من وحي ذاكرة الطف..

اشارت كثير من الدراسات النفسية التحليلية الى أن المتعة الجمالية هي محصلة لعلاقات خاصة مع العمل الفني، وأذا ما نظرنا الى مجمل العلاقات الرابطة بين الرسوم الشعبية الدينية و بمنفذيها ومتلقيها للمسنا ان هناك علاقات مختلفة منها عقائدية وأجتماعية وسياسية وأقتصادية ، تلقي بظلالها وتجعل من الرسوم متنفساً يصرخ بداخله المبدع ليعبر عن رفضه أو قبوله لما يحيط به في العالم الخارجي،  ويذكر احد منظري هذا المجال  أن العالم الداخلي الخاص بنا عندما يكون مدمراً، عندما يكون ميتا،ً عندما يكون مفتقراً الى الحب، عندما يتحول الأشخاص الذين أحببناهم الى شظايا ونثار، وعندما نصبح نحن أنفسنا في حالة من اليأس والأفتقار التام الى المعنى، حينئذ يكون علينا أن نبدع عالمنا مجدداً ، أي نعيد تجميع شظاياه وقطعه المتناثرة ، ونجدد الحياة  فيه ونعيد أبداع حياتنا من جديد بتخليده.

فأن عدنا بانفسنا الى التشكلات الفنية القديمة ، سواء أكانت نصوصاً أدبية او عمرانية أو نحتية، أو رسموية  لوجدنا ان  أساسها ديني ينطلق مما تفرضه العقائد الدينية وفي أي تجمع حضاري، وبالتاكيد سنجد ان غايتها البحث عن ملجأ تنضوي تحته النفوس الحائرة، جاعلة من مقدساتها مبرراً لإنجازاتها، وحين يترسخ الاعتقاد الجمعي لا يقف شيء أمام النزوع بالتضحية بأي مجهود في سبيل التعبير عنه، وهذا ما حققه الفنان المسلم من خلال عالمه الفني الخاص به وجماليتة المستمدة من عقيدته التوحيدية الأسلامية ، بأعتماده المنظور الروحي وعدم أهتمامه بالمنظور الخطي فمن خلال هذا المنظور تسقط الأشعة من الأعلى فتأخذ جميع الكتل أبعادا متساوية ومكافئة لأبعادها الأصلية سواء كانت في مقدمة اللوحة أو في عمقها ، فتبدو بحركة دائرية حول المركز الذي هو الله او المقدس الذي يعود بالمتلقي الى الله ، مما حدى بالفنان على عدم ترك فراغ في سطح اللوحة ليحقق التوازن والتناسب والأنسجام ، فبكل مكان هناك وجود للخالق عبر مخلوقه ( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ، ومن خلال هذا فلا شكل منفصل عن مضمونه .

وبما ان الفنون التشكيلية وسيلة لتفريغ الشحنات النفسية والمشاعر، أو التجارب الإنسانية المختلفة في سياق أحداث تؤثر في الفنان كما تؤثر في المجتمع، وبما يمتلكه الفنان الشعبي من موهبة فأنه يمتلك القدرة على أحداث تغير في شكل الخامة الطبيعي لتتحول الى صورة مبتكرة ذات صفات جمالية محملة بالمعاني والمضامين الفكرية ، أو تكون في شكل تصميمات تستخدم للأغراض النفعية، وتستمد التجربة الجمالية للفنون الشعبية مقوماتها من خلفيات مرجعية فكرية وتاريخية، ويسعى الرسام الشعبي لأن يبدع أشكالاً تحمل مضامين هذه المرجعيات وتولد بالتالي متعة جمالية بصيغة تشكيلية، فالرسوم الشعبية حكاية كتلك التي تناولها الموروث الشعبي تتصف بالخيال وتحتمل التزويق وأختلاط الأماكن والأزمنة ألا أن الفرق بينهما هو الموضوع ، فالموضوع في الرسوم الشعبية العقائدية هو حدث واقعي يستمد واقعيته من أبطالها تروى بواقعية وتحتمل الترميز والتأويل، اذ تجمع فيها أحداث حياة كاملة في حدود سطح اللوحة، يزداد التفاعل معها وتذوقها بأزدياد معرفة موضوعها.

ولا شك أن موضوع التذوق في الفنون يحتاج الى التعلم والتدريب، حتى يمكن أن تكون هناك خبرة تؤدي الى الأحساس بالأشكال والألوان وملمس السطوح والكيان الكلي لأي عمل، الا أن الخبرة الجمعية والمفهوم العام بموضوع الرسوم الشعبية، تجعل من أي عمل مثار للتساؤل والتوقف عنده نظراً لما يحمله من محتوى، وهذا التوقف يؤدي الى تذوق العمل وفهم مفاصله أنطلاقاً من عده يحمل أسساً ذاتية وموضوعية في آن واحد، أذ أن آلية البناء وربط الأجزاء بكلية العمل هو الذي يؤدي الى التطابق بين الأشكال ومحتواها .

فكل انسان يتذوق وله متعته الخاصة، وأي سوء أو ضير أو قبول ورضا في التذوق يؤدي الى أصدار حكماً بجمالية العمل من عدمها، وبتكرار هذه المواضيع وأستمرار تداوليتها في كل موسم يحيى فيه ذكرى الموضوع يؤدي الى تداولية لهذه الرسوم ، وأثارة ما حولها من احداث ترتبط بمحتواها وطريقة بنائها والعلاقة بين الأثنين ، وبالتالي تكون المنفعة ثلاثية الجوانب تحمل في أحد أطرافها ترسيخ العقيدة الدينية 

كاتب : سامر قحطان القيسي