اشتياق..

استنفر الانسان اقصى طاقاته من عقل ومخيلة وإلهام لاحتواء موضوعات الفكر وظواهر الاشياء بكل شموليتها وحيثياتها ، وهذا ما تجلى في مجمل فنون العصور القديمة والوسطى ومنها الفنون الاسلامية، التي لجأت إلى تجريد الأشكال وطبعها بطابع رمزي يحمل دلالات فكرية عدة ،لتكون بالتالي محاولة تأويلها وفهمها بالنسبة للمتلقي تستدعي وعياً لا يقف في حدود المرئيات بل يمتد منها الى ما هو روحي .

ويتميز الخطاب الإسلامي بعمقه وثراءه بوصفه ممثلاً لرسالة سماوية تستوعب مجمل الحياة المادية  والروحية لمعتنقيها، ذلك ما يلقي على الفنان المسلم والمفكر ثقافة موصولة بالخالق جل وعلا تمثلت منطلقاتها من فكر القرآن الكريم ، الذي يكشف عن أسرار الكون وما يحيط به ويثبت أسس الحياة البشرية ، مما كان له الأثر الكبير في تطور الفكر العربي الإسلامي الذي انعكس بدوره على الفكر الجمالي الإسلامي لا تشوبه أي شائبة، ومن ذلك استطاع الفنان المسلم أن يجعل من أشكاله أكثر تحرراً باستخدام العلاقات الفنية المختلفة وموائمتها، ليخلق جمالاً فنياً روحياً بعيداً عن أي تشبيه او محاكاة مادية او واقعية ، مستنداً إلى أحاديث تحريم تشبيه ذوات الارواح والتشخيص الدقيق ،متبعاً اسلوب الرمزية والتجريد لكل ما هو حيّ حتى لا يكاد يبقى من اشكاله في بعض اللوحات سوى الخطوط الهندسية البسيطة مؤكداً مبدأ اللامحاكاة الحرفية للاشكال.

اللوحة اعلاه تحمل توقيع الفنان الدكتور عبد الحميد قديريان .. رسمت بتقنية الزيت على القماش و تحمل عنوان ( اشتياق )، وهي احدى اللوحات المكملة لسلسلة سماء كربلاء الفنية التي انتجها طيلة فترة مسيرته الفنية، وقد عمد قديريان في هذه اللوحة أعادة صياغة البُنية المكانية لموضوع اللوحة المتمثل بزائري الامام الحسين عليه السلام وهم يرومون الوصول مشياً على الاقدام في ذكرى اربعينيته احياءً لهذه الشعيرة الخالدة، بسلوكه سلّماً أدائياً تعبيرياً لطرح هذه الصيغة الجمالية مبتعداً عن التمثيل الواقعي لجغرافية المكان، مميزا اللوحة بقدسية السماء من خلال عمق اللوحة وفضائها المتمثل بالسماء  المميزة بدلالات رمزية شكلت دلالة واضحة للمتلقي على حضور ملائكة السماء التي صورها بهيئات نورانية شفافة ككتل ضياء تجول في السماء فوق رؤوس الزائرين والذي جاء بناء على ما تفرضه الروايات المتواترة عن المرجعيات العقائدية والتاريخية لهذا الحدث العظيم على مر التاريخ.

سلك قديريان سلوكا احترافياً في تنفيذ مفاصل اللوحة  مما دفع الى تحرير الشكل العام من الأسس المقيدة للخيال وتقريبه من الأسس الروحية العقائدية ذات الارتباط الوثيق  بعمق ذاكرة الموالين لال بيت النبوة الاطهار ، اذ عمد الفنان في رسم شخوص اللوحة ومحيطها بالترميز الممزوج بواقعية الاشكال من خلال توضيح الحدود الفاصلة بين المساحات اللونية، فقد حصر همّه في تصوير الفضاءات المشحونة بالرايات الخفاقة نورانية الملائكة الحافين بالزائرين المحركة للأحاسيس البصرية التي تعكسها النظرة الاولى من عين المشاهد وهذه الانفعالات ترجع إلى الضوء الذي تعكسه الأشياء على عين المتلقي، وهذا واضح في اللوحة من خلال شفافية ألوان السماء المشعة بالوان الاصفر الذهبي والابيض  والأضواء المنسابة منها وإليها من طريق الحسين عليه السلام ، وهنا استطاع الفنان بخبرته واحترافه في التنفيذ من تسجيل ما تُبصره العين فعلاً من ضوء وعما يعرفه بذهنه من صور الأشياء وواقعيتها .

يميز المتأمل لهذه اللوحة انها زاخرة  بمجموعة كبيرة من العلاقات اللونية التي تأسر المتلقي حين تعرضه لها، ومنها اعتماده الكبير على تفاعُل الضوء والهواء، فقد استخدم الفنان الألوان الحارة مع الباردة كالأصفر والأحمر والابيض والأزرق والأخضر، ونلاحظ أن الفنان هنا مَزَج وبشكل متدرج بين الألوان المُستعملة للسماء المميزة باللون الذهبي وبين ارضية اللوحة ( الطريق ) وكأنها بقعة واحدة من الجنان.. ولم يكُن للخطوط الصريحة دوراً بارزً في تكوين أشكال اللوحة وملامحها فقد سلّط الفنان جُلّ اهتمامه على مساحات اللون وانسحاباته التي تقوم بدورها بفصل الكُتل والسطوح عن بعضها البعض، واستخدم الألوان الأكثر شفافية بامتدادات وضربات فرشاته السلسة ليخرج منها فضاءات لونية متناسقة مع بعضها البعض للتعبير عن الضوء المعبّر عن المقدسات للوصول إلى تأثيرات قوية عامرة بالألوان ذات ملامس تنبض بالحركة والحياة. 

 من هذا يلمس المشاهد والقارئ أن هذه اللوحة لم تكن بناءً فنياً جمالياً فحسب، بل تعدته الى ان تكون مخططاً فكرياً عقائدياً هيمنت فيه الاشكال الدلالية على واقعية المشهد وفي نفس الوقت تسامت فيه المدركات الحسية لتصل إلى مفهوم الامتداد والمطلق المقدس.. مقتربة من الضرورة الروحية التي انجزت لأجلها في النزوع نحو مواساة أهل البيت ونصرة سيد الشهداء من خلال احياء ذكرى استشهاده وما يرافقها من شعائر خالدة تتناقلها الاجيال.

كاتب : سامر قحطان القيسي