روي عن أبي عمرو الشيباني قال: (رَأَيْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) وَبِيَدِهِ مِسْحَاةُ وَعَلَيْهِ إِزَارُ غَلِيظُ يَعْمَلُ فِي حَائِطٍ لَهُ وَالْعَرَقُ يَتَصَابُّ عَنْ ظَهْرِهِ، فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ أَعْطِنِي أَكْفِكَ؟ فَقَالَ لِي: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَتَأَذَّى الرَّجُلُ بِحَرِّ الشَّمْسِ فِي طَلَبِ الْمَعِيشَةِ)[1].
ولنا على ذلك عدّة تعليقات:
1.إنّ رسول الله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) والأئمة من ذريته (عَلَيْهِم السَّلَامُ) لم يكونوا عبئاً على أحد في يوم من الأيام، بل كانوا يعملون ويكدون ويتعبون؛ من أجل تحصيل العيش لهم، ولعوائلهم الكريمة، ومن يحوط بهم، والمتتبع لسيرة النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) يجده قد عمل في التجارة لقريش في ريعان شبابه؛ ولمّا رأت السيدة خديجة (عَلَيْهِا السَّلَامُ) حسن متاجرته طلبت منه أن يتاجر لها في أموالها، فالعمل والكد ديدن الأنبياء (عَلَيْهِم السَّلَامُ) فتجدهم ما بين خياط ونجار وحداد وراع للأغنام إلخ من الصناعات والحرف، وكذا ديدن آل بيت النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) فهم يعملون فيما يعود لهم من أملاك، وهذا ما نلتمسه في الرواية من صادق أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلَامُ) فقد كان يعمل في حائط له (أي بستان له)، فهم مثال وقدوة للمؤمنين من أجل حثّ الناس على العمل والكسب فيما لو نظرنا للرواية على نحو الطريقية كما يعبر عنه في علم الأصول، فالإمام (عَلَيْهِ السَّلَامُ) في طور تشجيع اليد العاملة والتي تعود بالنفع على الفرد والمجتمع من خلال توفير ما يحتاج إليه الفرد أو المجتمع من تنوع الحرف التي يحتاجونها من تجارة أو زراعة أو صناعة إلى غيرها من الأعمال، فقد رُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ أَبُي عَبْدِ اللَّهِ الصادق (عَلَيْهِ السَّلَامُ): (عَلَيْكَ بِإِصْلَاحِ الْمَالِ فَإِنَّ فِيهِ مَنْبَهَةً لِلْكَرِيمِ وَاسْتِغْنَاءً عَنِ اللَّئِيمِ)[2]، كما أنّ في العمل فائدة ودوراً مهماً في زرع الاطمئنان لدى الفرد عند تحصيل رزقه، فقد روي عَنْ مَسْعَدَةَ بْنِ صَدَقَةَ، عَنْ الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلَامُ) قَالَ: (قَالَ سَلْمَانَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ): إِنَّ النَّفْسَ قَدْ تَلْتَاثُ عَلَى صَاحِبِهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مِنَ الْعَيْشِ مَا تَعْتَمِدُ عَلَيْهِ، فَإِذَا هِيَ أَحْرَزَتْ مَعِيشَتَهَا اطْمَأَنَّتْ)[3].
2. إنّ عمل الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلَامُ) بحراثة الأرض والزراعة نحو تشجيع على الزراعة إذ ما أخذنا كلمة العمل في البستان بالزراعة الواردة في الرواية على نحو الموضوعية كما يعبر في علم الأصول، فالزراعة كانت ولا زالت من الجوانب المهمة آنذاك؛ فهي عصب الحياة، فضلاً عمّا تمثل الزراعة من دور كبير في جانب الاكتفاء الغذائي للناس وعدم الاحتياج للغير فقد روي عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ الْوَاسِطِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (عَلَيْهِمَا السَّلَامُ) عَنِ الْفَلَّاحِينَ؟ فَقَالَ: (هُمُ الزَّارِعُونَ كُنُوزُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ، وَمَا فِي الاعمال شيء أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الزِّرَاعَةِ، وَمَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيّاً إِلَّا زَرَّاعاً، إِلَّا إِدْرِيسَ (عَلَيْهِ السَّلَامَ) فَإِنَّهُ كَانَ خَيَّاطاً)[4]، أو الاكتفاء وتأمين لقمة العيش للبقاء من أجل العبادة والطاعة لله، فقد قَالَ رَسُولُ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): (بَارِكْ لَنَا فِي الْخُبْزِ وَلَا تُفَرِّقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فَلَوْلَا الْخُبْزُ مَا صَلَّيْنَا وَلَا صُمْنَا وَلَا أَدَّيْنَا فَرَائِضَ رَبِّنَا)[5].
3.لقد بينّت الرواية حالة العطف والوفاء للمعصومين (عَلَيْهِم السَّلَامُ) من قبل أتباعهم ومحبيهم اذا ما رأوا أئمتهم ومن يقلدوهم أمر دينهم ودنياهم في تعب، فهم يهبوا ويعمدوا إلى مساعدتهم، وتخفيف الثقل عنهم، فقد قَالَ رسول الله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): (الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ بِمَنْزِلَةِ الْبُنْيَانِ يَشُدَّ بَعْضُهُ بَعْضاً)[6]، فكيف حال المؤمنين مع رأس الإيمان وسيده الذي يقوم بمهام كبرى وجسيمة من هداية الناس، وتزكيتهم، وتعليمهم أمر دينهم ودنياهم، ولذا قال للإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلَامُ) أنا أكفيك عن هذا العمل.
4.يُعدُّ العمل في منظور الشرع المبين من الواجبات التي يكتفي بها العبد عن غيره فلا يقع في الذلّة والاحتياج للغير، كما أنّها تدفع الموت عن الفرد لحاجة الجسد للطعام بحسب قانون الأسباب، كما ويعدُّ العمل من المستحبات لمّا يمكن الفرد من قضاء حوائج الأخرين أو إكرامهم، وقد دلّت الأدلة على محبة الله عز وجل، وأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلَامُ) للكرم وقضاء حوائج الآخرين، فضلاً عن ورود الأدلة على استحباب العمل فقد روي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) أَنَّهُ قَالَ: (الْكَادُّ عَلَى عِيَالِهِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)[7]، ومنها تعليل الإمام بمحبة رؤية المشقة على العبد في نهاية الرواية المتصدرة للحديث فهو يعمل في كده ويأكل مما عملت يداه ولا يكون عالة على غيره فالبعض يعيش كلاً على المؤمنين من خلال ظاهرة التسول التي أخذت مأخذاً في البلدان الإسلامية فهم يتسولون من دون ضرورة لاستطاعتهم العمل الذي يكفل لهم العيش الرغيد فأين هم من كلام رسول الله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): (مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْأَلُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ فَيَمُوتُ حَتَّى يُحْوِجَهُ اللَّهُ إِلَيْهَا وَيُثَبِّتَ لَهُ بِهَا النَّارَ)[8]، أو كما يفعل الكثير اليوم باعتماده على معونات الدولة وهم قادرون على العمل والعيش الكريم، ولا نريد هنا الحط أو النيل من كرامة من يأخذوا معولات أو رعاية من قبل الدولة فهنالك من لا يقدروا على العمل نتيجة عدم توفر فرص العمل والمعيشة، أو من يعوز ويحتاج لدعم دخله؛ نتيجة لغلاء المعيشة، أو المتطلبات الكثيرة للحياة والتي ترهق الفرد؛ لعدم وجود دراسة توازن بين الدخل والخرج للمواطن في ظل الظروف المعيشية القائمة لتوفر له اقتصاد يليق بالوضع الراهن.
5. إن رفض طلب المؤمن من قبل الإمام الصادق(عَلَيْهِ السَّلَامُ) لا توجد أي خلّة فيه؛ وذلك لأنَّ المنفعة عائدة على الإمام بشكل أولي وليس على الفرد فصاحب الأناء أولى بحمله كما يعبر، أو أنَّ الإمام برفضه لطلب المؤمن بالعمل مكانه يلاحظ دفع مفسدة مستقبلية وهي التعالي لدى البعض، أو استغلال المؤمنين في قضاء حوائجهم الشخصية، كما أنَّ بعض الطلبات لا يمكن تنفيذها، وبعضها يجب لما جاء في الرواية عن الْإِمَامُ الْكَاظِمِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): (مَنْ أَتَاهُ أَخُوهُ الْمُؤْمِنُ فِي حَاجَةٍ فَإِنَّمَا هِيَ رَحْمَةُ مِنَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَاقَهَا إِلَيْهِ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ وَصَلَهُ بِوَلَايَتِنَا، وَهُوَ مَوْصُولُ بِوَلَايَةِ اللَّهِ، وَإِنْ رَدَّهُ عَنْ حَاجَتِهِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى قَضَائِهَا؛ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ شُجَاعاً مِنْ نَارٍ يَنْهَشُهُ فِي قَبْرِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، مَغْفُوراً لَهُ أَوْ مُعَذَّباً، فَإِنْ عَذَرَهُ الطَّالِبِ؛ كَانَ أَسوءَ حَالًا)[9].
6.إن الإمام صرح بحب التأذي الذي يصيب المرء من أجل العمل ولا يشكل على الإمام بحرمة أذية النفس فالأذية المحرمة ما كان فيها هلاك الكل أو ذهاب البعض كقطع اليد أو نقصان العافية المباشر نتيجة لفعل يقوم به الفرد، ولعل حب الإمام (عليه السلام) لحصول الأذية المحتملة التي لا تؤدي للهلاك من أجل أن لا يسرف أو يفرط الفرد بما يجنيه بسهولة، أو لكي يشعر المرء بقيمة ما يعمل، أو يشعر بعظيم نعمة الله عليه لمنحه قوة جسدية يعمل بها ونشاط متجدد وعافية فمن يعمل أحب ممن لا يعمل؛ ومن هنا جاء عن الْإِمَامُ عَلَيَّ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلٍ إِلَى دَاوُدُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): (أَنَّكَ نِعْمَ الْعَبْدُ لَولَا أَنَّكَ تَأْكُلُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَلَا تَعْمَلُ بِيَدِكَ شَيْئاً، قَالَ: فَبَكَى دَاوُدُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ)، فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلٍ إِلَى الْحَدِيدِ: أَنْ لِنْ لِعَبْدِي دَاوُدَ، فُلَانُ، فَأَلَانَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ الْحَدِيدَ، فَكَانَ يَعْمَلُ كُلَّ يَوْمٍ دِرْعاً فَيَبِيعُهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَعَمِلَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ دِرْعاً فَبَاعَهَا بِثَلَاثِمِائَةٍ وَسِتِّينَ أَلْفاً، وَاسْتَغْنَى عَنْ بَيْتِ الْمَالِ)[10].
7.قوله يتأذى بحر الشمس اشعار من الإمام (عليه السلام) لما يوجد من نفع كبير في النهار وحرارة الشمس على الفرد؛ فالنهار حار جاف فيكون الفرد أكثر نشاطاً والليل رطب بارد فيميل الفرد للراحة والسكون، أو صرح الإمام بحب تأذي الفرد لحرارة الشمس؛ لكون النهار هو الأغلب للعمل وطلب المعاش وهذا ما صرحت به الآيات الكريمة فقد قال تعالى: {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا}[11]، وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}[12]، وقوله تعالى: {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورً}[13]، دون الليل الذي يخصص للعبادة بحسب مدلول الآيات الكريمة فقد قال تعالى: {يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ}[14]، وقوله تعالى في مدح المؤمنين العابدين {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ}[15]، وقوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا}[16] وقوله تعالى: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}[17].
الهوامش:----------
[1] الشيخ الكليني، الكافي ج 5 ص76.
[2] الشيخ الكليني، الكافي ج 5 ص 88.
[3] الشيخ الكليني، الكافي ج 5 ص ٨٩.
[4] الشيخ الحر العاملي، وسائل الشيعة ج 17 ص42.
[5] العلامة المجلسي، بحار الأنوار ج 63 ص270.
[6] العلامة المجلسي، بحار الأنوار ج 58 ص150.
[7] العلامة المجلسي، بحار الأنوار ج 100 ص 13.
[8]الشيخ الحر العاملي، وسائل الشيعة ج 6 ص305.
[9] الشيخ الكليني، الكافي ج 2 ص196.
[10] الشيخ محمد الريشهري، ميزان الحكمة ج 4 ص 3134.
[11] سورة النبأ، آية: 11.
[12] سورة الإسراء، آية: 12.
[13] سورة الفرقان، آية: 47.
[14] سورة آل عمران، آية: 113.
[15] سورة الذاريات، آية: 17.
[16] سورة المزمل، آية: 2.
[17] سورة الذاريات، آية: 18.
اترك تعليق