إن الله تعالى شاء أن يراك قتيلا
غادر الحسين عليه السلام مكة المكرّمة في ساعة السحر، وكان أخوه محمد بن الحنفية قد نصحه في تلك الليلة بعدم الخروج من مكة إلى العراق، وأشار عليه "بالذهاب إلى اليمن أو بعض نواحي البرّ، فوعده أبو عبد الله في النظر في هذا الرأي" ، إلا أنه قرّر السفر في سحر تلك الليلة. وخرج الركب الحسيني متوجّها إلى العراق، فما كان من ابن الحنفية إلا أن أتي الحسين عليه السلام، "وأخذ بزمام ناقته، وقد ركبها، وقال:
ألم تعدني النظر فيما سألتك؟
قال: بلى، ولكن بعد ما فارقتك أتاني رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: يا حسين أخرج فإن الله تعالى شاء أن يراك قتيلا" ، فالحسين عليه السلام يخبر أخاه محمد بن الحنفية أنه رأى جدّه رسول الله في الرؤيا مخاطبا إياه وآمرا بوساطة الجملة الإنشائية المبدوءة ب (يا) النداء وفعل الأمر (أخرج)، مسبّبا هذا الأمر بالخروج، بمشيئة الله أن يراه قتيلا مضرّجا بدمه، إلا أن ما يثير المتلقي أن هذا التبشير بالقتل من لدن جدّه المصطفى صلى الله عليه وآله لم يُثنِه عن الخروج، ولم يشكّل عائقا أمام سفره إلى العراق، ولم يُلجئه على الأقل إلى تأخير خروجه مدّة يوم أو أكثر، بل خرج في الليلة نفسها وفي سحرها، ولم ينتظر حتى الفجر أو شروق الشمس، وبهذا فإن هذه الرؤيا الصادقة قد شكّلت دافعا مضافا إلى الدوافع التي دفعت الحسين عليه السلام إلى الخروج، كيف لا، ومما يروى عن جدّه المصطفى صلى الله عليه وآله قوله:
"من رآني في منامه فقد رآني؛ لأن الشيطان لا يتمثّل في صورتي، ولا في صورة أحد من أوصيائي، ولا في صورة واحد من شيعتهم، وإن الرؤيا الصادقة جزء من سبعين جزءا من النبوة" .
وهم قاتليَّ
وصل الحسين عليه السلام، وهو في طريقه إلى العراق، إلى (ذات عرق)، وهي المنزل الثالث من منازل الطريق، بعد التنعيم والصفاح، وفي هذه الأثناء التقى به أحد الحجّاج العائدين من الحجّ الذي يروي قصّة لقائه بالحسين عليه السلام قائلا:
"وانطلقتُ نحوه فإذا هو متّكئ على باب الفسطاط، يقرأ كتابا بين يديه، فقلت:
يا بن رسول الله بأبي أنت وأمي. ما أنزلك في هذه الأرض القفراء التي ليس فيها ريف ولا منعة؟
قال: إن هؤلاء أخافوني، وهذه كتب أهل الكوفة، وهم قاتليَّ، فإذا فعلوا ذلك ولم يدعوا لله محرما إلا انتهكوه، بعث الله إليهم من يقتلهم" ، فالحسين عليه السلام يجيب هذا الرجل عن سؤاله الذي يحمل نبرة الاستغراب والتعجّب من نزوله في أرض جرداء قاحلة، لا نبات فيها ولا ماء ولا مَنَعة ولا تحصّن من الأعداء، ويعزو ذلك إلى أكثر من سبب، أولها: أنه خرج خوفا من انتهاك حرمة الكعبة ومكة؛ لأنه كان متيقّنا أن بني أمية كانوا مستعدين لقتله حتى إن كان متعلقا بأستار الكعبة، وثانيها: أنه بهذه الطريقة الغادرة من القتل غيلةً يخشى عدم تحقق أهداف نهضته الإصلاحية التي كان يهدف عن طريقها إصلاح الأمة وتغيير واقعها البائس، وثالثها: أنه خرج بناءً على الكتب الكثيرة التي وصلته من أهل الكوفة، والتي تطلب منه المجيء على نحو السرعة؛ لإنقاذهم، فهم مستعدون لاستقباله والقتال معه، فقد أينعت الثمار واخضرّ الجناب وإنما تقدم على جند لك مجنّدة بحسب ادعائهم في كتبهم؛ لذلك هو يتحمل الصعاب كلها من أجل تحقيق أهدافه، ومنها إنقاذ الناس، ومنهم أهل الكوفة، من ظلم بني أمية، إلا أن المفاجأة التي تكسر أفق التوقع عند المتلقي هي الجملة الخبرية التي نطقها الإمام، وهي قوله: (وهم قاتليَّ)، المكونة من الواو الحالية، والمبتدأ الضمير (هم) والخبر (قاتل) المضاف إلى ياء المتكلم، ومما يجذب الانتباه أكثر أنه وظّف صيغة اسم الفاعل (قاتل)؛ ليشير إلى تحقّق فعل القتل منهم بحقه؛ لأن صيغة اسم الفاعل تشير إلى الثبات على الصفة وعدم العدول عنها، وهو بهذا التعبير الدقيق يؤكّد مقتله لا محالة، لكنه مع تأكده ويقينه هذا، لا يزعزعه الخوف ولا ينال منه قيد ذرّة، لذلك ينتقل في كلامه إلى بيان سوء عاقبتهم إذا أقدموا على قتله، وانتهكوا حرمات الله، بوساطة الجملة الشرطية المصدّرة ب (إذا) الظرف لما يستقبل من الزمان المتضمن معنى الشرط، فهو يخبر، ويحذّر من الإقدام على قتله بوساطة جملة الشرط والجملة المعطوفة عليها بوساطة واو العطف: (فعلوا ذلك ولم يدعوا لله محرما إلا انتهكوه) كانت النتيجة والعاقبة السيئة لهم هي ما تمظهر في جملة جواب الشرط: (بعث الله إليهم من يقتلهم)، وهو بذلك يحذّرهم من مغبّة الإقدام على جريمة قتله، وهي القتل في الدنيا فضلا عن سوء العاقبة في الآخرة، فقد بيّنت الجملة الشرطية سوء فعلهم معه، وعاقبتهم السيئة إذا قتلوه، وهو هنا يبيّن حقيقة قرآنية مهمة، هي أن من يحارب الله ورسوله ويسعى في الأرض فسادا، ومن يقتل ظلما وعدوانا لا بدّ أن يُقتل ولو بعد حين، وتكون عاقبته الخزي في الدنيا وعذاب جهنم في الآخرة. قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} . لكن مع هذا التحذير، ومع هذا الإنذار الواضح الذي يحكي عاقبتهم السيئة إذا ما أقدموا على جريمة قتله، ومع هذه الإحالة إلى آيات القرآن الكريم، لم نجد استجابة منهم، بل أقدموا على قتله تلك القتلة البشعة والساديّة، ولم يراعوا حرمته ولا حرمة أهل بيته ولا حرمة شهر المحرّم، لذلك تحقّق فيهم الوعيد القرآني، وتحقّقت فيهم نبوءة الحسين عليه السلام: (بعث الله إليهم من يقتلهم)، إذ أقدم المختار الثقفي على أخذ ثأر الحسين عليه السلام، والاقتصاص من قاتليه واحدا تلو الآخر، فضلا عن خزيهم في الدنيا وعذابهم الشديد في الآخرة.
فو الله لئن طلبت ما في أيدي بني أمية ليقتلوك
في منازل الطريق، وبعد أن غادر الإمام الحسين عليه السلام الحاجر، كان "لا يمر بماء من مياه العرب إلا اتّبعوه، فانتهى إلى ماء من مياه العرب عليه عبد الله بن مطيع العدوي، ولما عرف أن الحسين عليه السلام قاصد للعراق قال له:
أذكرك الله يا بن رسول الله وحرمة الإسلام أن تنتهك. أنشدك الله في حرمة العرب، فو الله لئن طلبت ما في أيدي بني أمية ليقتلوك، ولئن قتلوك لا يهابوا أحدا بعدك، فأبى الحسين عليه السلام إلا أن يمضي" .
إن تأمّل الإشارات التي يبعثها النص، ومحاولة تفكيك شيفراته يفضي إلى استكناه وعي دقيق للمرحلة وخطورتها الشديدة في كلام عبد الله بن مطيع العدوي، تمظهر عن طريق رجاء هذا الرجل ومناشدته للإمام بعدم الذهاب إلى العراق، فهو يستشرف المستقبل ويتوقّع ما سيحصل للحسين؛ لذلك يحاول أن يبيّن أن حرمة الإسلام ستنتهك، وحرمة العرب ستنتهك إذا ما وقع المحذور، وهو بكلامه هذا يبطن وعيا معرفيا بمنزلة الإمام وحرمته، فحرمة الإسلام وحرمة العرب متعلّقة بحرمته، وأي انتهاك لحرمته يشكّل انتهاكا لحرمة الإسلام والعرب.
ثم يؤكّد بوساطة القسم بلفظ الجلالة أن بني أمية سيقتلونه إن نازَعَهم ملكهم، وطلب ما في أيديهم، وقد بيّنت الجملة الشرطية المكوّنة من أداة الشرط الجازمة (إن) وجملة الشرط: (طلبت ما في أيدي بني أمية)، وجملة جواب الشرط المؤكدة: (ليقتلوك) عزم بني أمية على قتلهم الحسين عليه السلام مهما كانت النتائج والعواقب إذا طلب ما في أيديهم من الملك ونازَعَهم عليه، ثم يستشرف المستقبل بعين المراقب الدقيق لما سيحصل، مبيّنا أن الأمويين سوف لا يهابون أحدا من الناس، مهما كانت حرمته بعد إقدامهم على انتهاك حرمة الإمام الحسين عليه السلام، وهذا ما أشارت إليه الجملة الشرطية الثانية: (ولئن قتلوك لا يهابوا أحدا بعدك) المكوّنة من أداة الشرط الجازمة (إن)، وجملة الشرط: (قتلوك) وجواب الشرط المبدوء بالنفي: (لا يهابوا أحدا بعدك)، فهو ينفي خوف بني أمية من أحد مهما كانت منزلته بعد جرأتهم وجريمتهم المروّعة بقتل الحسين عليه السلام.
إن كلام هذا الرجل يشير فيما يبدو إلى أنه يملك وعيا ومعرفة وصورة واضحة بطبيعة بني أمية وحقدهم، وجرأتهم على سفك الدماء، وقتل من ينازعهم سلطانهم، وإلى معرفة المجتمع الإسلامي والعربي بطبيعة هذه العائلة الدموية والساديّة التي لا تنفك تفتك بكل معارض لها وتقتله أبشع قتلة، فقد كان هذا الأمر متسالما بين الناس، إلا أن ما يثير انتباه المطّلع على تلك الظروف والحيثيات الشائكة والصعبة، والمنتبِه إلى حبّ الناس الكبير للإمام، والظاهر في نصوص ومواقف كثيرة، ومنها الموقف المذكور في النص المتقدّم من أنه كان (لا يمر بماء من مياه العرب إلا اتّبعوه)، يفاجأ بموقف الكثير من الناس تجاهه وتجاه نهضته وسعيه إلى التغيير والإصلاح، ويفاجأ بتخاذل الكثير عن الخروج معه ونصرته، فقد كان الخوف، وضعف الإرادة، وعدم وعيهم بحقيقة الإمام ومنزلته العظيمة، وخشيتهم من القتال معه ضد الأمويين من الأسباب التي أسهمت في خذلانهم له وعدم نصرته، وهذا ما عبّر عنه الشاعر الفرزدق حينما قال له بعد أن سأله عن خبر الناس: "قلوبهم معك والسيوف مع بني أمية"، وما أظهره قول بشر بن غالب حينما التقى به الإمام في (ذات عرق) وسأله سؤالا مقاربا فأجابه قائلا: "السيوف مع بني أمية والقلوب معك" ؛ لذلك كان عبد الله بن مطيع العدوي حريصا فيما يبعثه كلامه من إشارات على ألا يُقتل الحسين عليه السلام، وكان جادّا في مناشدته؛ لعلمه بدموية الأمويين وحقدهم وبُعدهم عن الله، وسعيهم المحموم لقتل الإمام، وبقتلهم إياه فإنهم سيكونون أجرأ على الناس، وسينتهكون حرمة الإسلام والعرب؛ لأن الحسين عليه السلام يمثّل الإسلام الحقيقي الناصع، لا إسلام الأمويين المحرّف بحسب أهوائهم وميولهم المنحرفة، ولأنه عليه السلام يمثّل ذروة سنام العرب وخير بيوتها فهو ينتسب إلى جدّه النبي صلى الله عليه وآله وإلى بني هاشم، إلا أنه مع هذا الرجاء وهذه المناشدة لم نجد استجابة من الإمام؛ لأنه كان عارفا بخسّة بني أمية وعدوانيّتهم وحقدهم القديم والمتجذّر في نفوسهم على بني هاشم بشكل عام، وعليه بشكل خاص، فهم متأهّبون لقتله، وساعون إلى تحقيق هذا الهدف بكلّ طريقة متاحة، وقد جنّدوا عشرات الآلاف من الناس، وصرفوا الأموال الطائلة، وحاولوا كسب الرأي العام بالترغيب تارة وبالترهيب تارات، وتوسّلوا بالكذب والخداع وتحريف الحقائق بطرق شتّى، ومنها الإعلام الكاذب والمحرِّف للحقائق الذي صوّر آل البيت بصورة الخوارج الخارجين عن الدين وعن سلطة الدولة الإسلامية.
كلّ ذلك وغيره من أجل قتل الحسين عليه السلام وإسكات صوت الحقّ المطالب بالإصلاح والتغيير نحو الأفضل، وبالتخلص من الأمويين ومن على شاكلتهم، ومن سياساتهم التي انتهكت حرمة الإسلام، وسَعَت إلى إذلال المجتمع الإسلامي وإخضاعه تحت نِير سلطتهم الفاسدة والبعيدة عن الدين والعقيدة الحقّة التي جاء بها جدّ الحسين عليه السلام النبي الأعظم محمد صلى الله عليه وآله، لذلك كان الإمام الحسين عليه السلام واعيا لدوره، ومشخّصا لظرفه تشخيص الإمام المعصوم الدقيق جدا والمطابق للواقع، وعارفا بأن بني أمية سيقتلونه في الأحوال كلّها؛ لأنهم لم يحصلوا منه على بيعة ليزيد بن معاوية أبدا، وبعد اللتيا والتي تحقّق ما استشرفه وتوقّعه عبد الله بن مطيع العدوي، وما كان متأكّدا من وقوعه الإمام الحسين عليه السلام، وهو قتله من لدن الأمويين، فقد قتلوه؛ لأنه قال أعظم (لا) في تاريخ الإنسانية، فأصبح رمزا للشهداء والأحرار والمصلحين والثائرين بوجه الظلم والاستهتار والاستبداد في كل زمان ومكان من يوم شهادته في العاشر من المحرم في العام الحادي والستين للهجرة إلى يوم الناس هذا.
اترك تعليق