فن الرسم والنفس البشرية..

هنالك ارتباط وثيق وقديم بين الإنسان والفن ، ودلائل هذا الارتباط ماثلة في الآثار المكتشفة لرسوم الإنسان الاول في الكهوف بغض النظر عن غاياتها، ولا غبار على ان هذا الارتباط قد تأكد في حياة الحضارات القديمة واستمر حتى يومنا هذا، وخلال هذه الاستمرارية من العطاء الفني كان لابد أن يخدم الفن امور حياتية هامة في حياة الإنسان، ولعل حصيلة هذه الامور هي إن الفن على اختلاف انواعه يحفز الإنسان على الإقبال على الحياة ويساعد في التغلب على أعبائها، لو تتبعنا مسيرة الفنون لوجدنا انها كانت وما زالت تمثل المُعبر الحقيقي عن أفكار الافراد أو الجماعات، فهي بمثابة المرآة العاكسة لنشاطات الفرد والجماعة، وهي اللغة البصرية لبني آدم بمختلف اصقاع الارض، لذا فهي تمثل شاهداً على رحابة الجو الثقافي والفني للشعوب وعلى تجذر أسباب المعرفة الفنية التشكيلية بمعطيات الرؤية وليس بالمهارة فحسب .

 وفي تلك العصور السحيقة الضاربة في القدم لم يكن حب الجمال هو الدافع الرئيسي لمختلف أنواع الفنون، ورغم تعدد الاهداف الفنية واختلاف غاياتها، غير أننا سنجد أن الدافع النفسي يحتل مكان البؤرة بينما تبقى الدوافع الاخرى في موضع الحاشية ، فنجد مثلاً أن الخوف قد شكل دافعاً لقيام بعض الفنون التشكيلية، وكان سبباً في إقامة الطقوس الدينية والسحرية وكان سبباً في إثارة خيال الانسان البدائي وأشهرها الرسوم الملونة والمتعددة الالوان التي رسمها على الصخر في الكهوف، فالفن نشاط انساني فردي وجماعي وهو ثمرة الحضارة، وهو لغة تجمع بني البشر تحت ظلالها وعلى اختلاف أجناسهم وقومياتهم ودياناتهم، وتتجلى أهميته في كونه يشكل مجمل ثقافة الانسان بوصفه كائناً اجتماعياً يعمل على تغيير الطبيعة وتحويلها لحاجاته المتباينة والانسجام معها وعلى مر العصور، فالفن كان وما زال وسيلة للتعبير عن شتى المشاعر الانسانية كونه يعد أساساً في قيام الحضارة.. فهو يمثل مجالاً إبداعياً له شأن كبير في حمل الأفكار والتطلعات الإنسانية مما يجعله متمتعاً بقوة داخلية موجهة الى الخارج .

من هنا نجد إن معظم الناس يستطيعون المشاركة في فن الرسم ، والذي يتضمن عنصري الشكل واللون، والأوسع تعبيراً من وسائل فنية أخرى عن المكنونات النفسية والصراعات الخفية في حياة الإنسان والتي لا يعيها الإنسان عن نفسه و لا يستطيع التعبير عنها باللغة الكلامية ، حتى وان كان داعياً بمشاكله النفسية ، وهو لذلك يتفادى الإحراج بإخضاع الكلمة إلى تحريف أو تمويه مما يجعلها وسيلة تعبيرية اقل حرية واصالة وصراحة، وفن الرسم في هذا المجال لا يخضع لمثل هذه القيود ، وان كانت موجودة فيكون في فعله كشف لحياته النفسية الخفية .      

ولفن الرسم ميزة لا تتوفر في الكلمة وهي إن بعض الصور والخيالات لا يمكن نقلها إلا عن طريق الرمز، كما يتفادى الرسم المحاذير كالخجل والشعور بالإثم وغيرها من المشاعر الانسانية ، فهو محصن وراء درع من الرموز والدلالات ولا يُعرض الرسام – بالخصوص الفنان الحديث والفنان المسلم - نفسه إلى أي من هذه المحاذير، ذلك إن الرسم عنده هو وسيلة تعبيرية رمزية،  فإذا كان للشكل حضوره الملموس في العمل الفني فان تذوق مادته الفنية حين التعرض لها لا يكفي وحده، ففي مثل هذه الحالة يصبح للمتعة الحسية قيمة في ذاتها، ونحن نعرف إن الإنسان يبدي استخفافه بعمل فني معين إذا خلا هذا العمل من الدلالة التعبيرية والبعد النفسي كما انه يصاب بخيبة أمل إذا ما كان شكل العمل هزيلاً جامداً، وإذا كان الشكل ليس شرطاً وحيداً لظهور المتعة الجمالية ، فالحقيقة هي إن الفنان يعطي محتوى للشكل ورموزه ليس من خلال ما عرضه وحسب وإنما من خلال الطريقة التي قدم بها هذا العمل الفني والتي لا تخلو من سمات متفردة بالفنان .

إن العلاقة بين النفس والفن لا تحتاج إلى إثبات لأنه ليس هناك من ينكرها، وكل ما تدعو الحاجة إليه هو الوقوف على هذه العلاقة وشرح عناصرها وهي علاقة تبادل من التأثير والتأثر، فالنفس تصنع الفن والفن يصنع النفس في نفس الوقت، فالنفس تجمع أطراف الحياة لكي تصنع منها الفن، والفن يرتاد حقائق الحياة لكي يضيء جوانب النفس والنفس التي تتلقى الحياة لتصنع الفن هي النفس التي تتلقى الفن لتصنع الحياة .

إنها دائرة لا يفترق طرفاها إلا لكي يلتقيا وهما حين يلتقيان يضعان حول الحياة إطاراً فيصنعان لها بذلك معنى، والإنسان لا يعرف نفسه إلا حين يعرف للحياة معنى ، وحقيقة هذه العلاقة ليست شيئاً مستكشفاً للإنسان الحديث لأنها كانت قائمة منذ أن عرف الإنسان وسيلة التعبير عن نفسه،  فقد أحس الإنسان منذ البداية بهذه العلاقة ولمس أثارها وان كان هذا الإحساس مبهماً حتى إذا بلغ مرحلة كافية من النضج راح يتأمل هذه العلاقة ويستكشف أسرارها.           

لهذا فأن المفهوم العام للعمل الفني لا يعني أن ننظر الى اللوحة على أنها مجرد صورة منعكسة عن العالم الخارجي بلا تغيير فحسب، أو ننظر اليها على أنها شاشة تعكس عالماً داخلياً، بل هي نموذج تشكيلي يوضح تلك العلاقات القائمة بين هذين العالمين المتمثلين بالإنسان وعالمه الخارجي.

ومن خلال التطور المستمر والمتغير في المنجزات الابداعية المتعلقة بالفن، والتي تمثل التعبير الثقافي للعصر وإذ أن الفن وسيلة من وسائل التعبير عن تراكم التجربة الانسانية كونه ظاهرة تاريخية أنسانية خاضعة لقوانين التطور والجدل والارتقاء ، فأن هذا يشكل نوعاً من التفاعل النفسي بين الفنان و بيئته الاجتماعية، ومن الطبيعي أن يختلف ذلك التفاعل بين فنان وأخر، كما أن شدة تأثر الفنان بأحداث البيئة من حوله تتباين بين مبدع وآخر، فمهمة الفنان الكبرى تنحصر في محاولته الابداعية التي يضطلع بها دون غيره، حيث يحيل المحسوس الى لغة أصيلة تنهض بمهمة التعبير بمكنونات نفسه كفنان وفرد من مجتمع ما .

كاتب : سامر قحطان القيسي