إن الحاجة إلى الزخرفة حاجة نفسية ، ففي الإنسان شعور معين يسمى الخوف من الفراغ ، وهو عجزه عن قبول المكان الخالي ، وهذا هو ما كان يفعله رجل العصر الحجري الحديث ، عندما قام بتجميل مصنوعاته وتعبئة المساحة الفارغة في جدران سكنه في وقت لاحق، اذ إن عمل التزيين هنا هو ان يكمل الخوف من الفراغ ، فالحساسية لا تستطيع أن تتحمل فراغ الزمان والمكان، والحاجة إلى ملء الفراغ حاجة طبيعية جداً.
وفي صدد ملئ الفراغ تلعب الزخارف الهندسية دونا عن انواع الزخارف الاسلامية الاخرى دوراً هاماً وخاصة في مجال العمارة الإسلامية.. فقد ادرك الفنان العربي المسلم بان لها أهمية خاصة وشخصية فريدة ادت الى تطور هذه الزخارف إلى حد مذهل، وكان لشكوك الفنان المسلم حول مسالة كراهية التصوير للكائنات الحية في الإسلام سبب شجعه إلى الانصراف بكل جهده نحو الأشكال الهندسية وتطويرها. .
تعد الأنماط الهندسية قاعدة لتنظيم باقي العناصر الزخرفية والربط بين الأجزاء والكل في خارج المبنى وداخله وفي تاثيثاته ومن أمثلة الأشكال التي استعملها الفنان المسلم الدوائر المتماسة والمتجاورة والجدائل والخطوط المنكسرة والمتشابكة بالإضافة إلى أشكال المثلث ، والمربع ، والمضلعات 0 وعلى الرغم مما يبدو على الزخارف الهندسية الإسلامية من تعقيد فإنها في حقيقتها بسيطة تعتمد على أصول وقواعد مبسطة، وقد عني الأستاذ الفرنسي ( برجوان bourgoin ) بدراسة الزخارف الهندسية المعقدة وحللها إلى ابسط أشكالها ، واستنتج من دراسته هذه ان براعة المسلمين في الزخارف الهندسية لم يكن أساسها الشعور والموهبة الطبيعية فحسب ، بل إلمامهم بعلم الهندسة من الناحيتين النظرية والتطبيقية، فالمسلم ينفرد بخياله الهندسي الذي ينصب على الكتلة فيقسمها ويجزئها ويحولها إلى خطوط ومنحنيات ، تتكرر وتتعاقب وتتبادل وتمتد إلى مالا نهاية ، حتى لا يكاد للناظر أن يحدد بدايتها أو نهايتها0
فالفنون الزخرفية كانت متزامنة مع وجود الإنسان فهو يزخرف أشياءه وكل أبنيته والفنان البدائي كما ذُكر انفاً كان يزخرف لدرء عن نفسه شعور الخوف من الفراغ ، اذ تعود الإنسان منذ القديم على أن يستخدم نظاما وأشكالا وعلاقات رياضية ولذلك عُد الفن الزخرفي نوعا من الرياضيات التشكيلية لأنه ظهر قبل أن يعرف الإنسان العدد وكان تجسيداً للحساب في الفن، والأصل الأساس للزخارف أنها تستند إلى خيالات الطبيعة فمن الطبيعي ان يستمد المزخرف العناصر الأولى لفنه من مساحة نبات ما أو ورقة منه، ثم ينظم الخيال الى الاساس في التناسب ليتكون بعد هذا الشكل الزخرفي، وهذا يمتد الى فن العمارة إذ أن عملها الفني يستند بدوره إلى مقاييس وأنظمة تبنى بها كلية التكوين ليبنى الانسان النظام في عالمه من خلال العمارة محققاً بذلك التوازن مع البيئة، فالعمارة هي نتاج الفكر والزخارف هي شكل مكتمل للفكر الرياضي .
والزخرفة هي تغطية للسطوح العمارية بتكويناتها المنظمة على الرغم من تعقيدها وتنوعها إذ إنها تنطوي على أشكال ومنحنيات وصور هندسية وبنى هندسية متكاملة، ويقع على عاتق الهندسة حل مشكلة النظام في العمل الفني فهي جزء جوهري في الإنتاج الحر، والعمارة غالبا تتجه نحو الكمال الهندسي، والكمال هنا هو موضوع رياضي عددي، والشكل المعماري والزخرفي من الأشكال المعقدة والمتنوعة وتحتاج عادة إلى عدد كبير من أنظمة الرموز المختلفة لوصفها 0
من هنا تنشأ العلاقة البنائية للعمارة والزخرفة مع علم الرياضيات والحساب بكونها نظاماً ونسقاً منطقيين من الكينونات والعلاقات، إذ إن للرياضيات صفة معرفية شمولية تتفرع منها سائر الفنون والعلوم، ولأنها تضع أمام الفكر صوراً كلية ونسباً وقوانين وهي تتكرر في الجزيئات، وان جوهر العمارة هو تركيب من العقل الرياضي والخصائص الحسية و الهندسة هي جزء جوهري وأساسي من الرياضيات وان لكل من الزخرف الهندسية والعمارة بنية رياضية أساسها التنسيق المنطقي من الكينونات والعلاقات، فضلا عن ذلك فإنها تشيع ضربا من النظام بين الأشياء إذ إن العمل الفني العماري والزخرفي ينجز في ترتيب منظم للأجزاء طبقا لمبادئ تنظيمية، ومبدأ التنظيم هو أساس العمارة والزخرفة الهندسية متعلقة بمظهر العمارة فهي الجمال الكيفي لها، ففي الشكل الزخرفي والعماري تسيطر العلاقة الرياضية في بناء الجزء حتى ولو كان شكلا منفردا واحدا ، اذ تسيطر تلك العلاقة الرياضية على بنياتها التي تنظم من خلال كل الأجزاء المتعالقة فتكون الرياضيات العنصر الرابط المشترك بين العمارة والزخرفة كون الزخرفة والعمارة في الأساس هما نمطان بنيويان لهما تجليات بصرية تسحر الابصار والبصائر0
اترك تعليق