اشعاع الحضارات..

جميعنا يعلم ان الفن الإسلامي يمثل اليوم جميع الجهود التي بذلها العالم الإسلامي خلال قرون عديدة في التعبير عن الجمال وصناعة الأشياء الفنية المبهرة، ويمكن لأي متتبع أو دارس للفنون الإسلامية أن يمدّ جسور التواصل بين أولى إبداعات العمارة والفن الإسلامي في اولى الجوامع الاسلامية كجامع الكوفة مثلاً، أو قبة الصخرة وبين عمارة المراقد والمساجد اليوم، ومن ثم إلى ما سينجزه الفن الإسلامي في المستقبل، وبخطوط واضحة تؤكد وحدة الفن الإسلامي وشخصيته الإبداعية والجمالية المميزة برغم تنوعه الكبير الذي يبلغ فيه حداً يصعب فيه أن نجد تحفتين فنيتين اسلاميتين متماثلتين تماماً .

فالفن الإسلامي هو الفن الذي يرسم صورة الوجود من خلال التعبير الجميل عن الكون والحياة وبني البشر من خلال تصوره لها، وهو بلا شك فن يحقق اللقاء الكامل بين الجمال والحق، فالجمال حقيقة الكون، والحق هو ذروة الجمال ، ومن هنا يلتقيان في القمة التي تلتقي عندها كلّ حقائق الوجود فالخالق هو المبدع والمصور الاول الذي ليس كمثله شيء.

والفن الاسلامي فن موكل بالجمال يتتبعه في كل شيء وفي كل معنى في هذا الوجود، اذ ان الغاية التي يهدف الفن الاسلامي الى تحقيقها والوصول اليها، تكمن في ايصال الجمال الى حس المشاهد بغض النظر عن توجهاته العقائدية، فهي ارتقاء بالنفس البشرية نحو الاسمى والاعلى والاحسن .. اي نحو الاجمل ، فهي الاتجاه نحو السمو في المشاعر، وكما أن للفن هدفا يسعى اليه ، فان له ايضا باعثا يدفع اليه ، هذا الباعث يغذيه جذرين اولهما يمتد في اعماق النفس ، اذ من فطرة النفس البشير السعي الى الجمال .. اما الجذر الاخر فيغذيه المنهج الاسلامي الهادف الى الجمال الحق.. ويلتقي هنا ما تصبو اليه النفس مع ما طلبه المنهج.. فاذا بالإنسان مدفوع الى تحقيق الجمال بفنه بباعث من رغبه النفس وباعث من امر الشرع بإتقان العمل واحسانه.

  أما الفن الاسلامي وبلحاظ انفتاح الإسلام على البشرية وثقافاتها، فانه استوعب جميع فنون العالم، ولذلك توزعت الفنون الاسلامية على شكل عناوين وطرز فنية مختلفة، وهي موزعة على المدنيات والحضارات والأقوام والشعوب وتشكلت منها انواع للفنون الاسلامية، فالإسلام أعطى الحرية لكل إقليم وقوم أن يغلبوا عليها بعض رغباتهم التي تتناسب مع مناخهم الطبيعي وإرثهم الحضاري، فأًصبح مجموع هذه الطرز المعمارية طرازا موحداً ينطق بروح العقيدة الاسلامية.

ولا غبار على ان الفن المعماري كان وما زال واحدا من وسائل التعريف بالإسلام في اقاصي الشرق والغرب، فالإسلام غزا بفنونه الغرب قبل أن يغزوها بالعقيدة، وذلك لأنها تمتلك مقومات فن الإبداع والجمال من خلال الذوق الذي صرفه المعماريون والفنيون الإٍسلاميون طوال تاريخه، ولا ننسى واقعية ان أي بناء يأخذ قيمته من هندسته، والمنشأة الفاخرة في عمارتها هي التي يراعي فيها الفنان او المصمم المعماري الفكرة والغرض وخصوصيات الأرض وخصوصيات الطقس والجمالية والكلفة والآلية وخصوصيات المواد الداخلة في البناء وغيرها، ولاشك ان انفتاح الإسلام ساعد المهندسين على التجديد في العمارة الاسلامية فاخذ المعماريون بالمضي قدما في استخدام مخيلاتهم للإبداع في الهندسة والطرز الفنية بما يناسب استخداماتها، وساعدها على ذلك عطاء الحكام الذين أخذوا يتباهون فيما بينهم بالمنشآت الاسلامية، فكان لهذا التنافس دور كبير في هذا التطور السريع والبروز البديع.

   ومن جانب اخر يمكن ملاحظة تأثير الطبيعة والتربة والمناخ في الهندسة المعمارية من خلال اختلاف المآذن والمحاريب والأبواب والمشربيات والفضاءات، كما يمكن ملاحظة تباين استخدامات النقوش والزخارف من بناء الى آخر، فالنقوش النباتية استخدمت في المساجد واستخدمت اللوحات الفنية في جدران وسقوف القصور، ولهذا يمكن القول ان الفنون الاسلامية ذات طابع متميز يتصف في وحدة الروح الاسلامية الكامنة وراء التكوينات المعمارية والتشكيلات الزخرفية التي أصبحت تقليدا معماريا مميزاً بعناصره ، وها نحن اليوم نمتع اعيننا بأبهى الصور والتصاميم الفنية المعمارية التي آلت اليها خبرات الفنان والمعماري المسلم والتي تشكل رابط متين بين الماضي والحاضر وهي تنطق بروح الاسلام وعقيدته الغراء.

ومن ذلك نرى ان الفنان المسلم قد أخضع مادته لأرادته ليعبر عن إحساسه الديني بالحياة وعن وجدان أخلاقي مستمدا أصوله من العقيدة  والاعتقاد،  محيلا الحجر الى تشكلات عمرانية وتنظيم هندسي ونسق لوني يجبر الناظر اليها والى جماليتها على اكتشاف جوهرها والاستدلال على مضمونها ، باعتبارها بيوت الله في الأرض.. وذلك عبر رفضها لكل تهويمات الطقوس السحرية الغامضة وصونها للخيال عن الوهم محققة إشعاع نور الله على عباده.

كاتب : سامر قحطان القيسي