المنظور الفقهي والأخلاقي للقرض (الدين) في الكتاب والسنة

يعتبر القرض من المعاملات الفقهية المهمة في العلاقات الاجتماعية القائمة بين أفراد المجتمع، وهي من المسائل الأخلاقية المهمة في نفس الوقت؛ ولذا اقتضت الحكمة الإلهية تنظيم هذه المعاملة وتهذيبها، وجعلها في قالب متقن، ومحكم وسليم، واخراجها على أتم وجه؛ لضمان وحفظ الحقوق المالية للعباد من الضياع والتلف، ونود في هذا المقال أن نسلط الضوء على القرض وفق بعدين ومنظورين في الكتاب الكريم، والسنّة الشريفة، أحدهما هو المنظور الفقهي، والآخر هو المنظور الأخلاقي، ومعرفة ما يترتب على القرض من آثار وفوائد تعود بالنفع على الفرد أو المجتمع، سواء كانت تلك الآثار على صعيد الحياة الدنيا أم كانت على صعيد الحياة الآخرة.

لقد اهتم الشرع المبين أيّما اهتمام بمسألة القرض، وجعل لها نظماً وأحكاماً خاصة بها في الدستور الإسلامي، ففي الكتاب الإلهي المنزل من لدن حكيم جاءت الآيات لتبيين وتنظيم هذه المسألة، وجعلت أحكاماً خاصةً بها، ومن جهات مختلفة وعديدة، وكذا الأمر في السنّة الشريفة، فقد جاءت الأخبار الكثيرة التي تولي أهمية لهذه القضية التي تتعلق في تيسير أمور العباد، وقد عملت على تنظيمها وتهذيبها؛ لكونها من المعاملات الضروريات التي لا يستغني عنها المجتمع، وقد تنوعت المسائل المبحوث عنها في القرض في السّنة الشريفة من جهات ومحاور عديدة، قد تتفق نصاً مع ما جاء في الكتاب الكريم، فما تم ذكره في القرآن الكريم بنحو العنوان العام والموضوع والاجمال فقد ذكرته السّنة الشريفة، وأكدّت عليه بألفاظ أخرى، ورتّبت وبيّنت الآثار عليه، أمّا ما تم ذكره بنحو مجملٍ في الكتاب الشريف فقد تم ذكره على نحوٍ من التفصيل والتبيين في السنّة المطهرة، وقد كانت محاور التنظيم لهذه القضية في الكتاب والسنّة كما يلي:

1.    الحث على اعطاء القرض:

 لقد حثّت الشريعة السامية، ورغبت المؤمنين في تسهيل أمر الآخرين، وقضاء حوائجهم لا سيما الحوائج المادية، ومن ضمن تلك الحوائج التي ينبغي تيسيرها وتسهيلها مسألة القروض المالية للآخرين.

لقد جاءت الآيات الكريمة ممضية لهذه السيرة، ومرغبة وحاثّة لهذه المعاملة من خلال ذكر القرض، وذكر شؤون تنظيمه، وسنّن تقويمه بصورة مباشرة، أو بالحثّ على القرض والترغيب فيه من خلال الإشارة إليه في الكتاب الكريم؛ فقد فقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[1]، فالآية وإن كان مرادها، وسبب نزولها هو الصدقة إلا أنّها جعلت فاعل الصدقة بمنزلة المقرض لله عز وجل الغني عن العالمين؛ فيكون قرض الله في الآية إشارة مهمة لمسألة جواز معاملة الدين، واباحته لمن يحتاج إليه، ومن هنا كان الاهتمام الشديد به من قبل الشريعة بسنِّ قوانين ونظم خاصة بالقرض؛ فموضوع القرض ممّا يسهم في حركة المجتمع نحو علاقات اجتماعية متماسكة؛ فيزيد في تلاحمه ووده، وهو يدعم الجانب المالي والاقتصادي للمجتمعات؛ لأنّ من يستدين تكون همّته ارجاع ما أخذه، والتخلص ممّا في ذمته من مال؛ فيجد ويعمل من أجلِ ذلك لعلمه بأنَّ صاحب المال يسعى جاهداً لإرجاع ما أعطاه.

أمّا السنّة الشريفة فقد وردت الأخبار الكثيرة التي تحثّ على القرض، وترغب فيه وجعلت أجره أفضل من أجر التصدق على الفقراء، فقد ورد عن رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): (رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ مَكْتُوباً: الصَّدَقَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَالْقَرْضُ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ)[2]، وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) قَالَ: (مَكْتُوبُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ الصَّدَقَةُ بِعَشَرَةٍ وَالْقَرْضُ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَإِنَّمَا صَارَ الْقَرْضُ أَفْضَلَ مِنَ الصَّدَقَةِ لِأَنَّ الْمُسْتَقْرِضَ لَا يَسْتَقْرِضُ إِلَّا مِنْ حَاجَةٍ، وَقَدْ يَطْلُبُ الصَّدَقَةَ مَنْ لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهَا)[3]، وعَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اَللَّهِ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) قَالَ: قَالَ اَلنَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): (أَلْفُ دِرْهَمٍ أُقْرِضُهَا مَرَّتَيْنِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهَا مَرَّةً)[4]؛ فهذه الأخبار تؤكد على أنَّ القرض أفضل من الصدقة؛ فالصدقة ذات أثر إيجابي للمعطي، ونفعها للمتصدق أكثر من نفعها للمتصدق عليه، من تفعيل صفة الكرم، والفوز بالثواب، ومخالفة الهوى والنفس التي تحب المال، وتسعى لدوام حفظه، وعدم اخراجه وبذله حتى لمستحقيه وما فرض فيه من قبل الله عز وجل، أمَّا المعطى إليه فقد يكون أثرها سلبياً عليه، والنفع فيه يكاد أن يكون محدوداً وبسيطاً؛ لأنّ ما يتصدق به قد يكون قليلاً ولا يفي بسد الحاجة، أو فتح مشروع يطمح له الفرد المعطى له تلك الصدقة، كما أنَّ الصدقة مدعاة للكسل والتثبيط عن العمل لمن يحصل عليها بيسر وسهولة؛ فلا تحركه للتفاعل والعمل والكسب؛ لعدم الارتكاز في ذهنه ومكنونه إرجاع ما حصل عليه على عكس القرض الذي تكون همّة المستقرض وتفكيره مرتكزان بإرجاع ما استقرض، ووفقاً لما بيّناه فالصدقة آثارها سلبية، والقرض آثاره إيجابية.

وفي الجهة المقابلة للأخبار الحاثّة على القرض نرى النهي الشديد عن عدم الإقراض للمستقرض مع القدرة على القرض، بل رتّبت الروايات آثاراً في الحياة الدنيا على مانع القرض فضلاً عن ترتيبها للآثار على مانع القرض في الحياة الآخرة، فعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): (لَا تُمَانِعُوا قَرْضَ الْخَمِيرِ فَانٍ مَنْعَهُ يُورِثُ الْفَقْرَ)[5]، وعن النَّبِيُّ الْأَعْظَمُ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) قَالَ: (وَمَنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ أَخُوهُ الْمُسْلِمُ فِي قَرْضٍ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ رِيحَ الْجَنَّةِ)[6]؛ فمانع القرض لا يشم ريح الجنة الذي يبعد عنها مسيرة خمسمائة عام كما جاء في الرواية، فعَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عَلَيْهِ السَّلَامُ)، عَنْ آبَائِهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): (مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى آلِي لَمْ يَجِدْ رِيحَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ)[7]، بل جاء في رواية أخرى أنّ ريح الجنة مسيره ألف عام، فعَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): (أَخْبَرَنِي جَبْرَئِيلُ أَنَّ رِيحَ الْجَنَّةِ تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَلْفِ عَامٍ...)[8].  

2.    الحث والتأكيد على كتابة القرض واشهاد الشهود:

 بما أنّ القرض يعود نفعه على المستدين بصورة خاصة وعلى المجتمع بصورة عامة؛ فهو من السيرة الحسنة التي لا بُدّ من استدامتها؛ فلا ينبغي منح أيّ فرصة لقطع سبيل الخير والمعروف، أو محو السيرة الحسنة؛ نتيجة لاستغلال ذوي النفوس الضعيفة للآخرين؛ فيحرم الكثير من الخير المأمول من هذه السنّة، وللحفاظ على مال المقرض عن التلف والضياع؛ فقد حثّت الشريعة الغراء على كتابة وثيقة يضمن بها المقرض أمواله، كثيرة كانت أو قليلة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ}[9].

كما دعت الشريعة السمحاء إلى الاشهاد عند القرض؛ لضمان الحق وتثبيته، يقول الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}[10]، وقد جاءت السنّة الشريفة على منوال القرآن الكريم، فعَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) عَنْ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) أَنَّهُ قَالَ: (ثَلَاثَةُ لَا يَسْتَجِيبُ اللَّهُ لَهُمْ بَلْ يُعَذِّبُهُمْ وَ يُوَبِّخُهُمْ ....، وَالثَّالِثُ رَجُلُ أَوْصَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بَانَ يَحْتَاطَ لِدَيْنِهِ بِشُهُودٍ وَكِتَابٍ فَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، وَدَفَعَ مَالَهُ إِلَى غَيْرِ ثِقَةٍ بِغَيْرِ وَثِيقَةٍ؛ فَجَحَدَهُ أَوْ بَخَسَهُ فَهُوَ يَقُولُ اللَّهُمَّ رُدَّ عَلَى فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلٍ يَا عَبْدِي قَدْ عَلَّمْتُكَ كَيْفَ تَسْتَوْثِقُ لِمَالِكَ لِيَكُونَ مَحْفُوظاً لِئَلَّا يَتَعَرَّضَ لِلتَّلَفِ؛ فَأَبَيْتَ وَأَنْتَ الْآنَ تَدْعُونِي وَقَدْ ضَيَّعْتَ مَالَكَ، وَأَتْلَفْتَهُ وَخَالَفْتَ وَصِيَّتِي؛ فَلَا اسْتُجِيبُ لَكَ)[11].

3.    أخذ الرهن إن تعذرت الكتابة:

لم تهمل الشريعة القضايا لا من قريب ولا من بعيد، ولم تترك صغيرة ولا كبيرة إلا بيّنتها، فما من أحكام أولية إلا ولها بدائل وأحكام ثانوية تحلّ محلّها عند عدم القدرة عليها، وتعذر العمل بها، فمن فقد الماء عند الوضوء ذهب للتيمم، ومن عجز عن الصيام لعذر مستديم؛ فعليه الفدية، وسيراً على هذه القاعدة كان الرهن بديلاً عن كتابة القرض؛ لكي يضمن المقرض حقه، فجعل الرهان بديلاً عن الكتابة وإنزاله منزلته؛ لضمان حق المقرض، فقد قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}[12]، وقد روي عن سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) أنّه: (تُوُفِّيَ الرَّسُولِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةُ عِنْدَ يَهُودِيُّ عَلَى ثَلَاثِينَ صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ أَخَذَهَا رِزْقاً عَلَى عِيَالِهِ)[13]، فالرهن نوع من أنواع الضمانات التي يلجأ إليها الشخص لتثبيت الحق، وعندئذ تكون الرهينة غير مختصة بباب القرض المالي، ولا تختص بالقرض والدين أيام السفر دون أيام الحضر، ويمكن القول بأنَّ الرهن والكتابة لمن لا يعلم حاله ووثاقته، بل وردت روايات بأن لا يؤخذ رهن على المؤمن، وإن فسرت بزمان ظهور صاحب الزمان (عجل الله فرجه الشريف)، فعَنْ عَلِيِّ بْنِ سَالِمٍ، عن أَبِيهِ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عبدالله (عَلَيْهِ السَّلَامُ) عَنِ الْخَبَرِ الَّذِي رُوِيَ انَّ مَنْ كَانَ بِالرَّهْنِ أَوْثَقَ مِنْهُ بِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ فَأَنَا مِنْهُ بَرِي‏ءُ؟ قَالَ: ذَلِكَ إِذَا ظَهَرَ الْحَقُّ، وَقَامَ قَائِمُنَا أَهْلَ الْبَيْتِ)[14].

4.    التحذير من المماطلة في ارجاع القرض:

لقد حذر الله من أكل مال الآخرين بالباطل في مورد القرض بصورة خاصة، فقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا}[15]، وفي غير مورد القرض فيشمل الدين بالحكم من ناحية العموم الشامل لجميع الحقوق المالية، فقد قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ}[16]، وقد سارت السنّة الشريفة على ما جاء به الكتاب الكريم، فقد رَوَى أَبُو خَدِيجَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) قَالَ: (أَيُّمَا رَجُلٍ أَتَى رَجُلًا فَاسْتَقْرَضَ مِنْهُ مَالًا وَفِيُّ نِيَّتِهِ الَّا يُؤَدِّيَهُ فَذَلِكَ اللِّصُّ الْعَادِي)[17].فقد اعتبرت الرواية كلّ من لا ينوي سداد ما استقرض لصاً متعدياً على حقوق وأموال الآخرين، لتبييته السرقة بطريقة الاحتيال والنصب على المؤمنين، بل الروايات شدَّدت وأنكرت على المماطل في ارجاع القرض فقد، روي عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: قُلْتُ لَا بِي عبدالله (عَلَيْهِ السَّلَامُ): (إِنَّهُ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلًا مِنَ الانصار مَاتَ وَ عَلَيْهِ دِينَارَانِ دَيْناً فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) وَقَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ حَتَّى ضَمِنَهُمَا عَنْهُ بَعْضُ قَرَابَتِهِ، فَقَالَ أَبُو عبدالله (عَلَيْهِ السَّلَامُ): ذَلِكَ الْحَقَّ، ثُمَّ قَالَ: انَّ رَسُولُ الله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِيَتَّعِظُوا وَلِيَرُدَّ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلِئَلَّا يَسْتَخِفُّوا بِالدَّيْنِ، وَقَدْ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) وَعَلَيْهِ دَيْنُ، وَقُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) وَعَلَيْهِ دَيْنُ، وَمَاتَ الْحَسَنُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) وَعَلَيْهِ دَيْنُ، وَقُتِلَ الحسين(عَلَيْهِ السَّلَامُ)، وَعَلَيْهِ دَيْنُ)[18]، فانظر إلى أنّ الرجل كاد أن يحرم من صلاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) المبعوث رحمة للعالمين، والذي كان يصلي على أموات المؤمنين، ولم يُنهَ إلا عن الصلاة على أموات المنافقين، فقد قال تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ}[19]، وتعليل الإمام بأنَّ المعصوم مات وعليه دين، يبيّن لنا أنّ الدين جائز ومباح، إلا أنّه يجب أن لا يهمل الدين ولا يستخف به من قبل الدائن؛ فيؤخر سداده من دون التوثق واليقين بسداده عنه بعد وفاته من قبل ورثته، أو من أصل مال يخلفه.

5.    اخراج الديون من أصل المال:

يعتبر اخراج ما تعلق من حقوق مالية في ذمة الميت للآخرين أو غيرها من حقوق من أولويات اهتمامات الشارع المقدس؛ لأنَّ الميت فد ارتحل فلا يرجى منه عمل، بل هو في حساب، ومن منطلق تفريغ الذمة للميت أمرت الشريعة أن لا تقسم أموال الميت إلا بعد اخراج الديون من أصل المال، يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}[20]، وقد جاءت الرواية بذلك، فعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عَلَيْهِ السَّلَامُ)، قَالَ: قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): (إِنَّ الدَّيْنَ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ، ثُمَّ الْوَصِيَّةَ عَلَى أَثَرِ الدَّيْنِ، ثُمَّ الْمِيرَاثَ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ، فَإِنَّ أَوْلَى الْقَضَاءِ كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجِلَ)[21].

6.     الصبر على المعسر:

قد يتعذر على المستدين أحياناً تسديد ما في ذمته؛ لعذر يعذر صاحبه أمام الله عز وجل، ومن هنا جاءت الشريعة بروح التسامح والتغاضي عن الآخرين، والصبر عليهم لحين المقدرة وتيسر الأحوال، فقد قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[22]، بل الآية دعت إلى التنازل عن المال لمن كان معسراً عن السداد وأنت في غنى عنه واعتبرت ذلك التنازل خير كبير.

     وقد جاءت السنّة الشريفة بذلك، بل أكدّت بأنّ الأجر يكتب إليه إلى أن يعود ماله، فعَنْ فُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): (مَا مِنْ مُؤْمِنٍ أَقْرَضَ مُؤْمِناً يَلْتَمِسُ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا حَسَبَ اللَّهُ لَهُ أَجْرَهُ بِحِسَابِ الصَّدَقَةِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْهِ مَالُهُ)[23]، بل قد ورد في القرآن الكريم بإسقاط شيءٍ من المال للمستقرض، أو كلّه لمن كان مستطيعاً فقد قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[24]، وهذا ما وافقته السنّة الشريفة وأكدّته، فقد روى يَعْقُوبُ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) قَالَ: (خَلُّوا سَبِيلَ الْمُعْسِرِ كَمَا خَلَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجِلَ)[25]، فالتخفيف عنه يحقق العديد من الآثار الطيبة التي تعود بالنفع على الفرد المحتاج، وهي نافعة لضمان مسير عجلة الحياة في المجتمع.

 الآثار التي تصيب المُنظِر للمعسر عن سداد القرض

لا شك ولا ريب بأنَّ الأحكام تدور مدار المصالح والمفاسد، وما أمر به الشرع وحثّ عليه ورغب به من مسامحة وحسن التعامل مع الآخرين، واستعمال أسمى الأخلاق وأعلاها مكرمة؛ لترتب المصلحة فيه، وما نهى الشرع عنه وحث على تركه ونبذ المشاحة فيه؛ لوجود وترتب المفاسد عليه؛ لأن الشرع يشرع ما فيه نفع العباد في الدنيا والآخرة، ومن تلك المسائل التي ينبغي مراعاتها لما يترتب عليها من مصالح في الحياة الدنيا والحياة الآخرة هي انظار المعسرين، والتي من آثارها:

أولاً: يكون المنظر في ظل الله

يطمح الفرد إلى تحصيل الأمان والراحة في يوم مهول توعد الله فيه الناس بالجزاء على العمل والحساب عمّا مضى، يوم يقف فيه الجميع في محكمة العدل الإلهي، ذلك اليوم الذي تبلى فيه السرائر، وتعرض الأعمال من خلال نشر الكتاب الخاص بكلّ فرد فقد قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ}[26]، وكذا قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ}[27]، فغاية المخلوق أن يستظل بعرش الله، ويلوذ به كما فعلت الملائكة من قبل عند قولها: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}[28]، فقد جاء في تفسيرها ما رواه ابْنُِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحَدِهِمَا (عَلَيْهِمَا السَّلَامُ) أَنَّهُ سُأَلَ عَنِ ابْتِدَاءِ الطَّوَافِ فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ لَمَّا أَرَادَ خَلْقَ آدَمَ قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ: {إِنِّي جاعِلُ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}، فَقَالَ مَلَكَانِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ: {أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ}، فَوَقَعَتِ الْحُجُبُ فِيمَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ اللَّهِ، وَكَانَ نُورُهُ ظَاهِراً لِلْمَلَائِكَةِ، فَعَلِمَا أَنَّهُ قَدْ سَخِطَ قَوْلَهُمَا، قَالَ: فَلَاذَا بِالْعَرْشِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُمَا)[29]، ومن هنا يسعى كلّ من يريد الأمان في ذلك اليوم أن يكون في ظل الله وعرشه، والمنظر للمعسر في ظل الله، فعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) قَالَ: (مَنْ أَرَادَ أَنْ يُظِلَّهُ اللَّهُ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ قَالَهَا ثَلَاثاً فَهَابَهُ النَّاسُ أَنْ يَسْأَلُوهُ، فَقَالَ: فَلْيُنْظِرْ مُعْسِراً أَوْ لِيَدَعْ لَهُ مِنْ حَقِّهِ)[30].

ثانياً: يحشروا ووجوههم من نور

النور اسم من أسماء الله الجمالية الباعثة للطمأنينة؛ ولجمال هذا المعنى فهو محبب لدى المخلوقين، على عكس الظلام الباعث للقلق والاستحياش، ومن هنا يسعى كلّ شخص ذو فطرة سليمة نحو نور الحقيقة في هذه النشأة، وكذا الأمر في يوم القيامة، إذ يمثل النور نحو من المطمئنات في بلوغ كلّ شخص مناه، برضا خالقه والفوز بجناته العالية، قال تعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا}[31]، ومن ينظر أخاه المؤمن المعسر عن سداد الدين يحصل على ذلك النور الذي يحرمه البعض ويتمنونه، فعَنْ سَدِيرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) قَالَ: (يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَوْمُ تَحْتَ ظِلِّ الْعَرْشِ وُجُوهُهُمْ مِنْ نُورٍ وَرِيَاشُهُمْ مِنْ نُورٍ جُلُوسُ عَلَى كَرَاسِيَّ مِنْ نُورٍ قَالَ: فَتَشَرَّفَ لَهُمْ الْخَلَائِقِ فَيَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ، فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ أَنَّ لَيْسَ هَؤُلَاءِ بِأَنْبِيَاءَ، قَالَ: فَيَقُولُونَ: هؤُلاءِ الشُّهَدَاءِ، فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ لَيْسَ هَؤُلَاءِ شُهَدَاءَ وَلَكِنْ هَؤُلَاءِ قَوْمُ كَانُوا يُيَسِّرُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَيُنْظِرُونَ الْمُعْسِرَ حَتَّى يُيْسِرَ)[32].

 ثالثاً: قضاء حوائج المُنظر في الدنيا في الآخرة، ويجزى بنفس جنس عمله

لا شك ولا ريب أنَّ العقبات والكرب والابتلاءات التي تحوط الإنسان في الحياة الدنيا وتجري عليه كمجرى الليل والنهار كثيرة وكبيرة، وتلازمه كملازمة الهواء الذي لا يمكنه الاستغناء عنه في تنفسه، والتفريج عن الكرب في الحياة الدنيا، وقضاء الحوائج وتيسيرها منية الفرد؛ ليعيش شيئاً من الهناء، ورغد المعيشة، وكذا الأمر لكرب ومواقف يوم القيامة الكثيرة والمهولة؛ فالمؤمن يرجو ألا يستوقف ولا يطول حسابه.

إنَّ الإعسار من أعظم كرب الدنيا، بل هو أعظمها فقد قَالَ أمير المؤمنين عَلِيُّ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): (إِيَّاكُمْ وَالِدَيْنِ فَإِنَّهُ مَذَلَّةُ بِالنَّهَارِ، وَمَهَمَّةُ بِاللَّيْلِ وَقَضَاءُ فِي الدُّنْيَا، وَقَضَاءُ فِي الْآخِرَةِ)[33]، فالتفريج عن المعسر موجب لأن يجزى العبد من قبل الله بنفس الجنس الذي تعامل به مع أخوته من العباد في الحياة الدنيا والآخرة؛ وذلك مصداقاً لقوله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}[34]، إنَّ تحمل المشقة لله في التفريج عن المعسرين وانظارهم لحين الميسرة من عظيم مواقف الدنيا، والذي يقتضي التفريج عن صاحبه عن عظيم مواقف الآخرة من هول الموقف وشدته.

 وهذان الأمران مضمونان لمن ينفس كرب الآخرين، ويفرج عن عسرهم؛ فعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): (أَيُّمَا مُؤْمِنٍ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً وَهُوَ مُعْسِرُ يَسَّرَ اللَّهُ لَهُ حَوَائِجَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)[35].

رابعاً: السلامة من حر جهنم

خلق الله الجنة والنار وجعلهما جزاء لنتاج أعمال العباد، وكلّ عاقل ومدرك يرجو النجاة من نار جهنم، بل يروم للفوز بالجنة والتقلب في نعيمها، ومن المنجيات عن نار جهنم ولفحاتها هو انظار المعسرين، فقد روي عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) قَالَ: (إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) قَالَ: فِي يَوْمٍ حَارٍّ وَحَنَا كَفَّهُ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْتَظِلَّ مِنْ فَوْرِ جَهَنَّمَ؟ قَالَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَقَالَ النَّاسُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ: نَحْنُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: مَنْ أَنْظَرَ غَرِيماً أَوْ تَرَكَ الْمُعْسِرَ، ثُمَّ قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ: إِنَّ أَبِي أَخْبَرَنِي أَنَّهُ لَزِمَ غَرِيماً لَهُ فِي الْمَسْجِدِ فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) فَدَخَلَ بَيْتَهُ وَنَحْنُ جَالِسَانِ ثُمَّ خَرَجَ فِي الْهَاجِرَةِ فَكَشَفَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) سِتْرَهُ وَقَالٍ: يَا كَعْبُ مَا زِلْتُمَا جَالِسَيْنِ؟ قَالَ: نَعَمْ بِأَبِي وَأُمِّي قَالَ: فَأَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) بِكَفِّهِ خُذِ النِّصْفِ، قَالَ: فَقُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي، ثُمَّ قَالَ: اتَّبعَهُ بِبَقِيَّةِ حَقِّكَ، قَالَ: فَأَخَذْتُ النِّصْفَ وَوَضَعْتُ لَهُ النِّصْفَ)[36].

خامساً: سبب لاستدامة النعم

يعتبر العيش في رغد وهناء من النعم التي يسعى كلّ فرد في تحصيلها، كما أنّ البحث عن الأسباب والسبل التي تسهم في دوام تلك النعم، والحفاظ عليها من أن تزول في يوم ما هو مسعى كلّ راغب باستمرار السعادة، ومسألة انظار المعسر والصبر عليه من قبل الدائن بعدما أنعم الله عليه من الأسباب الداعية لدوام النعم، فعَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) لِلْحُسَيْنِ الصَّحَّافِ: (يَا حُسَيْنُ مَا ظَاهَرَ اللَّهُ عَلَى عَبْدِ النِّعَمَ حَتَّى ظَاهَرَ عَلَيْهِ مؤونة النَّاسِ ، فَمَنْ صَبَرَ لَهُمْ وَ قَامَ بِشَأْنِهِمْ زَادَهُ اللَّهُ فِي نِعَمِهِ)[37].

سادساً: إنظار المعسر صدقة ما دمت منظراً له

الصدقة من الأعمال التي فيها النفع والخير الكثير، ومن هنا يتمنى الفرد الرجوع للحياة الدنيا، وتأخير وفاته حتى يتصدق قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ}[38]، والصدقة نوع من الإغاثة للملهوف يصان بها وجهه؛ فيجزى صاحبها من قبل الله بما رفع عن العباد، وانظار المعسر صون لوجهه وكرامته وما دمت كذلك فأنت بحكم دوام المتصدق، فقد روي عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) قَالَ: (صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) الْمِنْبَرَ ذَاتَ يَوْمٍ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ، أَلَا وَمَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً كَانَ لَهُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةُ بِمِثْلِ مَالِهِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): {وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةُ إِلى مَسِيرَةِ وَإِنْ تَصَدَّقُوا خَيْرُ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} إِنَّهُ مُعْسِرُ فَتَصَدَّقُوا عَلَيْهِ بِمَا لَكُمْ عَلَيْهِ فَهُوَ خَيْرُ لَكُمْ)[39]، وعَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) قَالَ: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): مَنْ أَقْرَضَ مُؤْمِناً قَرْضاً يَنْتَظِرُ بِهِ مَيْسُورَهُ كَانَ مَالُهُ فِي زَكَاةٍ وَكَانَ هُوَ فِي صَلَاةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ إِلَيْهِ)[40].

أحكام ورؤى فقهية وأخلاقية في القرض

          أ‌-       النية في ارجاع القرض:

يجب على من يأخذ قرضاً أن ينوي ارجاعه إلى صاحبه؛ فيضمن بذلك الجزاء على ما نوى، ويحقق الآثار المترتبة على عمله ونيته، فعَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ رِبَاطٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) يَقُولُ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنُ فَيَنْوِي قَضَاءَهُ كَانَ مَعَهُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلٍ حَافِظَانِ يُعِينَانِهِ عَلَى الْأَدَاءِ عَنْ أَمَانَتِهِ فَانٍ قَصَرَتْ نِيَّتُهُ عَنِ الْأَدَاءِ قَصَرَا عَنْهُ مِنَ الْمَعُونَةِ بِقَدْرِ مَا قَصَرَ مِنْ نِيَّتِهِ)[41]، وورد: (اعْلَمْ أَنَّهُ مَنِ اسْتَدَانَ دَيْناً وَنَوَى قَضَاءَهُ فَهُوَ فِي أَمَانِ اللَّهِ حَتَّى يَقْضِيَهُ فَان لَمْ يَنْوِ قَضَاءِ فَهُوَ سَارِقُ؛ فَاتَّقِ اللَّهَ وَأْدِ إِلَى مَنْ لَهُ عَلَيْكَ)[42].

       ب‌-    لا يباع دار المستقرض من أجل السداد:

لقد جاءت الشريعة من أجل التسهيل على العباد، والرفق بهم، وأنّ هدف القوانين هو توفير المصالح العامة والخاصة، فلو اضطر شخص ما للاقتراض ثم تعسر فلم تحبب الشريعة أن يخرج عن بيته الذي يظله من أجل التسديد، فقد روي عَنِ الْحَلَبِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) قَالَ: (لَا تُبَاعُ الدَّارُ وَلَا الْجَارِيَةُ فِي الدَّيْنِ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلرَّجُلِ مِنْ ظِلٍّ يَسْكُنُهُ، وَخَادِمٍ يَخْدُمُهُ)[43]، وهذا ما سار ومضى عليه شيعة أهل البيت أيام المعصوم، فقد رَوَى إِبْرَاهِيمُ بْنُ هَاشِمٍ: (إنَّ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ (رحمه الله) كَانَ رَجُلًا بَزَّازاً فَذَهَبَ مَالُهُ وَافْتَقَرَ وَكَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فَبَاعَ دَاراً لَهُ كَانَ يَسْكُنُهَا بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَحَمَلَ الْمَالَ إِلَى بَابِهِ فَخَرَجَ اليه مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَيْرٍ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: هَذَا مَالُكَ الَّذِي لَكَ عَلَي. قَالَ: وَرِثْتَهُ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: وُهِبَ لَكَ؟ قَالَ لَا. قَالَ فَقَالَ: فَهُوَ ثَمَنُ ضَيْعَةٍ بِعْتَهَا؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَمَا هُوَ؟ قَالَ: بِعْتُ دَارِيَ الَّتِي أَسْكُنُهَا؛ لِأَقْضِيَ دَيْنِي. فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَيْرٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ): حَدَّثَنِي ذَرِيحُ الْمُحَارِبِيُّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) أَنَّهُ قَالَ: (لَا يُخْرَجُ الرَّجُلُ عَنْ مَسْقَطِ رَأْسِهِ بِالدَّيْنِ) ارْفَعْهَا فَلَا حَاجَةَ لِي فِيهَا وَاللَّهِ أَنَّى مُحْتَاجُ فِي وَقْتِي هَذَا إِلَى دِرْهَمٍ وَ مَا يَدْخُلُ مِلْكِي مِنْهَا دِرْهَمُ)[44].

       ت‌-    الدعاء من أجل سداد القرض

الدعاء له فضل عظيم على وجه العموم، ومن أهم أسباب قضاء الحاجات التضرع لمن بيده قضاء الحوائج، وممّا ينغص العيش، ويعكر المزاج أن يبتلى الفرد بكثرة الديون التي تثقل كاهله، وتشتغل بها ذمته، فعَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: دَخَلَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (عَلَيْهِمَا السَّلَامُ) عَلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَ هُوَ مَرِيضُ، وَهُوَ يَقُولُ: وَآ غَمّاه، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): وَمَا غَمُّكَ يَا أَخِي؟ قَالَ: دَيْنِي وَهُوَ سِتُّونَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَقَالَ الْحُسَيْنُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): هُوَ عَلِيُّ قَالَ: إِنِّي أَخْشَى أَنْ أَمُوتَ، فَقَالَ الْحُسَيْنُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): لَنْ تَمُوتَ حَتَّى أَقْضِيَهَا عَنْكَ. قَالَ: فَقَضَاهَا قَبْلَ مَوْتِهِ)[45]، وهذا الخبر يبيّن لنا الحالة النفسية التي كان يعانيها هذا المؤمن بسبب الدين، بل اهتمامه بأن يموت قبل تسديد دينه حتى بعد أن ضمن له سيد الشهداء (عليه السلام) سدادها.

 وقد جاءت أحاديث تبيّن أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) كان يدعو ويتضرع إلى الله عز وجل، وكان من عادته(صلى الله عليه وآله) أن يدعو ربه  ويتضرع إليه ويقدم فقره بين يدي الله، ومن أدعيته المباركة لقضاء الدين (اللَّهُمَّ سُدَّ فَقْرَنَا بِغِنَاكَ، اللَّهُمَّ غَيِّرْ سُوءَ حَالِنَا بِحُسْنِ حَالِكَ، اللَّهُمَّ اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ، وَأَغْنِنَا مِنَ الْفَقْرِ، إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيء قَدِيرُ)[46]، وهذا ما سار عليه الأئمة الطاهرون من ذريته إذ كانوا يدعون الله ويتضرعون إليه في قضاء دينهم، فعَنْ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرِ الْبَاقِرِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عَلَيْهِمُ السَّلَامُ)، قَالَ: (شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) دَيْناً كَانَ عَلَيَّ، فَقَالَ: يَا عَلِيُّ، قُلِ اللَّهُمَّ أَغْنِنِي بِحَلَالِكَ عَنْ حَرَامِكَ، وَبِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ، فَلَوْ كَانَ عَلَيْكَ مِثْلُ صَبِيرٍ دَيْناً قَضَاهُ اللَّهُ عَنْكَ. وَصَبِيرُ: جَبَلُ بِالْيَمَنِ، لَيْسَ بِالْيَمِينِ جَبَلُ أَجَلَّ وَلَا أَعْظَمَ مِنْهُ)[47]، وعن الإمام زين العابدين (عليه السلام) يقول: (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَهَبْ لِيَ الْعَافِيَةَ مِنْ دَيْنٍ تُخْلِقُ بِهِ وَجْهِي)[48]، وورد عنهم بعض الأدعية التي علموها للناس عند الاعسار، فعَنْ عبدالله بْنِ سِنَانٍ قَالَ شَكَوْتُ إِلَى أَبَى عبدالله (عَلَيْهِ السَّلَامَ) فَقَالَ: أَلَا أُعَلِّمُكَ شَيْئاً اذا قُلْتَهُ قَضَى اللَّهُ دَيْنَكَ وانعشك وَأَنْعَشَ حَالَكَ؟ فَقُلْتُ: مَا أحوجنى إِلَى ذَلِكَ، فَعَلَّمَهُ هَذَا الدُّعَاءَ قُلْ فِي دُبُرِ صَلاةِ الْفَجْرِ: تَوَكَّلْتُ عَلَى الْحَىِّ الَّذِى لَا يَمُوتُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكُ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَّى مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً، اللَّهُمَّ أَنَّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُؤْسِ وَالْفَقْرِ وَمِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَالسُّقْمِ وأسألك أَنْ تعينني عَلَى أَدَاءِ حَقِّكَ اليك وَالَى النَّاسِ)[49].

       ث‌-    استحباب التوسط والتشفع لإسقاط قرض المعسر

يعتبر السعي في قضاء حوائج المؤمنين من العبادات المفضلة عند الله عز وجل، فكيف إن كان في حفظ ماء وجه المؤمن من دين ضاق به؟ فقد ورد الحث على الاستشفاع بقضاء حوائج الناس بصورة عامة، فعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) قَالَ: أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلٍ إِلَى مُوسى (عَلَيْهِ السَّلَامُ): (إِنَّ مِنْ عِبَادِي لَمَنْ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالْحَسَنَةِ فاحكمه فِي الْجَنَّةِ، قَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ وَمَا تِلْكَ الْحَسَنَةُ؟ قَالَ: يَمْشِي مَعَ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ فِي قَضَاءِ حَاجَتِهِ قُضِيَتْ أَمْ لَمْ تُقْضَ)[50]، أمّا ما ورد بخصوص التشفع في المعسر، فقد روي عَنْ مُعَتِّبٍ قَالَ: (دَخَلَ مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرِ الْوَشَّاءُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) يَسْأَلَهُ: أَنْ يُكَلِّمَ شِهَاباً أَنْ يُخَفِّفَ عَنْهُ حَتَّى يَنْقَضِيَ الْمَوْسِمُ وَكَانَ لَهُ عَلَيْهِ أَلْفُ دِينَارٍ؛ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَأَتَاهُ فَقَالَ لَهُ: قَدْ عَرَفْتَ حَالَ مُحَمَّدٍ وَانْقِطَاعَهُ إِلَيْنَا، وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ لَكَ عَلَيْهِ أَلْفَ دِينَارٍ لَمْ تَذْهَبْ فِي بَطْنٍ وَلَا فَرْجٍ، وَإِنَّمَا ذَهَبَتْ دَيْناً عَلَى الرِّجَالِ وَوَضَايعٍ وَضَعَهَا، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ تَجْعَلَهُ فِي حِلٍّ، فَقَالَ: لَعَلَّكَ مِمَّنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُقْبَضُ مِنْ حَسَنَاتِهِ فَتُعْطَاهَا؟ فَقَالَ: كَذَلِكَ فِي أَيْدِينَا. فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): اللَّهُ أَكْرَمُ وَأَعْدَلُ مِنْ أَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَيْهِ عَبْدُهُ؛ فَيَقُومَ فِي اللَّيْلَةِ الْقَرَّةِ، أَوْ يَصُومَ فِي الْيَوْمِ الْحَارِّ، أَوْ يَطُوفَ بِهَذَا الْبَيْتِ؛ ثُمَّ يَسْلُبُهُ ذَلِكَ فَيُعْطَاهُ، وَلَكِنْ لِلَّهِ فَضْلُ كَثِيرُ يُكَافِي الْمُؤْمِنَ، فَقَالَ: فَهُوَ فِي حِلٍّ)[51].

        ج‌-     استحباب قضاء قرض الوالدين بعد وفاتهما:

للوالد حقوق وواجبات على الولد مراعاتها في أيام حياته، من طاعة لا تتعارض مع أحكام الله وطاعاته، ومن بر ونفقة وعيش بإحسان ومعروف، أمّا بعد مماته فالإحسان والمعروف في عدم جلب اللعن عليه، أو السباب إليه، ومن أداء المبرات والخيرات عنه، وأداء ديونه ورد المظالم عنه، وقضاء ما فاته من حق الله، فعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) قَالَ: (إِنَّ الْعَبْدَ لَيَكُونُ بَرًّا بِوَالِدَيْهِ فِي حَيَاتِهِمَا ثُمَّ يَمُوتَانِ فَلَا يَقْضِي عَنْهُمَا دُيُونَهُمَا وَلَا يَسْتَغْفِرُ لَهُمَا فَيَكْتُبُهُ اللَّهُ عَاقّاً، وَإِنَّهُ لَيَكُونُ عَاقّاً لَهُمَا فِي حَيَاتِهِمَا غَيْرَ بَارٍّ بِهِمَا فَإِذَا مَاتَا قَضَى دَيْنَهُمَا وَاسْتَغْفَرَ لَهُمَا فَيَكْتُبُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلٍ بَارّاً)[52]، وعَنْ حَنَانِ بْنِ سَدِيرٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): هَلْ يَجْزِي الْوَلَدُ وَالِدَهُ؟ فَقَالَ: (لَيْسَ لَهُ جَزَاءُ إِلَّا فِي خَصْلَتَيْنِ: أَنْ يَكُونَ الْوَالِدُ مَمْلُوكاً فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ، أَوْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنُ فَيَقْضِيهِ عَنْهُ)[53].

        ح‌-     جواز اسقاط المقرض لشيء من القرض قبل موعد السداد:

إنّ مسألة القرض تسهيل على المستقرض بقضاء حاجته، وقد تنقلب أوضاع المقرض فيكون في عسرة فيحتاج إلى المبلغ لقضاء شدته فلم يهمل الشرع تلك الحالة ووضع لها حلولاً، فجوز أن يسقط بعض حقه لاستعجال ارجاع بعض القرض، أو المد في فترة السداد مع بقاء المال على حاله، فعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) فِي الرَّجُلِ يَكُونُ عَلَيْهِ دَيْنُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَيَأْتِيهِ غَرِيمُهُ فَيَقُولُ: انْقُدْنِي مِنَ الَّذِي لِي كَذَا وَكَذَا، وَأَضَعَ لَكَ بَقِيَّتَهُ، أَوْ يَقُولُ: انْقُدْنِي بَعْضاً وَأُمِدَّ لَكَ فِي الْأَجَلِ فِيمَا بَقِيَ، فَقَالَ: لَا أَرَى بِهِ بَأْساً مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى رَأْسِ مَالِهِ شَيْئاً، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجِلَ: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ}[54])[55]، وهذه المسألة تعاكس القرض الربوي تماماً ولذا قال الإمام ما لم يزد شيئاً على رأس المال واستشهد بالآية الكريمة.

        خ‌-     استحباب ابراء ذمة المستقرض بعد موته:

العباد بعد موتهم بحاجة إلى كلِّ ما ينزل الرحمة والغفران، وتحليل ذممهم المعنوية والمالية من مقدمات الرحمة، فالروايات قد وردت وأكدّت بأنَّ القرض من الحقوق المالية التي لا تقع عن ذمّة الشهيد المقتول في سبيل الله فضلاً عمّن يموت دون ذلك، فعَنْ حَنَانِ ابْنِ سَدِيرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) قَالَ: (كُلُّ ذَنْبٍ يُكَفِّرُهُ الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلٍ إِلَّا الدَّيْنَ لَا كَفَّارَةَ لَهُ إِلَّا أَدَاؤُهُ، أَوْ يَقْضِيَ صَاحِبُهُ، أَوْ يَعْفُو الَّذِي لَهُ الْحَقُّ)[56]، ومن هنا وردت الروايات بإبراء ذمّة من يتوفى وعليه قرض، فعَنِ الْحَسَنِ بْنِ خُنَيْسٍ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عَلَيهِ‌ السَّلَامُ) إِنَّ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَيَابَةَ دَيْناً عَلَى رَجُلٍ قَدْ مَاتَ وَقَدْ كَلَّمْنَاهُ أَنْ يُحَلِّلَهُ فَأَبَى. فَقَالَ: وَيْحَهُ أَمَّا يَعْلَمُ أَنَّ لَهُ بِكُلِّ دِرْهَمٍ عَشَرَةً إِذَا حَلَّلَهُ فَإِذَا لَمْ يُحَلِّلْهُ فَإِنَّمَا لَهُ دِرْهَمُ بَدَلَ دِرْهَمٍ)[57].

         د‌-       تحديد مهلة انظار المعسر:

لكي لا تترك القضايا مفتوحة الأمد غير محددة لترتب حقوق الآخرين، ولا يكون ضرر على المستدين والمدين عند التعسر تطبيقاً لقوله (صلى الله عليه وآله): (...فَإِنَّهُ لَا ضَرَرَ وَ لَا ضِرَارَ)[58]؛ فقد حددت الشريعة المدّة التي يمهل فيها المعسر، فعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَزِيرَةِ يُكَنَّى أَبَا مُحَمَّدٍ قَالَ: سَأَلَ الرِّضَا (عَلَيْهِ السَّلَامُ) رَجُلُ وَأَنَا أَسْمَعُ فَقَالَ لَهُ: (جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلٍ يَقُولُ : {وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةُ إِلى مَيْسَرَةٍ} أَخْبَرَنِي عَنْ هَذِهِ النَّظِرَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلٍ فِي كِتَابِهِ، لَهَا حَدُّ يُعْرَفُ إِذَا صَارَ هَذَا الْمُعْسِرُ إِلَيْهِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يُنْتَظَرَ، وَقَدْ أَخَذَ مَالَ هَذَا الرَّجُلِ وَأَنْفَقَهُ عَلَى عِيَالِهِ، وَلَيْسَ لَهُ غَلَّةُ يُنْتَظَرُ إِدْرَاكُهَا، وَلَا دَيْنُ يُنْتَظَرُ مَحِلُّهُ، وَلَا مَالُ غَائِبُ يُنْتَظَرُ قُدُومُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ يُنْتَظَرُ بِقَدْرِ مَا يَنْتَهِي خَبَرُهُ إِلَى الْإِمَامِ فَيَقْضِي عَنْهُ مَا عَلَيْهِ مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ إِذَا كَانَ أَنْفَقَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلٍ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَنْفَقَهُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلَا شَي‏ءَ لَهُ عَلَى الْإِمَامِ ، قُلْتُ: فَمَا لِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي ائْتَمَنَهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ فِيمَا أَنْفَقَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ أَمْ فِي مَعْصِيَتِهِ، قَالَ: يَسْعَى لَهُ فِي مَالِهِ فَيَرُدُّهُ عَلَيْهِ وَهُوَ صَاغِرُ)[59].

الآثار الأخلاقية للقرض:

هنالك آثار أخلاقية كثيرة وجمة مترتبة على القرض ويمكن أن نبيّن بعضها:

          أ‌-       في القرض إيثار للآخرين إن كان المُدين ليس غنياً؛ فيقدم من هو أحوج على نفسه، وتقديمه للمؤمن على نفسه، ومحبته بأن يشمل بما يحب من دواعي الإيمان، فقد روي عَنِ الإمام الْبَاقِرِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) أَنَّهُ قَالَ: (أَحْبِبْ أَخَاكَ الْمُسْلِمَ وَأَحْبِبْ لَهُ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَأَكْرَهَ لَهُ مَا تَكْرَهُ لِنَفْسِكَ، إِذَا احْتَجْتَ فَسَلْهُ وَإِذَا سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ، وَلَا تَدَّخِرْ عَنْهُ خَيْراً فَإِنَّهُ لَا يَدَّخِرُهُ عَنْكَ)[60].

       ب‌-     جهاد النفس التي تحب المال وتسعى جاهدة للحفاظ عليه، وعدم اخراجه عن يد مالكه؛ فأمواله أغلى من نفسه التي بين جنبيه، وهو أحد الوجوه والاحتمالات التي دعت إلى تقديم المال على النفس في آيات الجهاد، فقد قال تعالى: {وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ}[61].

       ت‌-     يترتب على القرض نشر روح الأخوة والتعاون بين الآخرين في المبرات، ووجوه الخير؛ فيكون الفرد مصداقاً لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}[62].

       ث‌-     يعتبر القرض مصداقاً لقضاء حوائج الآخرين، وتسهيل المصاعب التي يمرون بها بصورة مؤقتة؛ نتيجة لوقوعهم تحت ظروف قاهرة، وقد تقدم أجر من يقضي حوائج المؤمنين.

الهوامش:------

([1])سورة البقرة, آية: 245.

([2])الشيخ الصدوق, كتاب الهداية ج 1 ص 43.

([3])الشيخ عزيز الله العطاردي, مسند الإمام الصادق أبي عبد الله جعفر بن محمد(عليه السلام) ج 12  ص 386.

([4])الشيخ الطوسي, تهذيب الأحكام ج6  ص۱۹۲.

([5])المحدّث النوري, مستدرك الوسائل ج 13 ص 283.

([6])المحقق البحراني, الحدائق الناضرة ج ٢٠ ص ١٠٧.

([7])الشيخ الحر العاملي, الفصول المهمة في أصول الأئمة ج3 ص ۳۳۳.

([8])العلامة المجلسي, بحار الأنوار ج ٨ ص ١٩٣.

([9])سورة البقرة, آية: 282.

([10])سورة البقرة, آية: 282.

([11])تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) ص ٦٥٥.

([12])سورة البقرة, آية: 283.

([13])الشيخ علي النمازي الشاهرودي, مستدرك سفينة البحار ج ٤ ص ٢٦٥.

([14])الشيخ الحر العاملي, وسائل الشيعة ج 18 ص 382.

([15])سورة البقرة : 282.

([16])سورة النساء, آية: 29.

([17])الشيخ الصدوق, من لا يحضره الفقيه ج ٣ ص١٨٣.

([18])الشيخ الحر العاملي, وسائل الشيعة ج18 ص319.

([19])سورة التوبة, آية: 84.

([20])سورة النساء, آية: 11.

([21])الشيخ الصدوق, من لا يحضره الفقيه ج ٤ ص ١٩٣.

([22])سورة البقرة, آية: 280.

([23])الشيخ الكليني, الكافي ج ٤ ص ٣٤.

([24])سورة البقرة, آية: 280. 

([25])المصدر السابق, ص ٣٥.

([26])سورة الحاقة, آية: 19.

([27])سورة الحاقة, آية:25.

([28])سورة البقرة, آية: 30.

([29])الشيخ الحر العاملي, وسائل الشيعة ج 9 ص 388.

([30])الشيخ الحر العاملي, وسائل الشيعة ج ١٦ ص ٣١٩.

([31])سورة الحديد, آية: 13.

([32])العلامة المجلسي, بحار الأنوار ج ١٠٠ ص ١٤٩.

([33])الشيخ الصدوق, من لا يحضره الفقيه ج ٣ ص ١٨٢.

([34])سورة الرحمن, آية: 60.

([35])الشيخ محمد الريشهري, ميزان الحكمة ج ٢ ص ١٢٩٢.

([36])الشيخ الكليني, الكافي ج ٤ ص٣٥.

([37])الشيخ الحر العاملي, وسائل الشيعة ج ١٦ ص٣٢٣.

([38])سورة المنافقون, آية: 10.

([39])الشيخ الصدوق, من لا يحضره الفقيه ج2 ص 59.

([40])الشيخ الصدوق, ثواب الأعمال ص١٣٨.

([41])السيد البروجردي, جامع أحاديث الشيعة ج ١٨ ص ٢٩٧.

([42])علي بن بابويه, فقه الرضا ص ٢٦٨.

([43])الشيخ الطوسي, تهذيب الأحكام ج ٦ ص ١٨٦.

([44])السيد البروجردي, جامع أحاديث الشيعة ج ١٨ ص ٣١٦.

([45])المحدث النوري, مستدرك الوسائل ج ١٣ ص ٤٣٦.

([46])العلامة المجلسي, بحار الأنوار ج ٩٥ -ص ١٢0.

([47])الشيخ الصدوق, الأمالي ص٤٧٢.

([48])السيد المرتضى الموحد الأبطحي الأصفهاني, الصحيفة السجادية ص ١٥٠.

([49])العياشي, تفسير العياشي ج2 ص321.

([50])الشيخ الحر العاملي, وسائل الشيعة ج ١٦ ص٣٦٠.

([51])العلامة المجلسي, مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول ج 16 ص 165.

([52])الشيخ الكليني, الكافي ج ٢ ص ١٦٣.

([53])المحدّث النوري, مستدرك الوسائل ج 15 ص 203.

([54])سورة البقرة, آية: 279.

([55])الشيخ الحر العاملي, وسائل الشيعة ج ١٨ ص٣٧٦.

([56])الشيخ الطوسي, تهذيب الأحكام ج ٦ ص ١٨٤.

([57])العلامة المجلسي, مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول ج 16 ص 165.

([58])العلامة المجلسي, بحار الأنوار ج ٢ ص٢٧٦.

([59])الشيخ الكليني, الكافي ج ٥ ص ٩٤.

([60])الشيخ الصدوق, الأمالی ج۱ ص402.

([61])سورة النساء, آية: 95.

([62])سورة المائدة, آية: 2.  

المرفقات

: الشيخ أمجد سعيد اللامي