شكلت التراكمات الحضارية للإنسان مرتكزات فكرية او نقاط انطلاق لمرحل فكرية لاحقة نهضت بها حقب جديدة، ولا غبار على ان الحضارات الاولى في بلاد الرافدين ووادي النيل قد اسهمتا بشكل او بآخر في الانطلاقة المعرفية والجمالية لدى حضارة الاغريق من بعدهم والذين سعوا الى وضع توصيفات عن الحقائق الكلية الثابتة للكون خارج نظام الوجود المتغير، فالسعي الى بلوغ منظومة حياتية وسياسية متكاملة، دفع الفلاسفة بمختلف اعراقهم ورؤاهم ومراحل تطورهم على تبني رؤية جمالية تعتمد على كل ما هو كلي ومطلق وثابت، مع الاخذ بعين الاعتبار تفعيل الاشتغال على ثنائية الحسي والمطلق في الفن.. والذي امتد الى فن الرسم الحديث الذي اقتضى التطرق الى المرجعية التاريخية والفلسفية والجمالية، بعيداً عن الرؤية التي تعتمد على قدرات الحواس وما تحتوي على نقاط الضعف والتغير المستمر.
ولو تطرقنا الى طرح روح التسامي والتوجه نحو المطلق والمقدس لوجدنا انها لم تكن من طروحات الفكر الحديث، بل كانت منطلقة من روحية الحضارات الاولى ومنها حضارة وادي الرافدين والتي تفاعلت فيها ثنائية الحسي والمطلق مع البعد الديني، فالواقع المعطى كحقيقة حسية لم يعطِ الاجوبة الكافية لمجمل التساؤلات التي اثارتها القوى المجهولة طبيعية كانت ام ظواهر والفن ذو المرجعية الدينية اكتسب سمة متسامية شكلاً ومضموناً،
فلو اطلعنا على حضارة العراق القديمة لوجدنا انها حملت من العمق والروحية ما أهلها لتكون من المصادر المهمة في الانجاز اللاحق للحضارة الانسانية، فأفكار وحدة الوجود والحياة المشتركة بين الانسان والحيوان والنبات وارتباطها بالحياة الازلية للآلهة، اسهمت في ابداع فني فريد من نوعه ، امتزجت فيه اشكاله بصفة تنسجم مع نزوعه نحو التجريد المتسامي الذي امتدت اثاره الى الفن العراقي الحديث بأشكاله التجريدية والرمزية في تقصيها للجوهر الشكلي وهي ممثلة بالأشكال الهندسية بوصفها رمزاً للمطلق او للتعبير عنه تيمنا بما انتجتها الحضارات القديمة، والتي شكلت اساساً مهماً في كيفية التعامل بين ما هو حسي ومطلق وذو توجه ديني.
وفي محاولة للتعرف على ما سبق فلنتأمل نماذج من اعمال الفنان العراقي الراحل غازي السعودي والذي يعد احد مبدعي الجيل الستيني من القرن العشرين في الفن التشكيلي العراقي المعاصر، فاللوحات اعلاه بفضائها المغلق واسلوبها الفريد هي احد الاعمال الفنية المميزة في استلهام جماليات الحضارات السابقة ، اذ نجد فيها ان الفنان استطاع أن يخفف من رتابة المشهد بالمعالجة الجمالية لمكوناته المزدحمة ، حيث تخلل فضاء اللوحة كتل ومساحات لونية لا يكاد المشاهد أن يفرق بين وحداتها إلا حين يمعن النظر فيها ، فقد اعتلى المشهد في جزئه الأعلى شكل لقبتين وعلى على جانبيهما مئذنتين واحدهما أحيطت بهالة من النور وسمت بها الوان اللوحة، والأخرى ترتفع الشمس في وسطها التي مثلها الفنان بدائرة برتقالية اللون في اعلى وسط اللوحة، وقد وظف الفنان الرموز الإسلامية الممثلة بالقباب والمآذن وبرج الساعة والاهلة والأبواب والنوافذ الممثلة بالأشكال المقوسة، وهي من أهم مقومات العمارة الإسلامية ، وقام بتوزيعها بأسلوب جمالي من خلال التنظيم الإيقاعي للأشكال، معتمداً على التناظر فيما بينها كما في أشكال القبتين والمئذنتين والشمس والنور الطاغي على إحدى اللوحات، فضلاً عن المآذن والدائرة الحمراء ونظيرتها الشمس وبعض الاشكال التجريدية البشرية في أسفل المشهد والتي تمثل المصلين التي حققت توازناً ووحدةً بين كتل المشهد اللونية من خلال تنوعها وتوازنها .
لجأ السعودي إلى أسلوب التكرار في غلب أشكال لوحاته فقد ظهرت الأشكال بشكل ثنائيات كما في شكل القبتين والمئذنتين والأبواب المكررة، وهي تحمل بمجملها دلالة دينية تأتي من خلال قدسية الاماكن والاضرحة الدينية المقدسة والتي لا يمكن أن تتكرر لحظاتها بوصفها لحظات ارتباط بالخالق المصور الاول جل وعلا، وهنا نلاحظ ان اهتمام الفنان قد انحصر بهذه الرموز سعيا منه لإحياء التراث الإسلامي وربطه بالبعد المكاني المعاصر وبالتالي العود بالمتلقي الى المطلق من خلال هذه الاشكال والية استخدام الالوان، حيث استخدم الفنان اللون الأصفر الذهبي في إبراز معالم الرموز الاسلامية بوصفه لوناً مبتكراً مستخدماً في الفن الإسلامي مثل شكل القبتين الذي والمآذن التي تشير الى مرقد الإمامين موسى بن جعفر ومحمد الجواد عليهما السلام في مدينة الكاظمية المقدسة وما لهما من مكانة وقدسية دينية واجتماعية وإنسانية في حياة المسلمين ، حيث تحمل هذه الرموز دلالات روحية مبعثها الارتباط بالله تعالى من خلال الطقوس الدينية والممارسات العبادية الاخرى المشحونة بحقائق ومعانٍ وقيم إنسانية وروحية مرتبطة بالدين والعقيدة الإسلامية .
ومن هذ نلمس ان الرسام قد حقق رمزية متوازنة بين اشكاله حيث استثمر الالوان بعلاقاتها المتنوعة بالخط والشكل والعمارة من خلال توظيفه للرموز الإسلامية في تعبيره عن مدلولاتها الفكرية والانفعالية والعقائدية بإفصاح جمالي وحسي مرتبط بالخالق، مما منح المنجز قيمة تشكيلية وأخرى جمالية رمزية استثنائية ، فقد افلح بربط مضمون العمل الروحي بالبعد الجمالي للرموز الإسلامية التي لها مكانتها وقدسيتها في نفس الإنسان المسلم والتي تعود به الى الله جل وعلا .
اترك تعليق