اعتاد المؤمنون ـ ومنهم من شد الرحال اليها ـ التواجد يوم الجمعة من كل اسبوع في كربلاء المقدسة للتشرف بزيارة المولى الحسين الشهيد وأخيه ابا الفضل العباس عليهما السلام ، فضلا عن حضور صلاة الجمعة فيها والاستماع لخطبتيها ، لما لهما من أهمية كبرى ـــ وخصوصا السياسية منها ـــ في إجلاء الغبار عن الأحداث المتسارعة على الساحة المحلية وربما الدولية في بعض الاحيان ، خصوصا وأنها تتبنى رؤى وانظار المرجعية الدينية العليا في الشأن العراقي ، باعتباره المنطقة الشاغرة في الوعي المجتمعي والتي لا يمكن إشغالها الا من خلال المؤسسة الدينية وعلى رأسها المرجعية الدينية العليا ، بعد أن اثبتت طيلة السنوات الماضية حكمتها وقدرتها على إدارة الوضع بشكل ممنهج وممنطق وشفاف حتى باتت فيه " صمام الامان " .
المراقب منا لخطب الجمعة المباركة ورؤى المرجعية فيها ، خصوصا للشهرين الماضيين ، يلمس جليا ، ثمة تغير في منحاها ومساراتها ، وهي التي عودتنا بأن " الصمت حكمة احيانا " وأن " التلميح ابلغ من التصريح " ، فضلا عما عهدناه منها في حسن التدبير وحكمة القرار ، حتى أنها اصبحت من المكانة مما يقصدها من يريد ان يقرأ الوضع على حقيقته ، فمنهم الأممي والدولي والإقليمي ، فضلا عن المحلي .
الارهاصة والتحول في مسار خطبة صلاة الجمعة الأخيرة والي كانت بإمامة سماحة السيد احمد الصافي من على منبر كربلاء المقدسة في الصحن الحسيني الشريف ، واكتفاءه بتلاوة مقاطع من دعاء اهل الثغور لحفظ ابطالنا في جبهات المنازلة الحقة من الإرهابيين كبديل عن الخطبة السياسية ( الثانية ) ، جعل لذلك قراءات واستقراءات تتوزع شمالا ويمينا ، وهو ما دفعنا ان نكتب في ذلك ولسان حالنا هو تحفيز استقراء هذا التغيير من قبل الشارع العراقي ومنه السياسيين والمهتمين بالشأن السياسي .
قد سبق للمرجعية الدينية العليا ـــ من خلال ممثليها في كربلاء المقدسة ـــ وبالتحديد من خلال منبر الجمعة المباركة ، قد اكدت ـــ وهي في معرض توجيه الحديث الى السلطات الثلاث والجهات المسؤولة ـــ بأن " يتخذوا خطوات جادة في مسيرة الاصلاح الحقيقي وتحقيق العدالة الاجتماعية ومكافحة الفساد وملاحقة كبار الفاسدين والمفسدين " .
هذا الخطاب الذي جاء مطلع هذا العام ، قد تضمن ايضا تذمرها من السلطات الثلاث والجهات الحكومية المسؤولة لعدم تحقيقها لأي شيء واضح على ارض الواقع ، وهو ما حدا بها ـــ المرجعية ــــ ان تعتبره امراً " يدعو للأسف الشديد " ملمّحة الى أنها لا " تزيد على هذا الكلام في الوقت الحاضر " ، بعد ان بيّنت أنها طالبت في العام الماضي وعلى مدى عدة اشهر من خلال خطب الجمعة بضرورة ان تنتبه هذه السلطات للوضع في العراق .
وفي خطبة اخرى كانت المرجعية الدينية قد اكدت ـــ والخطاب موجه لمن بيدهم الامور من القوى السياسية الحاكمة ـــ عدم وجود ضرورة في تكرار ما قيل سابقا بخصوص مطالبها في حل ازمات البلد ، مكتفية بالإشارة الى ان الازمة المالية للبلد " بلغت حداً خطيراً ".
واعلنت في موقف ثالث وبنفس المسار عن أن اصواتها قد " بُحّت " بلا جدوى من تكرار دعوة الاطراف المعنية من مختلف المكونات الى رعاية السِلم الاهلي والتعايش السلمي بين ابناء هذا الوطن وحصر السلاح بيد الدولة بعد ان دعتهم الى ان يَعوا حجم المسؤولية الملقاة على عواتقهم ، وان ينبذوا خلافاتهم السياسية التي ليس وراءها الا المصالح الشخصية والفئوية والمناطقية ، ويجمعوا كلمتهم على ادارة البلد بما يحقق الرفاه والسعادة والتقدّم لأبناء شعبهم .
فضلا عما اشارت اليه في خطبة اخرى بأن الاوان قد آن للأطراف الداخلية والخارجية التي اتخذت من العنف وسيلة لتحقيق اهدافها السياسية ، " ان تعيد النظر في حساباتها وتترك هذه المخططات الخبيثة التي لم تؤدِ ولا تؤدي الا الى مزيد من الدمار ووقوع افدح الخسائر واعظم الاضرار في الارواح والممتلكات " ، معتبرة منهجية بعض الاطراف الحاكمة وسوء الادارة وتفشي الفساد ، سياسات خاطئة " وفرت اجواءً مساعدة لنمو وتفاقم الظاهرة الداعشية بعد ان طالبت القوى السياسية التي تمسك بزمام السلطة ان " تعزم على مراجعة سياساتها وادائها للفترة السابقة " ، مع ما عرضته عليهم من اقامة الحكم الرشيد المبني على تساوي جميع المواطنين في الحقوق والواجبات كسبيل لإنقاذ البلد من المآسي التي تمر به .
واعتبرت في وقت سابق ، اهتمام الحكومة بالملف الامني ودفع خطر الارهاب الداعشي ليس مبررا لعدم جديتها واهتمامها الكافي في " وضع سياسة اقتصادية ومالية مناسبة بالاستعانة بالخبرات العراقية والعالمية لمعالجة الازمة الراهنة " ، مطالبة بتكاتف الجميع وتعاونهم وإتّباع خطط علمية مدروسة يضعها اهل الخبرة والاختصاص بعيداً عن القرارات المرتجلة التي يمكن ان تحدث هزات اجتماعية خطيرة وتهدد المقومات الاساسية لمعيشة المواطن العراقي .
ناهيك عما كانت قد تطرقت اليه بخصوص خلاص العراق وتجاوزه لأوضاعه الصعبة ، ورهن ذلك بالعراقيين انفسهم شريطة ان يهتموا بمصالح بلدهم العليا وان يقدموها على مصالحهم الشخصية والفئوية والمناطقية ، مؤكدة في الوقت ذاته بعدم تطابق رؤى الاطراف الاقليمية والدولية مع الرؤى المحلية لأن الأولى تلاحظ منافعها ومصالحها كأساس اولي .
دوليا ، طالبت المرجعية العليا ، دول الجوار العراقي ، بل وجميع الدول ، بضرورة احترام سيادة العراق ، من خلال الامتناع عن ارسال قواتها الى الارض العراقية من دون موافقة الحكومة المركزية ووفقاً للقوانين النافذة في البلد ، معتبرة ان " الحكومة العراقية مسؤولة عن حماية سيادة العراق وعدم التسامح مع أي طرف يتجاوز عليها مهما كانت الدواعي والمبررات ، وعليها اتباع الاساليب المناسبة في حل ما يحدث من مشاكل لهذا السبب " ، مع مطالبتها لكل الفعاليات السياسية بان " توحّد مواقفها في ما يخص السادة العراقية وتراعي في ذلك مصلحة العراق وحفظ استقلاله وسيادته ووحدة اراضيه ، داعية في الوقت ذاته بضرورة ضبط ردود افعال المواطنين حيال هكذا قضايا من خلال رصّ الصفوف ومراعاة حقوق المقيمين في العراق بصورة مشروعة " .
هذا الكم الرؤيوي العميق والتحليل المضاميني الجوهري للأحداث ومتقلباتها ، جعل المواطن ينتظر خطبة الجمعة بشكل شغوف ، كونها المادة الأدسم والحكمة الأعمق لما يعانيه من ضبابية في فهم ما يدور في كواليس السياسة .
وفي دراسة اكاديمية ( استطلاع وتحليل ) صدرت مؤخرا عن قسم الاعلام في العتبة الحسينية المقدسة حملت عنوان ( خطاب المرجعية وأثره في الراي العام ) بإشراف عضو مركز حمورابي للأبحاث والدراسات الاستراتيجية الدكتور كامل القيم ، خلصت الى ان خطاب المرجعية الدينية العليا قد تعاظم بشكل ملحوظ منذ سقوط النظام البائد في العراق ، لمصداقيته العالية وابتعاده عن الأساليب الدعائية والشعارات الرخيصة او التضليل او التعتيم الذي عهدته الجماهير في كثير من الخطابات .
وحسب رئيس قسم الاعلام في العتبة الحسينية المقدسة حيدر السلامي فأن " الثقل العلمي والاخلاقي للمرجعية العليا جعلها مركز جذب للفئات والشرائح الاجتماعية المختلفة " .
وكشف الدكتور القيم من خلال دراسته اعلاه مدى تأثير خطب المرجعية الدينية العليا في عموم المجتمع وخاصة الطبقة السياسية وذلك من خلال منهج المسح الميداني الذي اعتمده الباحث .
الى هذا وذاك ، فبين من يقرأ التحول الأخير في عدم تبنى رؤى وانظار المرجعية الدينية العليا في الشأن العراقي بشكل اسبوعي من خلال منبر الجمعة ، وحصره حسبما يستجد من الامور وتقتضيه المناسبة ، على انه بمثابة " بطاقة صفراء " أشهرتها المرجعية الدينية العليا بوجه المسؤولين السياسيين ، وبين من يراها " صفعة عنيفة " توجهها المرجعية لمن بيده الأمر السياسي ، في وقت يقول فيه أخرون : " ولات حين مندم " ، ويعدها اخرون بأنها " مرحلة مختلفة عن سابقتها ، ولها متطلباتها بعد ان افرغت المرجعية الدينية العليا مسؤوليتها أمام الله والشعب باعتبار ان ثمة علاجات اخرى غير النصح " ، الا ان البعض يراها انسحاب تكتكي من قبل المرجعية لمن يريد ان يجرها نحو الفوضى في أتخاذ القرارات والتنصل من مسؤولياتهم بداعي رؤى المرجعية .
وخلاصة القول ـــ وحديثنا للجميع ـــ ليس من الحكمة ان يؤخذ هذا التغيير على أنه عفوي ، وليس من العقل ان نراه على أنه مجرد تغيير ، خصوصا اذا ما قرنا ذلك بقرائن ما اعتدناه منها من حكمة وعمق ، فأن ثمة رسالة ما بين اسطر ذلك ، واللبيب من الإشارة يفهم .
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق