لا تقتلوا أنفسكم مع الحسين!

قبل يوم التاسع من المحرم أراد الشمر بن ذي الجوشن أن يمنح العباس وأخوته أمانا إذا تركوا أخاهم الحسين عليه السلام؛ لوجود صلة قرابة بينه وبين أمهم السيدة أم البنين، ولكي يسحب ركنا قويا ومهما من أركان معسكر الإمام الحسين عليه السلام، فصاح بأعلى صوته:

"أين بنو أختنا؟ أين العباس وإخوته؟ فأعرضوا عنه. 

فقال الحسين عليه السلام: أجيبوه ولو كان فاسقا. 

قالوا: ما شأنك وما تريد؟ 

قال: يا بني أختي أنتم آمنون لا تقتلوا أنفسكم مع الحسين، والزموا طاعة أمير المؤمنين يزيد.

فقال العباس: لعنك الله ولعن أمانك. أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له، وتأمرنا أن ندخل في طاعة اللعناء وأولاد اللعناء؟!" . حقا إنه موقف يبعث على الحيرة والتعجّب، فهل حقا كان الشمر صادقا في دعوته هذه؟ 

وهل كان يظنّ ولو ظنّا بسيطا جدا أن أولاد علي عليه السلام وأم البنين سيتنازلون عن أخيهم الإمام الحسين عليه السلام مقابل أمان لا قيمة له؟ 

لقد أراد الشمر تحقيق ما يريد عن طريق إطلاق صوته عاليا، سائلا عمن سمّاهم ب (بنو أختنا) بوساطة (أين) الاستفهامية التي وردت في موضعين، معيّنا إياهم ب (العباس وإخوته)، فما كان من هؤلاء الأشاوس إلا أن يهملوه ولا يجيبوه؛ لأنه لا يستحق جوابا، لكن نفس الحسين عليه السلام الكبيرة لم ترضَ بذلك، فطلب منهم إجابته بوساطة فعل الأمر (أجيبوه)، حتى إن كان فاسقا، فكان جوابهم له مقتضبا، ومحددا بسؤالين: (ما شأنك وما تريد؟)، من دون قبول له، ومن دون مجاملة أو إطالة في الكلام؛ لأنه لا يستحق ذلك، فأجابهم مناديا إياهم، وساعيا إلى جذبهم واستمالة نفوسهم قائلا: (يا بني أختي أنتم آمنون)، مانحا إياهم الأمان، ثم نهاهم بوساطة (لا) الناهية الجازمة عن قتل أنفسهم مع أخيهم الحسين عليه السلام بالبقاء في معسكره، والقتال معه؛ لأن ذلك سيؤدي إلى قتلهم، إذ قال: (لا تقتلوا أنفسكم مع الحسين!)، ثم أمرهم بوساطة فعل الأمر: (الزموا) أن ينتقلوا من طاعة وولاية أخيهم الإمام المعصوم إلى طاعة يزيد بن معاوية. وهنا لا بدّ من مناقشة فعل الشمر هذا وطرح بعض الأسئلة، فهل يظنّ هذا الرجل أن من تربَوا في مدرسة الإمام علي والحسن والحسين عليهم السلام، وفي مدرسة السيدة أم البنين أن بهم خوفا من القتل مع أخيهم؛ لكي ينهاهم عن قتل أنفسهم مع الحسين عليه السلام؟ 

وهل يظنّ أن الحسين السبط عليه السلام رخيص عندهم إلى هذه الدرجة بحيث أنهم يتركونه؛ خوفا من القتل وحبّا للدنيا؟

وهل يظنّ أن إيمانهم ضعيف وعقيدتهم مهزوزة ليتركوا طاعة وولاية إمام زمانهم، ويلزموا طاعة يزيد بن معاوية، وهم يعلمون من هو يزيد؟ 

وهل يظنّ أنهم خائفون من القتل والموت شهداء؛ ليمنحهم هذا الأمان؟

لا أعتقد أنه يظنّ كل هذه الظنون، لكن الإنسان الذي تهون عليه نفسه، ويبيعها بأبخس ثمن للطغاة والمجرمين، من أجل مطامع دنيوية لا قيمة لها، يظنّ أن بعض الناس مثله، ويحاول أن يجعل البعض الآخر مثله؛ لأن المصيبة إن عمّت هانت، ولأن هذا الرجل مصاب في أخلاقه ودينه وعقيدته، فقد أراد للآخرين أن يكونوا مثله، وهذا ما أراده من العباس وإخوته، فما كان من أبي الفضل إلا أن يردّه ردّا صاعقا، ويعرّفه حجمه، و يبيّن له الفرق بين الرجل المؤمن المجاهد الذي لا يبالي بالقتل من أجل دينه وعقيدته ومبادئه، وبين الرجل الإمّعة الذي يبيع دينه وآخرته من أجل دنيا غيره، فقال له: (لعنك الله ولعن أمانك. أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له، وتأمرنا أن ندخل في طاعة اللعناء وأولاد اللعناء؟!)، إذ يبدأ جوابه الصاعق لهذا المجرم الإمّعة بلعنه ولعن أمانه الذي جاء به إليهم، ثم يوظّف همزة الاستفهام التي حملت معاني الإنكار والتوبيخ والتعجّب؛ لينكر عرضه الأمان عليهم، والحسين عليه السلام ابن رسول الله لا أمان له،، ويوبّخه عليه، ويتعجّب من هكذا عرض، ولينكر عليه أمره لهم بالدخول في طاعة من لعنهم القرآن الكريم ولعنهم النبي الأعظم صلى الله عليه وآله فهم لعناء وأولاد لعناء، ويوبّخه عليه، ويتعجّب من فعله هذا، فيا لها من مفارقة، و يا له من عرض عجيب! من إنسان هانت عليه نفسه، ولم يستطع تمييز معادن الرجال الرساليين الشجعان الذين لا يخافون القتل والشهادة في سبيل الله من الرجال الجبناء الذين يخافون من الظالمين؛ بسبب خوفهم من الموت، وخوفهم على حياتهم التي لا قيمة لها في قبال حياة هؤلاء الأبطال الذين هانت عليهم حياتهم من أجل تحقيق ما يريدونه من أهداف سامية.

وإنّما هي قتلةٌ واحدةٌ، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا

جمع الإمام الحسين عليه السلام أهل بيته وأصحابه قرب المساء قبل مقتله بليلة واحدة، وخطب فيهم، وأخبرهم بأن موعد استشهاده قريب، وهو في العاشر من المحرم، ثم أذن لهم بتركه والانصراف من كربلاء؛ لأن بني أمية يطلبونه ولا يطلبون غيرة، ولو أصابوه لذهلوا عن طلب غيره، بحسب قوله عليه السلام ، فما كان منهم ألا أن أجابوه بأجوبة يحار الدهر أمامها، وهي أجوبة تعبّر عن إخلاصهم النادر ووفائهم العجيب لإمامهم، وتحكي شجاعتهم، وإيثارهم وتفضيلهم القتل مع الحسين عليه السلام على الحياة بدونه، ومن الأجوبة التي ركّزت على ثيمة القتل قول سعيد بن عبد الله الحنفي، إذ قال:

"والله لا نخليك؛ حتى يعلم الله أنا قد حفظنا غيبة رسوله فيك، أما والله لو علمت أني أُقتل ثم أحيا ثم أُحرق حيّا ثم أذرّى، يفعل بي ذلك سبعين مرة، لما فارقتك؛ حتى ألقى حمامي دونك، وكيف لا أفعل ذلك وإنما هي قتلة واحدة، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا" . إن هذه الكلمات الصادقة والنابعة من ضمير حي ترمز إلى موقف بطولي وشجاعة نادرة لأصحاب الحسين عليه السلام، ومنهم سعيد بن عبد الله الحنفي الذي بدأ كلامه بالقسم بلفظ الجلالة بأنهم لا يتركون الحسين عليه السلام حتى تتحقّق غايتهم، وهي أن يعلم الله تعالى أنهم قد حفظوا غيبة نبيّه صلى الله عليه وآله في الحسين عليه السلام، وهو يؤكّد كلامه وغايته هذه التي يريدها بوساطة (أنّ) و (قد)، فضلا عن القسم. إن هذه الجملة تشير إلى العمق الإيماني والعقائدي عند الأصحاب وعند هذا الرجل، فهم باقون مع إمامهم، وسيقتلون معه في سبيل الله، وكرامةً وحبًّا لرسوله عن طريق الحفاظ على ابنه الحسين عليه السلام، فالقتال والقتل معه يمثّل طريقا لرضا الله تعالى، ولرضا رسوله صلى الله عليه وآله.

ثم يفترض سعيد بن عبد الله الحنفي افتراضا في قوله: (أما والله لو علمت أني أقتل ثم أحيا ثم أحرق حيّا ثم أذرّى، يفعل بي ذلك سبعين مرة، لما فارقتك؛ حتى ألقى حمامي دونك)، فهو يؤكّد بمؤكّدين هما القسم بلفظ الجلالة، و(أنّ)، ويوظف (لو) الشرطية وجملة الشرط وجوابه، أنه لو علم أنه سيقتل ثم يعود حيّا ثم يحرق وهو حي، وهذه حالة مؤلمة جدا للإنسان ولا يمكن تحمّلها؛ لأن آلام الحرق من أشدّ الآلام على الإنسان، لكن هذه الآلام كلها تهون أمام الحسين عليه السلام، ثم بعد أن يُحرق حيا يُذرّى رماد جسده المحترق، ثم يفترض افتراضا آخر يعمّق عقيدته في الإمامة والدفاع عن النهج الحقّ الذي اختطّه سبط النبي صلى الله عليه وآله، وهو أن يُفعل به ما افترضه من قتله وإحيائه وإحراقه حيّا وتذريته، سبعين مرة وليس مرة واحدة، فهو مستعد لتحمّل هذه الآلام والأوجاع جميعا ولا يفارق إمامه ولا يتركه وحيدا أمام أعدائه المتربّصين به، ومن المعلوم أن العدد (7) و(70) من الأعداد التي كان العرب يتفاءلون بها ويستعملونها للتكثير، إذ ليس المقصود من كلامه أنه يتوقف عند سبعين قتلة أو حرقا، بل إن ما يرمز إليه توظيفه لهذا العدد هو التكثير، وأن الاستعداد موجود عنده حتى لأكثر منه، ثم تأتي (حتى) الغائية؛ لتبيّن غايته المبتغاة من هذه التضحية الفريدة، وهي الموت دون الإمام، دفاعا عن الدين والعقيدة والمبدأ. ثم يقول: (وكيف لا أفعل ذلك وإنما هي قتلة واحدة، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا) متسائلا بوساطة (كيف) الاستفهامية، أنه كيف لا يُقبل على القتل بكل إصرار ويقين مع أبي عبد الله، وإنما هي قتلة واحدة لا أكثر، موظّفا (إنما) التي أفادت الحصر والتوكيد على أن القتلة مع الحسين عليه السلام واحدة وليست سبعين قتلة، فإذا كان مستعدا وموطّنا لنفسه على سبعين قتلة مؤلمة من النوع الذي افترضه، فما قيمة قتلة واحدة بسيف أو رمح أو نبلة في قبال النعيم الأخروي الذي لا نهاية له، وفي قبال الكرامة الأبدية التي لا كرامة بعدها؛ جرّاء نصرة الحق الذي مثّله الحسين عليه السلام؟.

والله لوددت أني قُتلت ثم نُشرت ثم قُتلت، حتى أقتل هكذا ألف مرة

تحدث بعد سعيد بن عبد الله الحنفي زهير بن القين البجلي الذي ركّز في كلامه على ثيمة القتل أيضا، إذ قال للإمام عليه السلام:

"والله لوددت أني قُتلت ثم نُشرت ثم قُتلت، حتى أقتل هكذا ألف مرة، وأن الله تعالى يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك"[1]. إن هذا النص القصير مليء بذكر القتل، فهناك أربع إشارات لغوية تشير إلى القتل، هي الفعل (قُتلت) الذي ورد مرّتين، والفعل (أقتل)، والاسم (القتل)، فزهير بن القين يتمنّى ويودّ أن يُقتل في سبيل الله، وتحقيقا لأهداف النهضة الحسينية، ونصرةً للإمام ولأهل بيته، ثم يُنشر، ثم يُقتل، مؤكّدا ذلك بالقسم بلفظ الجلالة، واللام الواقعة في جواب القسم، و(أنّ)، ومكرّرا الفعل المبني للمجهول (قُتلت)، ومبيّنا عدم اكتراثه بقتله، وعدم خوفه من هذا المصير، ثم يفترض افتراضا مفاده أنه حتى لو قُتل هذه القتلة ألف مرة لما تردّد أو تراجع عن موقفه الشجاع، ولو عقدنا مقارنة بين تمنّيه للقتل وتمنّي سعيد بن عبد الله الحنفي، في قوله الذي مررنا عليه في الفقرة السابقة، سنجد أن الحنفي يذكر العدد (سبعين) عند ذكره لعدد مرات قتله مع الإمام الحسين عليه السلام، مع خصوصية هذا العدد كما ذكرنا، في حين يرتفع العدد مع زهير بن القين إلى ألف مرة، فهو يودّ أن يقتل ألف مرة بالطريقة التي ذكرها في قبال أن يدفع، بهذا النوع من القتل وبهذا العدد الكبير من القتلات، القتل عن الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته، وكأنّ أصحاب الحسين عليه السلام في مزايدة علنية إيمانية تُظهر حبّهم وولاءهم لإمامهم، فهم يتزايدون مزايدة تبيّن إيمانهم وعقيدتهم وعشقهم الكبير لأبي عبد الله أمام التاريخ الإنساني وأمام الناس، ومن ثم فإنهم لا يخافون القتل والموت ما داموا في صفّ الحسين عليه السلام، يقاتلون معه، ويفدونه بأغلى ما يملكون، فما قيمة الحياة في قبال العزّة والمنَعة والشرف والإباء والشهادة في سبيل الله ومع الإمام الحسين عليه السلام.

الهوامش:---------------------------------------

[1] الإرشاد، 221.

 

: د. طلال خليفة سلمان العبيدي