثمان حتى امتلأت بهم الدار، ثُمّ أغلقوها عليهم، فقال أبو سفيان بن حرب: أعندكم أحد من غيركم؟ قالوا: لا. قال: يا بني أُميّة، تلقَّفوها تلقّف الكرة، فوالذي يحلف به أبو سفيان، ما من عذاب، ولا حساب، ولا جنّة، ولا نار، ولا بعث، ولا قيامة!»[13].
وفي سقيفة الجوهريّ أنّ أبا سفيان، قال: «كان هذا الأمر في تيم، وأنى لتيم هذا الأمر، ثُمّ صار إلى عديّ فأبعد وأبعد، ثُمّ رجعت إلى منازلها واستقر الأمر قراره، فتلقّفوها تلقّف الكرة»[14].
وفي الاستيعاب أنّه قال لعثمان بعد أن انتُخب خليفة:«صارت إليك بعد تيم وعديّ، فأدرها كالكرة، واجعل أوتادها بني أُميّة؛ فإنّما هو المُلك، ولا أدري ما جنّة ولا نار»[15].
وقد نَفَّذ عثمان وصيّة أبي سفيان، وجعل أوتادها بني أُميّة وحلفاءهم، فقد جعل على الشام معاوية، وعلى مصر عمرو بن العاص، وعلى الكوفة الوليد بن عقبة، وعلى البصرة صهرهم عبد الله بن عامر بن كريز، وهذه هي أكبر وأهمّ الأمصار الإسلاميّة. وأمّا مروان فقد جعله وزيره الأعظم، فراحوا يستعبدون العباد، وينهبون خيرات البلاد، ويخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربيع على حدِّ تعبير أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة.
لقد كان إطلاق الخليفة الثالث يد أبناء عمومته في البلاد الإسلاميّة أحد أهمّ الأسباب التي أدت لنقمة المسلمين عليه؛ حتى ثاروا عليه وقتلوه. ولا نريد الخوض في تفاصيل ذلك؛ فإنّه خارج عن محلّ البحث.
والمُلاحظة المهمّة في حادثة مقتل عثمان: هي أنّ معاوية لم يحزن كثيراً، إن لم نقل: إنّه كان فرحاً بذلك؛ لأنّه سوف يستغل دم عثمان ذريعة للوصول إلى السلطة. بل إنّ معاوية بن أبي سفيان كان هو المستفيد الأول من مقتل عثمان بن عفّان، إن لم يكن من المساهمين في مقتله؛ لأنّه كان بإمكانه أن يتدارك الأمر، وأن يستجيب لطلب عثمان المتكرر بإرسال قوة عسكريّة رادعة من الشام تحمي الخليفة من تمرّد الجماهير، ولكن معاوية بن أبي سفيان تباطأ كثيراً في ذلك، وأراد للأمر أن ينتهي بهذه الطريقة؛ ليجد المبرّر في الدعوة لنفسه، ومنازعة الأمر أهله، تحت ذريعة كونه ولي الدم، المطالب بثأر عثمان بن عفّان.
قال ابن أبي الحديد المعتزليّ في شرحه على النهج:«روى البلاذري، قال: لمّا أرسل عثمان إلى معاوية يستمده، بعث يزيد بن أسد القسريّ جد خالد بن عبد الله بن يزيد أمير العراق، وقال له: إذا اتيت ذا خشب (موضع قريب من المدينة) فأقم بها، ولا تتجاوزها، ولا تقل: الشاهد يرى ما لا يرى الغائب. فإنّني أنا الشاهد وأنت الغائب. قال: فأقام بذي خشب حتى قُتل عثمان، فاستقدمه حينئذٍ معاوية، فعاد إلى الشام بالجيش الذي كان أرسل معه. وإنّما صنع ذلك معاوية ليُقتل عثمان فيدعو إلى نفسه»[16]. وفي رواية أُخرى أن عثمان قال لمعاوية بعد أن خذله: «لا والله، ولكنك أردت أن أُقتل فتقول: أنا ولي الثأر، ارجع فجئني بالناس. فرجع ولم يعد إليه حتى قُتل»[17].
الصحوة المتأخرة
بعد مقتل الخليفة الثالث اتجهت الأنظار صوب أمير المؤمنين عليه السلام، ولم تُدرِك الأُمة ـ ولسنين طويلة ـ خطورة المسار الذي اختارته، والنتيجة التي وصلت إليها، إلى أن أحسّت بذلك بعد غَرقِها في الوحل الأُمويّ الذي لم تدرِ كيف تتخلص منه، ولم تدرِ كيف وصلت إليه، فصحت واستيقظت، ولكن صحوتها كانت متأخرةً جداً، بعد أن بلغ السيل الزُّبى.
لقد أدركت الأُمّة النتيجة الخطيرة لمسارها، والعواقب الوخيمة التي تحملتها عندما وضعت الحق في غير نصابه، وجعلت الأمر في غير أهله، حيث لم تجنِ إلّا وضعاً متردياً على جميع الأصعدة والمستويات، سواء في ذلك الدينيّة منها أو السياسيّة أو الاقتصاديّة أو الاجتماعيّة أو الأخلاقيّة، وعَلِمت أنّها لا مخرج لها من ذلك إلّا بالرجوع إلى مَن أخّرته جهلاً وعدواناً، فليس هناك في الأُمّة مَن يستطيع أن يُغيّر هذا الواقع المتأزم المريض غير علي بن أبي طالب عليه السلام.
وهكذا كان؛ فقد قصدوه بعد مقتل عثمان بن عفّان، وتداكّوا على بابه تداكّ الإبل العطاش على مورد الماء، حتى وطِئ الحسنان، وشُق عِطفاه، مجتمعين حوله كربيضة الغنم، يطلبون منه أن يتولى أمرهم ويقود أُمتهم.
لكن أمير المؤمنين عليه السلام لم يُسارع في الاستجابة لهم، لا لأنّه لا يرى لنفسه حقاً فيها كما يزعم بعض مَن يقرأ ظواهر الأحداث، ولا لأنّه نَكل عن القيام بمهمّة الإصلاح الكبرى والخطيرة بعدما أتعبته السنين العجاف السابقة؛ بل لأنّه يريد أن يوحي لهم أولاً: أنّه لا مأربة له بالسلطان وبامتيازاته الدنيويّة، ولا يخطف بصره بريق المنصب كأولئك الذين يتقاتلون عليه طمعاً في ارتقاء أعواد لا قيمة لها عند علي عليه السلام. ويريد أن يُفهمهم ثانياً: أنّ الواقع أصبح معقّداً جداً وإصلاحه ليس بالمهمّة السهلة اليسيرة، وإنّما يتطلّب الخوض في مخاضات عسيرة للخروج من هذا النفق المظلم؛ ممّا يستدعي أن يضعوا ذلك في حساباتهم، وأنّه إذا تولّى أمرهم، ركب بهم جادّة الحق حتى وإن كانت وعِرَة المسلك، قال عليه السلام ـ كما في نهج البلاغة ـ: «دعوني والتمسوا غيري، فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول. وإنّ الآفاق قد أغامت، والمحجة قد تنكّرت، واعلموا أنّي إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم أصغِ إلى قول القائل، وعَتَب العاتب»[18].
فأجابهم عليه السلام بعد إصرارهم، ولولا ما أخذ الله على العلماء أن لا يُقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم؛ ممّا يجعل مسؤولية الإصلاح ثقيلة على كاهله، ولولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر حيث ينقطع العذر؛ لألقى حبلها على غاربها، ولسقى أخرها بكأس أولها، فليس الدنيا عنده بكل بريقها إلّا كعفطة عنز، كما قال في خطبته الشقشقية[19].
وكانت بيعة المسلمين للإمام علي عليه السلام ثقيلة جداً على معاوية، خصوصاً وأنّها بيعة إجماعيّة، هرع إليها الكبير، ودرج إليها الصغير، وستجعل الإمام علي عليه السلام يندفع لقتاله بقوة، والمسلمون جميعاً يداً واحدة معه، وحينئذٍ لا طاقة لمعاوية على مواجهته ودفعه؛ فلابدّ إذن من إضعافه في البدء وشق جبهته، ومن ثَمَّ التمرد عليه. وفعلاً راح يُغري بعض المسلمين بالخروج على إمام الحق، ليشُقَّ بذلك صف المسلمين ويشغل الجبهة العلويّة عن مجابهته، ويستنزف طاقاتها وإمكاناتها، وهكذا تمّ ما أراده وسعى له في حرب الجمل.
غير أنّ حرب الجمل لم تؤتِ أُكلها كاملة بالنسبة إلى معاوية، وإن تركت آثاراً سلبيةً على الواقع الإسلامي بصورةٍ عامّةٍ، وعلى جبهة أمير المؤمنين عليه السلام بصورةٍ خاصّةٍ، فقد استطاع أمير المؤمنين عليه السلام أن يحسم الموقف، وأن ينتصر في الحرب، وأن يوحّد صفوف الأُمّة لمواجهة الخطر الأُمويّ القابع في الشام.
وبعد أن وصل عليه السلام إلى الكوفة بعث بالكتب وبالرسائل والوفود إلى معاوية يدعوه فيها للرضوخ للحق، والدخول فيما دخل فيه المسلمون؛ ليحسم المسألة معه سلمياًً، بعيداً عن استحقاقات الحروب ونزف الدماء، ولكن معاوية لا يمكن أن يتنازل عن الحلم الأُمويّ الذي خطّط له هو وأبوه بهذه السهولة؛ وعليه كان الخيار العسكري هو الحاسم بالنسبة لأمير المؤمنين عليه السلام.
وفعلاً أعدّ له جيشاً من المهاجرين والأنصار، وأتباعهم من أهل الإيمان، وأصحاب البصائر، وفرسان الأمصار، وخاض معه حرباً طاحنة في صفّين، كانت فيها الغلبة لأمير المؤمنين عليه السلام، حتى ضاق الخناق على معاوية، وذاق طعم الهزيمة، وكان بينه وبين انهيار المشروع الأُمويّ خُطوات قليلة، لولا أنّه تدارك الموقف بمكيدة من عمرو بن العاص، برفع المصاحف ودعا إلى التحكيم، وخدع بعض البسطاء في جبهة أمير المؤمنين عليه السلام، واستطاع أن ينجو بنفسه من حبل المشنقة.
وعلى الرغم من أنّ حرب صفّين لم تستطع أن تحسم الموقف مع معاوية؛ لما حصل من انشقاق في صفوف جبهة أمير المؤمنين عليه السلام، أدى بالنتيجة إلى ما عُرف بحادثة التحكيم، إلّا أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان مُصِرَّاً على تطهير الجسد الإسلامي من الجراثيم الأُمويّة، ويظهر ذلك من كلمته المعروفة التي قالها عليه السلام في أُخريات حياته في الكوفة: «والله، لو تظاهرت العرب على قتالي لما وليت عنها، ولو أمكنت الفرصة من رقابها لسارعت إليها، وسأجهد في أن أُطهّر الأرض من هذا الشخص المعكوس، والجسم المركوس، حتى تخرج المدرة من بين حب الحصيد»[20]. ويقصد بالشخص المعكوس معاوية بن أبي سفيان.
وكان يقول عليه السلام: «فأمّا الناكثون، فقد قاتلت. وأمّا القاسطون، فقد جاهدت. وأمّا المارقة، فقد دوخت... وبقيت بقيّة من أهل البغي، ولئن أذن الله في الكرّة عليهم لأُديلنّ منهم إلّا ما يتشذّر في أطراف البلاد تشذّراً»[21].
فكان عليه السلام مُصِرّاً على اجتثاث المشروع الأُمويّ؛ وذلك لأنّه يُدرك مدياته وأبعاده وخطورته على مستقبل الإسلام، فكان يرى أنّ أخطر شيء يمكن أن يهدد الإسلام هم بنو أُميّة، وأنّ فتنتهم هي أشدّ الفتن. قال عليه السلام: «ألا إنّ أخوف الفتن عندي عليكم فتنة بني أُميّة؛ فإنّها فتنة عمياء مظلمة، عمّت خطتها، وخصّت بليتها، وأصاب البلاء مَن أبصر فيها، وأخطأ البلاء مَن عمي عنها، وايم الله، لتجدن بني أُميّة لكم أرباب سوء بعدي، كالناب الضروس، تعذم بفيها، وتخبط بيدها، وتزبن برجلها، وتمنع درّها. لا يزالون بكم حتى لا يتركوا منكم إلّا نافعاً لهم، أو غير ضائر بهم. ولا يزال بلاؤهم حتى لا يكون انتصار أحدكم منهم إلّا كانتصار العبد من ربّه، والصاحب من مستصحبه. ترد عليكم فتنة شوهاء مخشيّة، وقطعاً جاهليّة، ليس فيها منار هدى، ولا علم يُرى، نحن أهل البيت منها بمنجاة، ولسنا فيها بدعاة»[22].
ولهذا عزم عليه السلام أن يُعيد الكرّة على معاوية، ويجتث بني أُميّة بصورة حاسمة هذه المرّة، وندب قومه للتجهّز للهجوم، فانتدب له ـ على رغم التخاذل الذي أصابهم ممّا سيلم به بعد ذلك ـ أربعون ألفاً، سمّوا بشرطة الخميس، بايعوه على الموت، وشرطوا له إمّا النصر وإمّا الشهادة. وكان أمير المؤمنين عليه السلام ينتظر انسلاخ شهر رمضان؛ لكي يبدأ حملته الكاسحة، ولكن القدر لم يُمهِلهُ لينجز ذلك؛ فامتدت له يد الغدر عِبر مؤامرة لا نريد الخوض في تفاصيلها، فضربه عبد الرحمن بن مُلجم في صبيحة التاسع عشر من رمضان، فوقع في محرابه مخضّباً بدمائه، وبذلك يكون معاوية قد تخلّص من التهديد الأساسي لكيانه وسلطانه.
معاوية يتفرّد بالساحة
قرّت عين ابن أبي سفيان بمقتل الإمام علي عليه السلام، وأخذ نَفَسَاً عميقاً بعد أن سلب النوم من عينيه، ولم يبقَ أمامه الكثير لإنجاز مشروعه، فهو يعلم أنّ فُرص الإمام الحسن عليه السلام بعد أبيه قليلة جداً.
وهذه هي حقيقة الواقع آنذاك، فقد ورث الإمام الحسن عليه السلام جيشاً متعباً منهكاً من الحروب، قد خاض ثلاثة حروب دامية في أربع سنين، بينما لم يخض الجيش الأُمويّ سوى حرب واحدة، هي حرب صفّين. كما أنّه ورث جبهة ممزقة متشرذمة، لا يجمعها جامع، بينما كان لدى معاوية جبهة منسجمة متماسكة إلى أبعد الحدود. وكذلك صفة التمرد والتخاذل التي بدأت تبرز بصورة واضحة في الجيش الكوفي حتى اضطر أمير المؤمنين عليه السلام أن يخطب بهم تلك الخطبة الناريّة التي أنّبهم فيها، ووبّخهم توبيخاً شديداً. كذلك فقدان جبهة الإمام الحسن عليه السلام أبرز قادتها سواء الذين أكلتهم صفّين، أم الذين اغتالهم معاوية كمالك الأشتر، الذي قال فيه أحدهم عندما سُئل عنه: «ما أقول في رجل هزمت حياته أهل الشام وهزم موته أهل العراق!»[23]. علاوة على ذلك، الصدمة المعنويّة الكبيرة التي مُنيت بها جبهة الحق، عندما فقدت رمزها وقائدها علي بن أبي طالب عليه السلام.
وقد لخّص الإمام الحسن عليه السلام سبب قبوله لوثيقة الصلح بالقول: «ما ثنانا عن أهل الشام شك ولا ندم، وإنّما كنّا نُقاتلهم بالسلامة والصبر، فشيبت السلامة بالعداوة، والصبر بالجزع، وكنتم في منتدبكم إلى صفّين دينكم أمام دنياكم، فأصبحتم ودنياكم أمام دينكم، ألا وإنّا لكم كما كنّا، ولستم لنا كما كنتم»[24].
فهو يوضّح لقاعدته الشعبيّة أسباب الصلح، وأنّ ذلك لم يكن تغيّراً في قناعة أهل البيت علیهم السلام تجاه بني أُميّة، وطواغيت الشام، أو شك أو ندم في حقانيّة جهادهم ومناجزتهم، وإنّما الخلل هو في هذه القاعدة الشعبيّة التي عادت أهل البيت علیهم السلام وجزعت من الحرب والقتال، وقلبت أولوياتها، فجعلت دنياها أمام دينها، بعد أن كانت تضحي بدنياها في سبيل دينها. فأهل البيت علیهم السلام ما يزالون كما كانوا، في بصيرتهم بالعدو، وعزمهم على جهاده، ولكن أتباعهم ليسوا كما كانوا!
ونحن لا نريد هنا أن نخوض في واقع صلح الإمام الحسن عليه السلام وظروفه وملابساته؛ فإنّ الأمر يستدعي وقفةً طويلةً لا يسعها هذا البحث. ولكن هذه الأُمور وغيرها اضطرت الإمام الحسن عليه السلام إلى مهادنة معاوية، وكان الصلح بالنسبة له أسوأ الخيارات، ولكنّه اضطر إلى القبول به، بشروط اشترطها على معاوية من أهمِّها: أن يعمل بكتاب الله وسنّة نبيّه، وأن يكف عن سبّ وشتم أمير المؤمنين عليه السلام، وتشويه صورته في أعين الناس، وأن لا يلاحق شيعة أمير المؤمنين عليه السلام وأصحابه، وأن يُعيد الأمر من بعده لأهل البيت علیهم السلام، للحسن فإن مات فللحسين علیهما السلام.
إنّ الشرط الأخير يُعدّ الأهمّ في تلك الشروط؛ فإنّ الصلح لم يكن تنازلاً مطلقاً عن السلطة لبني أُميّة، وإنّما هو هدنة مؤقتة فرضتها موازين القوى، تُسلَّم فيها إدارة الدولة إلى معاوية، ثُمّ بعده يرجع الحق إلى أهله.
ولكن معاوية ـ وكما هو متوقع ـ لم يلتزم بأيّ من تلك الشروط، وبعد دخوله للكوفة أعلن نقضه لتلك الشروط، وقال مخاطباً أهلها: يا أهل الكوفة، أظننتم أنّي قاتلتكم لكي تُصلوا، أو لكي تصوموا؟! وإنّما قاتلتكم لكي أتأمّر عليكم، فآتاني الله ذلك، وأنتم كارهون، وكلّ ما شرطته للحسن بن علي، فهو تحت قدميّ هاتين[25]. وبنو أُميّة عموماً ليس لديهم مبادئ ولا عهود ولا مواثيق.
لقد تنصل معاوية من كلّ شروطه، أمّا العمل بالكتاب والسنّة، فقد جهد في مخالفتهما، وحاول جاهداً طمس معالم سنّة رسول صلى الله عليه وآله، وقد أخبر صلى الله عليه وآله بذلك، كما روى أبو ذر رحمه الله، حيث قال، وهو في الشام وقد جرت بينه وبين معاوية مصادمات كثيرة: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: أول مَن يغيّر سنتي رجل من بني أُميّة»[26]. وقد روى الإمام الحسن عليه السلام عن جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله: «ولو لم يبقَ من أُميّة إلّا عجوز درداء لبغت دين الله عوجاً»[27]. ويكفيك كشاهد على ذلك تبنّيه لزياد، وإلحاقه بنسبه، والنبيّ صلى الله عليه وآله يقول: «الولد للفراش وللعاهر الحجر»[28]. أو رأيه في الربا المضاد لسنّة رسول صلى الله عليه وآله، فقد روى مالك في الموطأ وغيره: «أنّ معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها، فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله ينهى عن مثل هذا، إلّا مثلاً بمثل، فقال له معاوية: ما أرى بمثل هذا بأساً. فقال أبو الدرداء: مَن يعذرني من معاوية؟ أنا أُخبره عن رسول الله صلى الله عليه وآله ويخبرني عن رأيه، لا أُساكنك بأرض أنت بها»[29]. وهذا أمر واضح، فبنوا أُميّة أرادوا أن يبنوا لهم إسلاماً كما يريدون (الإسلام الأُمويّ في مقابل الإسلام النبويّ).
وأمّا بالنسبة إلى النيل من أمير المؤمنين عليه السلام فقد جعل سبّه سنّة، يشبّ عليها الصغير، ويشيب عليها الكبير، وقد روى مسلم في صحيحه عتاب معاوية لسعد في سبب عدم سبّه لأمير المؤمنين عليه السلام[30]. وأصدر مرسوماً إلى جميع الأقطار أنّه برئت الذمّة ممّن روى في أبي تراب شيئاً، ومَن روى في أبي تراب شيئاً فاقطعوا رزقه، واهدموا داره، وامحوه من الديوان. ووضع الأحاديث في الانتقاص من أمير المؤمنين عليه السلام، وكلّ ذلك مسطور مشهور في كتب الحديث والتأريخ.
وأمّا بالنسبة إلى ملاحقة أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام، فقد حاول جاهداً تصفية العناصر القياديّة الواعية في الأُمّة؛ لأنّه يعلم أنّ وجود هؤلاء سوف يشكل مانعاً دون تنفيذ المُخطط الأُمويّ؛ لأنّ وجود كلّ أُمّة إنّما هو بقياداتها وعناصرها الواعية، والأُمّة التي لا تملك شخصيّات قياديّة واعية وبصيرة تُعدُّ أُمّة ميتة ـ ولهذا ترى الظالمين يحاولون دائماً تصفية عناصر الوعي في الأُمّة، وأنت تعرف أن شخصاً واحداً حكيماً بصيراً شجاعاً يساوي آلافاً من عرض الناس بل ملايين ـ فقام معاوية بتصفية خواصّ شيعة أمير المؤمنين عليه السلام: كعمرو بن الحمق الخزاعي، وحجر بن عديّ الكندي، ورشيد الهجري، وميثم التمار، ومسلم بن زيمر، وعبد الله بن نجي الحضرميين، وابن حسان العنزي، وجويرية بن مسهّر العبدي، ومحرز بن شهاب السعدي، وجميل بن كعب الثعلبي وغيرهم كثير.
طبعاً غير الذين قتلهم في صفّين؛ فقد قتل خمساً وعشرين ألفاً من خيرة الأُمّة، وفيهم مئة صحابي وخمسة وعشرون بدرياً. وغير الأُلوف التي قتلها زياد بن أبيه وسمرة بن جندب، وفيهم العلماء والقرّاء.
وأمّا فيما يرتبط بالبند الرابع، وهو أن يرجع الأمر للحسن أو الحسين علیهما السلام، فقد خالفه أيضاً وراح يدعو لبيعة ولده يزيد بن معاوية، وهو ما سنتحدث عنه بالتفصيل في القسم الثاني من هذه المقالة إن شاء الله تعالى.
وبذلك تتضح لك عزيزي القارئ صورة إجمالية عن الأوضاع التي تلت رحيل الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله، والظروف التي سبقت واقعة عاشوراء، والتي كان لها الدور الفاعل والمؤثر في حدوث تلك الواقعة الأليمة في وقائعها، والعظيمة في نتائجها.
الكاتب: السيد محمد الشوكي
مجلة الإصلاح الحسيني – العدد الخامس
مؤسسة وراث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية
________________________________________
[1] خطب الإمام علي، نهج البلاغة: ص374.
[2] المصدر السابق: ص375.
[3] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ج4، ص24.
[4] ابن أعثم الكوفي، أحمد، الفتوح: ج 5، ص17.
[5] ابن كثير، إسماعيل بن عمر، البداية والنهاية: ج 8، ص126.
[6] ابن عبد ربه، العقد الفريد: ج3، ص249.
[7] الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج2، ص449.
[8] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ج9، ص29.
[9] ابن كثير، إسماعيل بن عمر، البداية والنهاية: ج 8، ص133.
[10] الذهبي، محمد بن أحمد، سير أعلام النبلاء: ج3، ص133.
[11] الأميني، عبد الحسين، الغدير: ج10، ص226.
[12] أبو ريّة، محمود، أبو هريرة شيخ المضيرة: ص86ـ87.
[13] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة:ج9، ص53.
[14] الجوهري، أحمد بن عبد العزيز، السقيفة: ص39.
[15] ابن عبد البر، يوسف بن عبد الله، الاستيعاب: ج4، ص1679.
[16] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ج16، ص154. واُنظر: ابن شبة، عمر، تاريخ المدينة: ج 4، ص1288.
[17] اليعقوبي، أحمد، تاريخ اليعقوبي: ج 2، ص175.
[18] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ج7، ص33.
[19] اُنظر: المصدر السابق: ج1، ص202.
[20] خطب الإمام علي عليه السلام، نهج البلاغة: ص 418.
[21] المصدر السابق: ص300.
[22] المصدر السابق: ص 183ـ184.
[23] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ج2، ص214.
[24] الذهبي، محمد بن أحمد، سير أعلام النبلاء: ج3، ص 269.
[25] اُنظر: اب أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ج 16، ص46. وابن كثير، إسماعيل بن عمر، البداية والنهاية: ج8، ص 140. وغيرهما.
[26] ابن كثير، إسماعيل بن عمر، البداية والنهاية: ج 8، ص253.
[27] الراوندي، قطب الدين، الخرائج والجرائح: ج 2، ص574.
[28] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج5، ص491. البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري: ج3 ص5.
[29] مالك بن أنس، الموطأ: ج 2، ص634.
[30] انظر: مسلم بن الحجاج، صحيح مسلم: ج7، ص120.
اترك تعليق