العقل والنفس في زيارة الحسين عليه السلام

إن الإنسان خلقه الله تعالى وقوامه بالعقل والنفس، وحياته قائمة عليهما، وأثر ذلك ظاهر في صناعة الأحداث في الحياة وتقلبها بحسب طبيعة هذه النفس واستقرارها ورجاحة العقل وتحضره، فينشأ على ضوء ذلك تاريخ للإنسان والمجتمع، وتدور على أساس ذلك الحركة الفكرية الإنسانية، فالفكر حقيقته أنه من نتائج الأفعال والسلوكيات والتصرفات، المشفوعة بالخضوع لإرادة الإنسان نفسه، لكن ذلك كله لا يحصل إلا باستخدام العقل والنفس، لأن الأفعال والسلوكيات الصادرة عن الإنسان تبنى على أساسين:

الأساس الأول: القبول النفسي الذي لا يخالف فطرة الإنسان، لأن مخالفتها تفقد الإنسان حبه ورغبته ورضاه لهذا العمل أو ذاك.

الأساس الثاني: المدركات العقلية التي يطلق عليها (العقل)، والتي تقتضي عدم المخالفة وفقدان المبررات للقيام بالعمل المعين.

والسلوكيات والصرفات والأحداث يبنى على أساسها، لذا قال الإمام أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب(عليه السلام) للكميل ابن زياد(رضوان الله عليه): ((يا كُمَيل، ما مِن حركةٍ إلاّ وأنت محتاجٌ فيها إلى معرفة))[1]، على اعتبار أن أي سلوك أو تصرف يقوم به الإنسان يعبر حركة منه، ويطلق على هذه المعرفة بما ما نسميه بـ: (الفلسفة).

لذا قيل في تعريفها أن الفلسفة تعني (حُبّ الحِكمة)؛ أي حب المعرفة، معرفة كلية ومعرفة الجزئيات والتفاصيل، تفاصيل العلوم النافعة والمعارف الصائبة، وإصابة الصواب في الأقوال، والأفعال، وقد قال الله تعالى في كتابه الحكيم الكريم: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}[2].

وذكروا إضافة لذلك مفهوماً للفلسفة وهو الذي عليه الاصطلاح، يدور حول: (العلم بالأشياء بحقائقها الكليّة)؛ حيث يُؤكّد أنّ الكُليّة هي إحدى خصائص الفلسفة الجوهريّة التي تُميّزها عن غيرها من العلوم الإنسانيّة، وبعبارة أخرى يمكن أن نقول، أنها: (المعرفة الصّادرة من العقل).

فهي التي يبحث فيها عن جملة من المسائل بطريقة العقل البرهاني، كالقضايا العامة للوجود، وكذلك المعرفة، والنفس، والدين[3]، ومرادنا بالطريقة العقلية البرهانية، هي الطريقة التي نثبت بها ونستدل على المسائل المختلفة عن طريق البديهيات العقلية[4].

ومن جملة السلوكيات والتصرفات التي صنعت الأحداث منها في العصر الحديث، هي زيارة الإمام الحسن(عليه السلام)، التي أخذ اليوم حيزاً كبيراً من حياتهم، بحيث كثر حولها القيل والقال، وكثرت في حقها عبارات الدهشة والحيرة والتعجب بشكل يدفع الإنسان إلى الفضول في استكشاف فلسفتها والداعي والمبرر الذي يدفع الناس بهذه الكثافة العددية من دون أن يحجبهم حاجب عنها أو يدفعهم دافع عن أدائها وممارستها بحيث لم تنقطع يوماً حتى في أيام جائحة كورونا، وقد بلغ عدد الزوار مؤخراً (21,198,640)[5].

والسؤال الذي يقدح في الذهن المتفكر والذي أثاره الفضول المعرفي لدى الإنسان هو: ما هو السر في ذلك ولماذا هذه الهمة عند الإنسان والحرص على الحضور في كربلاء والزيارة فضلاً عن الذين يزورونه من أماكنهم ومواقعهم الخاصة بهم؟

ويمكن التماس الإجابة على ذلك من زاويتين سنتطرق لهما لاحقاً ليصدق عليه حركة عن معرفة كما أشار الإمام أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب(عليه السلام)، لكن لنعرف ما هي الزيارة أولاً.

الزيارة لفظة مصدرها (الزوْر)، وتعني الميل والرغبة إلى طرف ما والعدول عن غيره، يقول ابن فارس: ((الزاي والواو والراء، أصل واحد يدل على الميل والعدول))[6]، وهي عبارةٌ عن قيام شخصٍ بالتوجّه نحو الجهة التي يريد زيارتها سواء كانت معلماً ما أو شخص حي أو راحل عن الدنيا، عن قرب أو عن بعد. وجاء في كتاب معجم المصباح المنير أن المعنى لهذه اللفظة هي أن: ((الزيارة في العرف تعني قصد المزور إكراماً له واستئناساً به))[7].

أما اصطلاحاً فهي لا تخرج عن المعنى اللغوي في الميل والرغبة والقصد، والقصد بقصد الإكرام والاستئناس وأداء ما يلزم على الشخص الزائر فعله، وعلى هذا يصبح المعنى مكون من:

1-  الرغبة والقصد والغاية.

2-الامتثال لما هو مطلوب أداءه وتنفيذه من الزائر.

 وهذا الامتثال قائم على إرادة إلهية ورغبة ربانية، لذا ورد في الرواية عن الإمام الرضا(عليه السلام): ((إِنَّ لِكُلِّ إِمامٍ عَهْداً في عُنُقِ أَوْلِيائِهِ وَشيَعتِهِ، وَإِنّ مِنْ تَمام الْوَفاءِ بِالْعَهْدِ زِيارَةَ قبورِهِمْ، فَمَنْ زارَهُمْ رَغَبةً في زِيارَتِهِمْ وَتَصْدِيقاً بِمَا رَغبُوا فيهِ، كانَ أَئِمَّتُهُمْ شُفَعاؤُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ))[8].

وتطبيق ذلك: أن المطلوب تنفيذه هو الوفاء بالعهد للإمام(عليه السلام) تمام الوفاء، لاعتبار أن الشخص الذي يسمى زائراً قد اختار الولاء للشخص الذي يريد زيارته وهو الإمام المعصوم(عليه السلام)، وقد توفر القصد والغاية، بالإرادة من دون إجبار يذكر وهو معبر عن الرغبة النفسية، لأن الإنسان لا يقدم على فعل ما يكرهه.

أما الزوايا المعرفية في هذه الحركة، فهي:

أولاً: زاوية القبول النفسي الذي لا يخالف الفطرة الإنسانية، وتفصيله:

أننا نعني بالفطرة الإنسانية: الخلقة التي خلق الله عباده عليها، وجعلهم مفطورين على أساسها منذ خلقتهم، حيث فطروا على محبة الخير وإيثاره وكراهة الشر ودفعه، وفطرهم خالقهم (جلّ وعلا) على حب المعرفة والكمال، وهي تلك الافعال التي تنبع من جبلة الإنسان وغريزته كالتنفس، والميل إلى الغرائز التي غرزت في الإنسان عند خلقته كالشهوات وحب المال والجاه[9].

إذ تتصف بأن: جذورها باطنية، لذلك فهي شمولية وعامة، ولا تحتاج إلى تعليم معلّم، ولا تخضع لتأثير العوامل المختلفة، وهي على الرغم من إمكانية تضعيفها لكنها لا يمكن استئصالها والقضاء عليها بالمرة[10].

وعلى هذا فالإنسان يبني سلوكه وفعله الخاص(الزيارة) على أساس التناغم والقبول الفطري التي بنيت عليه النفس الإنسانية.

المعطيات الواقعية تفيدنا بأن الرغبة متحققة ذاتيا في الإنسان للقدوم لزيارة أبي عبد الله الحسين(عليه السلام)، وفلسفة ذلك أن الإنسان مادام مفطور على محبة الخير وإيثاره وكراهة الشر ودفعه، فهو يوقع فعل الزيارة عملاً بهذه القاعدة.

فقد جاء بسنده عن حنان ابن سدير، قال: كنت عند أبي جعفر(عليه السلام) فدخل عليه رجل فسلم عليه وجلس، فقال أبو جعفر(عليه السلام): ((من أي البلاد أنت، قال: قال الرجل: أنا رجل من أهل الكوفة وأنا لك محب موال، فقال له أبا جعفر-عليه السلام- أفتزور قبر الحسين-عليه السلام- في كل جمعة، قال: لا، قال: ففي كل شهر، قال: لا، قال: ففي كل سنة، قال: لا، فقال له أبو جعفر-عليه السلام-: إنك لمحروم من الخير))[11]، والخير هذا مطابق لمحبته فطرياً.

ثانيا: زاوية المدركات المعرفية العقلية، والتي تبنى على قاعدة أساسية أخرى، وهي المعلومات ونوعها، فالإدراك بشكل عام يُطلق على العمليات العقلية التي تتضمن اكتساب المعرفة والفهم، وله مراحل ثلاث، هي الاختيار، ثم التنظيم، ثم الترجمة أو التفسير.

فقد جاء عن أئمتنا المعصومين(عليهم السلام) مرويات كثيرة تبين قيمة وقدر هذه الزيارة عند الله تعالى دنيوياً واُخرويا، تلك القيمة التي يرغب الإنسان فيها ويطمع بها ويأمل أن تكون من نصيبه بعد إدراكها وفهما من أجل تطبيقها، لما تجلب إليه من خير وفير جعله الله خالق الكون والمتحكم فيه فيها.

فمن هذه المعارف:

1- ما دل على ضرورة زيارته(عليه السلام)، واعتبرت عدم زيارته مصداق من مصاديق الجفاء، ونعني به البعد عن الشيء وترك الصلة والبر الذي ينشأ من غلظة الطبع، فهو اكتساب معرفي يخرج فهمه الإنسان من دائرة التقصير إلى دائرة الطاعة ليحظى بخيرها الوفير، حيث ورد في الرواية عن الإمام أبي جعفر الباقر(عليه السلام) أنه سأل بعض أصحابه، قال: ((كم بينكم وبين قبر الحسين عليه السلام، قلت: ستة عشر فرسخاً، قال: أو ما تأتونه، قلت لا، قال: ما أجفاكم))[12].

ومادام الأمر كذلك فالإنسان في هذا المضمار بحاجة إلى استكشاف الخير والثواب الجزيل في هذه الزيارة ليدركه ويقطع بضرورة تحويله إلى سلوك عملي في حياته، إذ تحول بالفعل.

2- ما يحث ويوجب الزيارة على الإنسان ترجيحاً لمصلحته وتمكيناً لفائدتها، وقد نص على ذلك وعلته، حيث ذكرت الروايات المعتبرة أن عدم زيارته تقصير في حق من أدان الإنسان بولايته وإمامته وطاعته اختياراً لا جبرا، فقد روى الحسن بن علي بن فضال، عن أبي أيوب الخزاز، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر محمد بن علي(عليهما السلام)، قال: ((مروا شيعتنا بزيارة الحسين بن علي عليهما السلام؛ فإن زيارته تدفع الهدم والغرق والحرق وأكل السبع، وزيارته مفترضة على مَن أقر للحسين عليه السلام بالإمامة من الله عز وجل))[13]، والفرض في اللغة بمعنى: فرض الله وافترض الله أي اوجب، وهو من الألفاظ المرادفة للواجب، ولكن تدور في ألسن فضلاء العلم قولهم: (هذا فرض ربكم وهذه سنة نبيكم)، والسنة هنا تشريع نبوي من التشريعات التي هي جزء من الشريعة الإسلامية أمضاها الله (جل وعلا)، فزيارة الإمام الحسين عليه السلام تشريع نبوي نقله لنا أئمة الشريعة المعصومين الهداة(عليهم السلام) في أصله، ويبقى الكلام في درجته هل هي درجة الوجوب أم الاستحباب، فجوابه مبني على درجة المعرفة بالشريعة الإسلامية والعقيدة التي يعتقد بها الشخص، وانظر في ذلك ذيل الرواية القائل: ((مفترضة على مَن أقر للحسين عليه السلام بالإمامة من الله عز وجل)) أي أن من يعتد بذلك فالزيارة جزء من الشريعة الإسلامية ومن واجباته التي يلزم تأديتها.

3- التمييز بين المعذور عن زيارته وغير المعذور، ففي الرواية عن أبي عبد الله الصادق(عليه السلام) أنه قال لعلي بن ميمون الصائغ، ((يا علي بلغني أن قوما من شيعتنا يمر بأحدهم السنة والسنتان لا يزورون الحسين- عليه السلام.

قلت: جعلت فداك، إني أعرف أناساً كثيرة بهذه الصفة، قال-عليه السلام-: أما والله لحظهم أخطأوا وعن ثواب الله زاغوا وعن جوار محمد-صلى الله عليه وآله- تباعدوا، قلت: جعلت فداك في كم الزيارة؟ قال-عليه السلام-: يا علي إن قدرت أن تزوره في كل شهر فافعل.

قلت: لا أصل إلى ذلك لأني أعمل بيدي واُمور الناس بيدي ولا أقدر اُغيب وجهي عن مكاني يوماً واحداً، قال-عليه السلام-: أنت في عذر ومن كان يعمل بيده، وإنما عنيت من لا يعمل بيده ممن إن خرج في كل جمعة هان ذلك عليه، أما أنه ما له عند الله من عذر ولا عند رسوله من عذر يوم القيامة، قلت: فإن أخرج عنه رجلاً فيجوز ذلك، قال-عليه السلام- نعم وخروجه بنفسه أعظم أجراً وخيراً له عند ربه، يراه ربه ساهر الليل تعب النهار، ينظر الله إليه نظرة توجب له الفردوس الأعلى مع محمد وأهل بيته، فتنافسوا في ذلك وكونوا من أهله))[14].

4-  فقد جاء عن أبي عبد الله الصادق(عليه السلام): ((عجباً لأقوام يزعمون أنهم شيعة لنا، ويقال: إن أحدهم يمر به دهره ولا يأتي قبر الحسين(عليه السلام) جفاء منه وتهواناً وعجزاً وكسلاً، أما والله لو يعلم ما فيه من الفضل ما تهاون ولا كسل، قلت جعلت فداك وما فيه من الفضل، قال: فضل وخير كثير، أما أول ما يصيبه أن يغفر ما مضى من ذنوبه ويقال له: استأنف العمل))[15].

وعلى هذا فإن النفس تتوق لزيارة الإمام الحسين(عليه السلام) والعقل يحكم برجانها وضرورتها، وتتم المعرفة الجزئية التفصيلية بها على معرفتها الكلية، وتتضح فلسفتها في نفسها لا لغيرها، إذ تتسم بالوجوب النفسي والغيري.

ومن هذا الباب يرجح الإنسان الإتيان بها على كل حال وفي أصعب الظروف، ويقدم على إجرائها باسط الصور وأصعبها وأخطرها.

الهوامش:-----------------------------------------------------------------------

[1] تحف العقول، ابن شعبة البحراني، ص: 118-122.

[2] سورة البقرة: ٢٦٩.

[3] راجع: الفكر الفلسفي في العالم الإسلامي، ابراهيم ديناني، ص: 26.

[4] راجع: نقد ودراسة المدرسة التفكيكية، محمد رضا ارشادي نیا، ص: 28(فارسي).

[5] احصائية العتبة العباسية المقدسة، منشور على الشبكة العنكبوتية.

[6] معجم مقاييس اللغة، احمد بن زكريا بن فارس، ج3، ص: 36.

[7] المصباح المنير، الفيومي، ج1، ص: 260.

[8] فروع الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج4، ص: 567.

[9] انظر: مفاهيم القرآن، الشيخ السبحاني، ج 1، ص: 15.

[10] انظر: نفس المصدر، ص: 53.

[11] نفس المصدر، ص: 488.

[12] كامل الزيارات، محمد بن قولويه القمي، ص:486.

[13] الصدوق، محمد بن علي، مَن لا يحضره الفقيه: ج2، ص582.

[14] بحار الأنوار، العلامة محمد باقر المجلسي، ج101، ص: 12.

[15] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج14، ص: 435.

: الشيخ مازن التميمي