الغلاة أشد حرباً من النواصب!

أفترق الناس في آل محمد عليهم السلام إلى فرق شتى، وكان أشدهم عداوة هم الغلاة، وهم من قالوا في آل محمد عليهم السلام ماليس فيهم، فبعضهم أدعوا الربوبة فيهم عليهم السلام، والبعض الاخر أدعى إن الله تعالى قد حل فيهم أو أتحد معهم، وفي كل الاحوال نال الغلاة من اللعن من آل محمد عليهم السلام ما يستحقون .

وقد تصدى الإمام الصادق (عليه السلام) بكل حزم ضدهم، وحذر الأمة من خطرهم وانحرافهم، معلناً مراراً وتكراراً أمام أصحابه : (والله ما الناصب لنا حرباً بأشد علينا مؤونة من الناطق علينا بما نكره)(١).

ولم يكن الغلاة بذلك الغباء الذي يتصوره البعض أبداً، وكيف ذلك ومعهم أبليس ساعياً في حوائجهم، ومؤيداً لافكارهم، فكان ولازال شر ناصر ومؤازر لهم، ولذلك كان سلاحهم الفتاك، وليومنا هذا، هو الإفتراء على آل محمد عليهم السلام، فتارة كانوا لا يتورعون بنسب الأحاديث والقصص لال محمد عليهم السلام، وتارة أخرى كانوا ولا زالوا يؤولون أحاديثم الصحيحة ويضعونها في غير مواضعها الحقة، وكل ذلك لتبرير أفكارهم وأعتقاداتهم الفاسدة، وكان الائمة عليهم السلام يعلنون براءتهم منهم ليلاً نهاراً، بل وتكفيرهم علناً محذرين الأمة من الاختلاط بهم أو الأخذ بأقولهم ...

إن للغلاة شخصيات بارزة في تأريخنا الشيعي، فقد شكلوا فرقاً شتى، وكان أبرز تلك الفرق قد ظهرت في عهد مولانا الصادق عليه السلام، وهم الفرقة "الخطابية"، والتي يتزعمها (محمد بن مقلاص الأسدي)، المكنى بأبي الخطاب، وقد أدعى هذا الملعون الالوهية للإمام الصادق عليه السلام(٢) .

روي عن عيسى بن أبي منصور سمعت أبا عبد الله (عليه السلام)، يقول عندما ذكر أبو الخطاب: ((اللهم العن أبا الخطاب فإنه خوفني قائماً، وقاعداً، وعلى فراشي... اللهم أذقه حر الحديد))(٣) .

لاشك إن خوف مولانا الامام الصادق عليه السلام إنما كان خشية من الله جل وعلا، لما كان يزعمه أبا الخطاب من ألوهية الامام ويدعوا لها .

وكما قلنا إن الغلاة لم يكتفوا بالكذب بل كانوا ولازالوا يستخدمون التأويل سلاحاً فتاكاً في تحريف كلام الائمة عليهم السلام عن موضعه، ونلاحظ ذلك حينما لعن الإمام الصادق (عليه السلام)، أبا الخطاب فتأول أبو الخطاب اللعن وقال: إن الإمام يقصد قتادة بن دعامة البصري، الذي يكنى بأبي الخطاب أيضاً، فقال الإمام (عليه السلام) ((والله ما عنيت إلا محمد بن مقلاص، بن أبي زينب الأجدع، البراد، عبد بني أسد، فلعنه الله، ولعن أصحابه، ولعن الشاكين فيه، ولعن من قال: إني أضمر وأبطن غيرهم))(٤) .

وعندما بلغ الامام الصادق عليه السلام مقولة الخطابية بالتلبية له، خر ساجداً، ودق جؤجؤه بالأرض، وبكى، وأقبل يلوذ بإصبعه ويقول: ((بل عبد لله قن داخر)) مراراً كثيرة، ثم رفع رأسه، ودموعه تسيل على لحيته .

فقال له الراوي: جعلت فداك، وما عليك أنت من ذا؟

فقال عليه السلام له : ((يا مصادف إن عيسى لو سكت عما قالت النصارى فيه، لكان حقاً على الله أن يصم سمعه، ويعمي بصره، ولو سكت عما قال فيّ أبو الخطاب لكان حقاً على الله أن يصم سمعي، ويعمي بصري))(٥) .

وقد أمر الإمام الصادق (عليه السلام) شيعته بمقاطعة الخطابية، حيث قال للمفضل بن عمر: ((اتق السفلة ! واحذر السفلة، فإني نهيت أبا الخصاب، فلم يقبل مني))(٦) .

وقال (عليه السلام) للمفضل أيضاً: ((يا مفضل لا تقاعدوهم، ولا تؤاكلوهم، ولا تشاربوهم، ولا تصافحوهم، ولا توارثوهم))(٧) .

وعندما بلغه مقتل أبي الخطاب، تنفس الإمام عليه السلام الصعداء وقال: ((لعن الله أبا الخطاب، ولعن من قتل معه، ولعن من بقي منهم، ولعن الله من دخل في قلبه لهم رحمة))(٨) .

وللغلاة مقالات كثير بينت الأخبار مضامينها، كما بينت كذلك موقف آل محمد من مقالاتهم، منها ما روي عن أبي بصير قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): (يا أبا محمد! ابرأ ممن يزعم أنّا أرباب، قلت: برىء الله منه، فقال: ابرأ ممن يزعم أنّا أنبياء، قلت: برىء الله منه )(٩) .

وقد ظهرت فرقة أخرى وهم الفرقة "الإباحية"، حيث كانت عقائدهم تنص على أن الله عز وجل حالٌ في أجسام الأئمة، وأنه أول ما حلًّ في محمد بن الحنفية، وفسرت العبادات بأنها رموز، وأنه يكفي من الدين الولاء للأئمة، وقد كتب الإمام الصادق إلى المفضل بن عمر يحذره من هؤلاء الغلاة، فقد قال في رسالته: ((جاءني كتابك... وذكرت أن قوماً يزعمون: أن الدين إنما هو معرفة الرجال، ثم بعد ذلك إذا عرفتهم، فاعمل ما شئت؛ ويزعمون: أن الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج رجل، وكل فريضة افترضها الله على عباده هو رجل، من عرفه فقد اكتفى عن العمل؛ ويزعمون: أن الفواحش التي نهى الله عنها هو رجل... وزعموا: أنه إنما حرم الله نكاح نساء النبي، وما سوى ذلك مباح كله، أخبرك: أن من كان يدين بهذه الصفة التي كتبت تسألني عنها، فهو عندي مشرك بالله تبارك تعالى، بين الشرك لا شك فيه... وأما ما ذكرت في آخر كتابك، أنهم يزعمون: أن الله رب العالمين هو النبي، وأنك شبهت قولهم بقول الذين قالوا في علي ما قالوا... أخبرك: أن الله تعالى خلق الخلق لا شريك له، وأحب أن يعرفوه بأنبيائه. والنبي هو الدليل على الله، عبد مربوب، مخلوق))(١٠) .

وروي عن سدير أنه قال للإمام الصادق (عليه السلام): إن قوما يزعمون: أنكم آلهة يتلون علينا بذلك قرآناً : ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾، ثم قال : ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ﴾ ،

قال عليه السلام : يا سدير : ((سمعي وبصري وشعري وبشري ولحمي ودمي من هؤلاء براء، وبرىء الله منهم ورسوله، ما هؤلاء على ديني ودين آبائي، والله ما يجمعني وإياهم يوم القيامة إلا وهو عليهم ساخط)) .

قال: قلت: فما أنتم جعلت فداك؟

قال عليه السلام : ((خزان علم الله، وتراجمة وحي الله، ونحن قوم معصومون، أمر الله بطاعتنا، ونهى عن معصيتنا، نحن الحجة البالغة على من دون السماء، وفوق الأرض))(١١) .

بهذه الطريقة كان إمامنا الصادق عليه السلام يتعامل مع الغلاة، ويحذر الامة جميعاً من عقائدهم و تأويلاتهم التي نعاني الى اليوم منها، فلازال الغلاة ينخرون جسد التشيع، ولازالت تأويلاتهم تسري في شبابنا مسرى النار في الهشيم .

ولو راجعنا كتبنا المعتبرة لرأينا موقف الائمة منهم ، منها ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال : ((لعن الله من قال فينا ما لا نقوله في أنفسنا، ولعن الله من أزالنا عن العبودية لله الذي خلقنا وإليه مآبنا ومعادنا وبيده نواصينا))(١٢) .

وكان إمامنا الصادق عليه السلام يؤكد دوماً أن الأئمة عبيد لله، ومن قال فيهم غير ذلك فأنهم عليهم السلام براء منهم، ومن معتقداتهم الفاسدة .

وقد تميز الغلاة بوضع الاحاديث كما قلنا، حتى أختلط الكثير منها بما في أيدي الناس من الصحيح، وقد شكى ذلك الكثير من فقهائنا المتقدمين من ذلك، وقد اعتبرهم الإمام عليه السلام أعلى رتبة من الشيطان في الكذب والافتراء، إذ ورد عنه ما نصه : ((إن فيهم -أي الغلاة -من يكذب حتى أن الشيطان يحتاج إلى كذبه))(١٣).

نعم هذه هي سمة عقائدهم التي يمارسونها إلى يومنا هذا، فهم مدرسة الكذب الكبرى، كانوا ولا زالوا يتقولون الاقاويل وينسبونها إلى أئمة أهل البيت عليهم السلام .

بل عدهم الامام الصادق عليه السلام بالفساق الكفار المشركون، حين دعاهم للتوبة قائلاً : ((توبوا إلى الله، فإنكم فساق، كفار، مشركون))(١٤) .

بل كان الإمام الصادق عليه السلام دائم اللعن لزعماء الغلاة، روي عن ميسرة قال ذكرت أبا الخطاب عند أبي عبد الله عليه السلام وكان متكئاً فرفع إصبعه إلى السماء، ثم قال: (على ابن الخطاب لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، فأشهد الله أنه كافر، فاسق، مشرك. وأنه يحشر مع فرعون في أشد العذاب، غدواً و عشياً)(١٥) .

أراد الائمة عليهم السلام من هذا التأكيد على كفر الغلاة تحذير الامة من هذه المزالق الشيطانية، البعيدة عن روح الاسلام المحمدي العلوي، بل وحثنا جميعاً على الوقوف بوجه هذه الحركات المنحرفة الضالة المضلة، نسأل الله التوفيق والهداية للجميع .

والحمد لله رب العالمين

الهوامش:-------

١ - أصول الكافي - الشيخ الكليني - ج٢ - ص ٢٢٥

٢ - جذور التاريخية والنفسية للغلو والغلاة - سامي الغريري - ص 287.

٣ - اختيار معرفة الرجال، الشيخ الطوسي، ص 358، رقم 509

٤ - المقالات والفرق، سعد بن عبدالله الأشعري القمي، ص 55.

٥ - بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 25، ص 293، رقم 51.

٦ - اختيار معرفة الرجال - الشيخ الطوسي - ص 363 .

٧ - اختيار معرفة الرجال - الشيخ الطوسي - ص 364 .

٨ - رجال ابن داود، ابن داود الحلي، منشورات الرضي - ص 276 .

٩ - بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 2 - ص 491

١٠ - بحار الأنوار - العلامة المجلسي- ج 24 - ص 286 .

١١ - بحار الأنوار، العلامة المجلسي - ج 25 - ص 298

١٢ - اختيار معرفة الرجال - الشيخ الطوسي - ص 297

١٣ - اختيار معرفة الرجال - الشيخ الطوسي - ص 364

١٤ - المصدر السابق .

١٥ - المصدر السابق .

المرفقات

: علي الحداد