سلسلة آية وتفسيرها (4): ﴿هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ﴾

قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ/هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ/مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ/عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ﴾(1).

صدق الله العلي العظيم

مَن هو الهمَّاز؟

الهمَّاز كما يُعرِّفه اللغويون هو الكثير الوقوع في أعراض الناس والذي يكثر من إيقاع العيب فيهم، فهذا هو الذي يُنعت بالهمَّاز، وأصل هذه الكلمة من الهمْز الذي هو الدفع للشيء بعنف وبشدَّة أو الطعن بالعصا بالشيء، وقد يُطلق الهمز ويُراد منه الكسر، وكلُّ هذه المعاني متقاربة وإنَّما استُعيرت لمَن يطعن في أعراض الناس ويعيبهم ويُكثر من النقد والانتقاص منهم، ذلك لأنَّ التعييب والطعن على الناس في أعراضهم أشبه شيء بكسرهم، فعندما تُعيِّر أحداً بعيبه تبتغي من ذلك تصغيره في أعين الناس وتحقيره وإساقطه من أعينهم، فكأنَّك كسرته، وكذلك عندما تعييب أحداً فيصل إليه قولك فيه فإنَّه يستشعر الإنكسار في نفسه، ويستشعر الغبن في نفسه، وينتابه الهمُّ والغم لأنك قد انتقصته وأعبته لذلك ورد في الحديث: (من كسر مؤمناً فعليه جبره)(2) عبرت الرواية عن التعييب والإهانة والاستنقاص بالكسر، فهذا هو الهماز.

وقد توعَّدت آيةٌ أخرى المتَّصف بهذا السجيَّة الممقوتة قال تعالى: ﴿وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ﴾(3) يعني عذابٌ من الله (عز وجل) يقعُ على كلِّ مَن يتَّصف بهذه السجيَّة وهي الانتقاص من عباد الله والإفشاء لمعائبهم.

ثم إن هذه الآيات المباركة هي بصدد النهي عن مشاروة الواجدين للصفات المذكورة فيها، والنهي عن الإصغاء إلى مشورتهم، والعمل بنصحيتهم، بل والنهي عن معاشرتهم، فهي قد نهت عن مصاحبة الحلاف والقبول بمشورته وبنصيحته وبرأيه، وقد ذكرنا منشأ ذلك.

 

منشأ النهي عن مصاحبة الهمَّاز:

فما هو منشأ النهي عن مصاحبة الهمَّاز؟

وما هو منشأ النهي عن القبول بمشورة الهمَّاز العياب والطعان في أعراض الناس؟

يُروى عن الإمام عليٍّ (عليه السلام) أنه قال: (الهمَّاز مذموم مجروح)(4)، بمعنى أنَّ نصيحته مجروحة ومشورته مجروحة، أي متَّهمة، فالرجل الذي يُكثر من الطعن في الناس لن يمحضك النصيحة ولن يُخلصَ لك في المشورة، ذلك لأنَّه ينظر للناس بنظرةٍ سوداوية، فلا ينشأ نقده ولا تنشأ نصحيته ومشورته عن تعقُّل وإنَّما تنشأ عن بواعث نفسية، ففي الواقع كثرة التعييب للآخرين مؤشِّر على نفسيَّة مبتلاة بالكثير من الأمراض والعُقَد والرذائل النفسانية.

 

المنشأ الأول: العجب بالنفس:

لا تجد أحداً يُكثر من التعييب والطعن والنقد بغير وجهِ حق للآخرين إلا وهو مبتلى مثلاً بالعجب بنفسه، لماذا هو يعييب الآخرين ويُكثر من الطعن فيهم؟ لأنَّه يجد نفسه مبرأً من هذه العيوب، منزَّهاً من هذه النقائص، فينظر إلى نفسه أنَّها النفسُ الكاملة الراقية المتعالية عن النقائص والعيوب وفي ذات الوقت ينظر للآخرين بأنَّهم المجترحون للأخطاء المبتلَون بالنقائص والمعايب، فهو معجبٌ بنفسه، والمعجَبُ بنفسه مريض لذلك لا ينبغي أنْ تقبل نصيحته ولا مشورته، على أيِّ شيءٍ تعجب بنفسك؟ تعجبك نفسك بأي وجه؟ ولماذا؟ هل أنت تمتاز على الآخرين بعقلٍ يفتقده الناس؟ أو بمستوىً من العلم ليس عند كلِّ الناس؟ أو أنك مخلوق من غير ما خُلق منه الناس؟ أو إنَّك لن تؤول إلى ما سيؤول إليه الناس؟ كلُّ ذلك ليس لك، فلماذا إذن تعجب بنفسك؟ الإعجاب بالنفس يكشف عن أنَّ هذا الإنسان مبتلى بقلَّة العقل، وبضعفٍ للفهم للواقع، فهو يتوهَّم أنَّه متميِّزٌ على الناس لأنَّ المعجب بنفسه نظرته لذاته وللحياة ليست واقعية، إذن فأحد مناشئ كثرة التعييب للآخرين هو العجب بالنفس.

 

المنشأ الثاني: التكبُّر:

ومنشأٌ آخر لكثرة التعييب للآخرين هو الشعور بالكبرياء والاستعلاء فلا تجد أحداً يُكثر التعييب للآخرين إلا وهو يعيش في داخله نفساً متعالية مستكبرة يرى نفسه أعلى من الناس، لذلك ينتقدهم وينتقصهم ويعيبهم ويتتبع عثراتهم.

 

المنشأ الثالث:الحسد والضغينة:

ومنشأٌ ثالثٌ من مناشئ كثرة التعييب هو أنَّه مبتلىً بنفسٍ مثقلة بالحسد والضغينة، -وهي من أسوأ الأمراض التي يُبتلى بها الإنسان- فداء الحسد منشأٌ آخر لكثر التعييب للآخرين، فلا تجد أحداً يُكثر من التعييب للناس إلا وهو غالباً ما يكون مبتلى إما بالحسد أو أنَّه رجل مبتلى بالضغينة والحقد على الآخرين، فهو يكره هذا ويبغض ذاك ويمقت هذا ولا يحب ذاك لذلك يبحث عن عثراتهم فإن وجد كشف وذكر وروَّج وإنْ لم يجد ابتكر عيباً للآخرين فوصمهم به، فأيُّ نفسٍ أسوأ من نفسٍ تكون كذلك، مثلُ هؤلاء لا تُقبل نصيحتهم ولا يُشاورون، بل ولا يُصاحبون، لذلك قال تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ/هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ﴾(5) فالواجد لهذه السجيَّة الممقوتة لا يُطاع، لا تُقبل نصيحته ولا يُصغى إلى مشورته، وقد وردت عن أهل البيت (عليهم السلام) تأكيداتٌ على هذا الأمر.

 

أثر البطانة السيئة للسلطان:

فالسلطان هو أول من يلزمه إعتماد هذا الأمر وهو عدم طاعة الهمَّاز، يعني لا ينبغي له أن يتخذ لنفسه بطانةً من مجموعةِ معقَّدين مبتلَون بأمراض الحقد والحسد والكبر والعجب والاستعلاء، فإذا إتخذ لنفسه بطانة من هؤلاء، اللذين ينتقصون الآخرين ويعيبونهم ويستصغرونهم ويحتقرونهم، فإن قبل بمشورتهم وتقييمهم للنالس فعلى دولته السلام، لذلك فإنَّ الإمام عليَّاً (عليه السلام) حينما بعث مالك الأشتر إلى مصر ليكون والياً عليها، كانت إحدى وصاياه له، قال: (وليكن أبعد رعيتك منك وأشنأهم عندك أطلبهم لمعايب الناس)(6)، هذا الصنف من الناس يجب أن يكون مستبعداً من مجلسك، فلا تجعله ضمنَ بطانتك ومن أهل مشورتك، بل ليكن مشنوءاً ممقوتاً منك، فإن الطلب لمعايب الناس والبحث عن عثراتهم ليس من شأن السلطان العادل، يقول (عليه السلام): (فإنَّ في الناس عيوباً، الوالي أحقُّ من سترها. فلا تكشفن عمَّا غاب عنك منها فإنما عليك تطهير ما ظهر لك، والله يحكم على ما غاب عنك)(7)، فلو أنَّ كلَّ أحدٍ امتثل هذه الوصايا ولو أنَّ الحكام والسلاطين وأصحاب النفوذ تمثَّلوا هذه الحكمة لكُفي المجتمع الكثير من الشرور، فالسلطان يعيش في برجه العاجي العالي فلا يعلم بأحوال الناس ولا أقدارهم ولا تطلعاتهم، ومرآتُه بطانةٌ مبتلاة بالعديد من العقد النفسانية، فهم يُهوِّلون له أخطاء الناس إن كان لهم أخطاء وإن لم يكن لهم أخطاء احتلقوا لهم أخطاءً وحشوا بها عقله وأوغروا صدره على الناس فيستسيغ السلطان بذلك الكذب أو بذلك التهويل إيقاع المزيد من الظلم على رعيته فينالهم من تحريض بطانة السلطان ظلم يضاف إلى ما هم عليه من ظلامات من قبله ومن قبل أتباعه.

 

مَن تجرأ لك تجرأ عليك:

وهذا الأمر لا يختص بالسلطان فحتى سائر الناس منهيُّون عن معاشرة العيَّاب الهمَّاز الذي يُكثر من الطعن في أعراض الناس، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) فيما روي عنه: (إياك ومعاشرة متتبِّعي عيوب الناس فإنَّه لم يسلم مصاحبهم منهم)(8)، هذا الإنسان الذي يكثر من الطعن على الناس وتعييبهم يجب الحذر من معاشرته ومصاحبته فإن واحداً من الآثار السيئة المترتِّبة على معاشرته وهو أنَّ صاحبه لا يسلم ولا يأمن بوائقه، فهو لن يحفظ سرَّه ولن يستر على معائبه بل سيكشفها يوماً ما، يروى عن الإمام(عليه السلام) في موردٍ آخر: (مَن تجرأ لك تجرأ عليك)(9)، فاليوم هو قد تجرأ فانتقص الناس وأعابهم في محضرك وغداً يتجرأ عليك فيعيبك عند الناس، (من تجرأ لك تجرأ عليك)، وفي موردٍ آخر ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (ليكن أبغضَ الناس إليك وأبعدَهم منك أطلبهم لمعائب الناس)(10)، هذه مجموعة من الروايات أكَّدت على أن المتَّصف بهذه السجية الممقوتة والمذمومة لا ينبغي أن يُعاشر، أو يعالج قبل أن يًعاشر.

 

النقد البناء:

ثم إنَّ الروايات الورادة عن أهل البيت (عليهم السلام) تصدَّت لبيان الآثار السيئة المترتبة على الوقوع في أعراض الناس وتعييبهم وتصدَّت كذلك لمعالجة هذه السجيَّة المذمومة، تصوروا أيها الأخوة لو شاعت في أوساط المجتمع مثل هذه السجية فإن الأثر السيء هو النقض للبناء الاجتماعي، إنَّ هذه السجيَّة لو شاعت فإنَّها تُحدث إختلالاً في البناء الاجتماعي يُفضي إلى تمزُّق نسيج العلاقات بين أفراد المجتمع.

والمؤسف انَّنا نجد شيوع حالة التراشق وإنتقاص الناس لبعضهم البعض، وقد ساهم في ذلك ما يُروِّج له بعض المنظِّرين تحت شعار النقد البنَّاء والشفافية، فالإنتقاص والتراشق قد صِيغ بصياغات يقبلها الناس ويستمرؤنها لتوهُّمهم أنَّها لا تدخل تحت هذا العنوان السيء، فشعار النقد البنَّاء، عنوان جميل وبرَّاق ولكنَّه يُجيَّر غالباً لسلوكٍ منافٍ لمدلوله الحقيقي، فالنقد البناء يعني المعالجة للأخطاء التي ينشأ عنها -أي عن معالجتها- بناء المجتمع، فهو بنَّاء يوطِّد العلائق ويشدُّ ما تراخى منها ويسدُّ الثغرات التي تطرأ في بنيتها، وأما النقد الذي يتعاطاه الناس فهو يتم بأسلوبٍ آخر ولغاية لا تمتُّ للبناء بصلة، ولكن الشعار هو النقد البنَّاء يقعون في أعراض بعضهم البعض طولاً وعرضاً وكل يتتبع عثرات غيره وسقطاته ولا يبقي من أخطاء غيره إلا وأفشاها وبالغ في التشنيع عليها، وكل ذلك تحت شعار النقد البناء، فهو يضع من لا يرتضيه على المقصلة فيأخذ في تعداد صفاته السيئة وربما إختلق له صفات ليست فيه ويحصي عليه كل قول مسيء أو خطأ إجترحه وإن كان ذلك قد وقع منه قبل سنين فإذا قيل له: انَّ ذلك من الغيبة والإستنقاص والإساءة للآخرين قال: كلا، هذا نقد بنَّاء، تحت شعار النقد البناء نطعن في أعراض الناس ونعيبهم ونستنقصهم ونستصغرهم ونتتبع عثراتهم، وتحت هذا الشعار يصبح التتبع للعثرات دراسة وتحليل للشخصيات الفاعلة في المجتمع، ذلك هو الوهم الحالق للدين يُقنع هذا الطعان في أعراض الناس نفسه انه بنقده اللاذع والفج يساهم في تقويم البناء الاجتماعي فيعطي لنفسه الحق في متابعة أخطاء الآخرين، تحت ذريعة العمل على معالجتها، هذه وسوسة شيطان، وتلك هي إملاءاته، فليس من دين الله تعالى ولا هو من شأن العقلاء الأسوياء أن يتتبع الإنسان أقوال أخيه ويُحصي عليه تصرفاته وكل مواقفه ثم يجزِّأها ويُحللها ويضعها على المشرحة ثم ينتقي منها ما يُوجب استنقاصه فيفشيه بين الناس، كل ذلك تحت شعار النقد البناء، إنَّ مثل هذا السلوك المشين حذَّر منه أهل البيت (عليهم السلام) ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: (أبعد ما يكون العبد من الله -والعبد يحرص أن يكون أقرب ما يكون من الله في حين أنه إذا اتصف بهذه الصفة التي سيذكرها الإمام يكون أبعد ما يكون عن الله عزوجل- أن يكون الرجل يواخي الرجل وهو يحفظ عليه زلاته ليعيِّره بها يوما ما)(11)، ذاكرته قوية يحفظ مواقف الآخرين ويحفظ أقوالهم وقد يحفظها عنده في سجلاته، بمجرد أن يحتاجها في يوم من الأيام من أجل أن يكشف نقائص هذا الرجل تكون عنده جاهزة مؤرخة موثقة، هذا من أبعد الناس عن الله (عز وجل)، الناس تصدر منهم في كل يوم الزلات والأخطاء، أنت إذا تتبعتها سوف تجد الكثير من هذه الأخطاء، من تأمل عيباً وجده، أنت إذا تأملت في الآخرين بتجد ليهم عيوب، لكن هذا الأمر حسن يعني، هذا سيء، كل تأملك وتدبرك وتحليلك والتحليلات والدراسات كلها تتم على أساس الوقوف على أخطاء وعثرات الآخرين، هذا من أسوأ الصفات التي يتصف بها بعض الناس.

 

التحذير من هذه السجية الممقوتة:

قلنا إنَّ الروايات حذَّرت من الطعن في أعراض الناس والتنويه بمعائبهم فمن الروايات التي أكدت على سوأة هذه الصفة ماورد عن النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (كان بالمدينة أقوامٌ لهم عيوب فسكتوا عن عيوب الناس فأسكت اللهُ عن عيوبهم الناس فماتوا ولا عيوب لهم عند الناس، وكان بالمدنية أقوامٌ لا عيوبَ لهم فتكلَّموا في عيوب الناس فأظهر اللهُ لهم عيوباً لم يزالوا يُعرفون بها إلى أن ماتوا)(12)، فجزاء تتبعهم لعيوب الناس، إنَّ الله (عز وجل) خذلهم فأوكلهم إلى أنفسهم فأدَّى خذلانه لهم إلى أن يبحث بعض الناس عن عيوبهم فحين وقفوا عليها أفشوها فشاعت بين الناس حتى صاروا يُعرفون بها إلى أن ماتوا بل لعلها لحقت بذراريهم أيضاً، وأما الآخرون الذين كانت لهم عيوب ولكنهم تعفَّفوا عن ذكر عيوب الناس فهؤلاء منحهم الله (عز وجل) ستره الجميل فلم يطلع الناسُ معايبهم، هذا أثر حسن يترتب على الستر على عيوب الناس وأثر سيء يترتب على إفشاء عيوب الناس.

وورد عن الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) في مقام الحض والحثِّ على ستر عيوب الناس في مقابل إفشائها، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): (من ستر على مؤمن فاحشة -ارتكبها- فكأنَّما أحيا موؤودة)(13)، لاحظوا، كم هو مقدار الأجر المترتِّب عن إحياء نفسٍ مشرفةٍ على الهلاك؟ لاريب انَّه عظيم أن تنتشل طفلةً كانت في أيام الجاهلية قد دفنت في الأرض وهي حية فتستنقذها من هذا الموت المحتم، إنَّ مَن ستر على مؤمن فاحشة قد إجترحها فكأنما أحيا موؤودة وإستنقذها من الموت، وفي الآية: ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾(14)، وهذا المضمون قد تكرر وروده عن النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (من ستر على مؤمن خزيه -عيب- فكأنَّما أحيا موؤودة من قبرها)(15)، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (من أطفأ عن مؤمن سيئة -أطفأ يعني أنَّها تكون تحت الضوء ومكشوفة، فيجرها إلى الظلام إما بتبريرها أو التكتم عليها- منحه الله (عز وجل) أجر من أحيا موؤودة)(16)، وورد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) في مورد آخر أنه قال: (مَن ستر أخاه المسلم في الدنيا ستره الله يوم القيامة)(17)، و(من ستر أخاه في فاحشة رآها عليه ستره الله في الدنيا والآخرة)(18)، ليس من أحد عاقل إلا وهو حريص على أن يستر الله (تعالى عليه) عيوبه، وما من أحد إلا وله عيوب وفيه نقائص ويحبُّ أن لا تظهر للناس فإذا شاء أن يستر الله عليه وأنْ لا تظهر معائبه للناس فليستر على الآخرين.

وفي مقابل ذلك من أفشا عيوب الناس، فإنَّ الله تعالى يخذله، فإذا خذله انكشفت معايبه عند الناس، فلذلك ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم): (من سلَّ سيف البغي قُتل به، ومن حفر بئراً لأخيه وقع فيها، ومن هتك حجاب أخيه انتهكت عورات بيته)(19) هذا أثر سيء يترتب على تتبع عثرات الناس.

 

مَن كشف ستر أخيه كشف الله ستره:

ثم إنَّ الروايات ذكرت مجموعة من المعالجات لهذه السجية الممقوتة وهي التصدِّي لاستنقاص الناس وإفشاء معائبهم فأفادت أنَّ من أهم ما يُساهم في علاج هذه السجية هو أن يتأمَّل الإنسان عيوب نفسه، فإذا تأمل عيوب نفسه فإنَّه سيشتغل بها عن عيوب الآخرين، فلهذا ينبغي للإنسان العاقل أن يرجع إلى ذاته فيتأمل أخطاءها ومعايبها ونقائصها حيننئذٍ سيجد نفسه مبتلى بالكثير من العيوب ولذلك لن يعيب الآخرين وهو مبتلى بنفس هذه العيوب أو بما يضاهيها، فالإنسان اللي يعيب الآخرين أحد اثنين إما إنَّه أحمق لا ينظرإلى نفسه، ولا يبصر عيوبه وإنما يُبصر عيوب غيره والحال انه واجد لذات العيوب التي يعيِّر بها الناس، فهذا إنسان أحمق، فالأحمق هو من يعيب الناس بعيوب هو أحقُّ بها لأنَّه مبتلى بها وهو لا يدري، والثاني هو الإنسان المبتلى بنقائص ويعلم أنَّه مبتلى بها ولكنه يبحث عن سترها بواسطة رمي الآحرين بها (رمتني بدائها وانسلَّت) فهو يتحدث عن عيوب الناس ليقوللهم أنه مبرأٌ من هذه العيوب وغير مبتلى بها، ليقول للآخرين فهو يتخذ من تعييب الناس وسيلة لستر عيوبه، مثل هذا الإنسان توعَّده الله (عز وجل) بأنْ يفضحه على رؤوس الأشهاد، يقول الإمام عليٌّ (عليه السلام) فيما يُروى عنه: (من تتبَّع عورات الناس كشف الله عورته)(20).

و(من بحث عن أسرار غيره أظهر الله أسراره)(21)، هناك من إذا وقف على سرٍّ من أسرار الناس يشعر وكأنَّه وجد كنزاً ثميناً وحصل على غنيمة ضافية، لذلك فهو يتفكَّه بهذا السر عند أخلائه ويحذرهم من إفشائه وفي كل يوم يخبر به جماعة من الناس ويقول لهم ان ذلك من الأسرار فلا تفشوه بين الناس فلا يلبث هذا السر حتى يعلم به الخافقان ويظلُّ يُسمِّيه سراً، مثل هذا يناله الوعيد الذي أفاده الإمام (عليه السلام) بقوله: (من بحث عن أسرار غيره أظهر الله أسراره).

وورد عن الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (من كشف عورة أخيه المسلم كشف الله عورته حتى يفضحه بها في بيته)(22)، فالفضيحة تُصيبه وتقع عليه وهو جالس بيته لأنَّ الله تعالى قد خذله بكشفه لعيوب الناس، فالله (جلَّ وعلا) ستَّار ومعنى انَّه ستَّار هو انَّه تعالى يدفع عن الناس أسباب الفضيحة، فلا تظهر لذلك معايبهم، فإذا إجترح أحدهم خطيئةَ الكشف لعيوب الناس خذله الله فلم يدفع عنه أسباب الفضيحة، وهذا هو معنى انَّ الله تعالى يفضحه، ويمكن التنظير لذلك بوقوع إنسان وسط مسبعة مليئة بالسباع ولكنه لا يُصاب منها بسوء لماذا؟ لأنَّه محاط بحماية تحول دون وصول السباع إليه، فإذا تخلَّت هذه الحماية عنه فإنَّه سيقع فريسةً للسباع دون ريب، فالحماية ليست هي من سيفترس هذا الإنسان وإنَّما ستفترسه السباع ولكن بعد تخلِّي الحماية عنه، وهذا هو معنى انَّ الله (عز وجل) يفضح الممتهن للكشف عن عيوب الناس، فهو تعالى لن يدل على معايبه وإنما سيخذله، وحينئذ سيجد الناس على جهوزية تامَّة للنيل منه والكشف عن عيوبه، فالناس بمثابة السباع التي كانت تخشى الحماية وبمجرد أن تخلَّت الحماية عنه إفترسته السباع، هذا هو معنى أنَّ الله (عز وجل) يفضح الكاشف لعورة أخيه على رؤوس الأشهاد.

فإذن مثل هذه الرواية تتوعَّد الذي يعيب وينتقص الناس ويكشف عن عيوبهم تتوعده بفضيحة لا ستر بعدها، وذلك في حد نفسه معالجة لهذه المشكلة، إذ المفترض انَّ الإنسان عاقل وحريص على ان يظلَّ محفوظ السر مستور العيب فإذا علم انَّ تتبعه لعثرات الناس وكشفه عن معايبهم يُفضي به إلى الوقوع فيما يخشاه على نفسه من إنهتاك ستره وإنكشاف عيوبه فحينئذ سيكف عن أعراض الناس والإفشاء لمعايبهم، هذا لوكان عاقلاً ولم يكن أحمقاً.

 

يحاسب الناس على الظن ولا يحاسب نفسه على اليقين:

نختم الكلام بحديثٍ لطيف مرويٍّ عن السيد المسيح (عليه السلام) قال يخاطب بني إسرائيل: (يا عبيد السوء تلومون الناس على الظن ولا تلومون أنفسكم على اليقين؟)(23) ما معنى ذلك؟

معناه أنَّ الإنسان كثيراً ما يلوم الناس ويُبكِّتهم وينتقص منهم ويذكرهم بعيوبٍ هو لا يقطع بأنَّها قد صدرت عنهم وإنَّما يظنُّ ذلك ظناً، إذ غالباً ما يكون مستنده في ذلك الحدس أو الأخبار التي يسمعها من هنا وهناك، فهي أخبار ظنيَّة قد تكون صادقة وقد تكون كاذبة وإن كانت صادقة قد تكون مشوبة بالتهويل والمبالغة أو تكون مزيجاً من الصدق والكذب، فهي إذن إخبارات ظنية إلا انَّ الغالب من الناس رغم ظنيَّة الأخبار التي تلقَّوها عن هذا المؤمن أوذاك فإنَّهم يتناولونها وكانَّها أخبار قطعيَّة لا شك في صدقها لذلك فهم يقعون في عرض ذلك المؤمن ويتناقلون بينهم ما بلغهم عنه ويزدرنه ويستنقصونه رغم انَّ العيوب التي نُقلت عنه ليس من المُحرَز ثبوتها وصدورها عنه، ولو فُرض انَّ ما بلغهم عنه في بعض الأحيان كان موجبا لليقين بصدوره عنه إلا انَّ اليقين بصدوره لا يعني اليقين بأنَّه كان متعمداً أو لم يكن له مسوِّغٌ أو مبررٌ ساقه للوقوع في الفعل المنقول عنه، فغالب الناس لا تُفكر في المبرِّرات ولا تلتمس لغيرها الأعذار ولا تحمل ما يفعله غيرها على محامل الخير بل تُبادر للتشنيع والتقريع والإفشاء رغم انَّ مَن صدر منه الذنب قد يكون معذوراً أو يكون قد وقع في شبهةٍ ثم مالبث أنْ أفاق منها أو يكون ما ارتكبه كان خطأً عابراً ندم عليه وتاب منه، كل ذلك لا يغفر له عند الناس بل تظلُّ الناس تلاحقه بخطيئته التي ربما لم يكن قد إرتكبها أو انَّه ارتكبها ثم تاب منها.

فمفاد الرواية انَّ الكثير من الناس يقعون في أعراض غيرهم ويشنِّعون عليهم رغم انَّ العيوب التي يُشنعِّون بها عليهم ليس من المحرَز إتصافهم بها أو صدورها عنهم والحال انَّهم يغفلون عن أنفسهم رغم انَّ ما يصدر عنهم من أخطاء معلوم عندهم علم يقين فهم يدركون ما كانوا قد اجترحوه من أخطاء ويذكرونها جيداً لكنهم يغضون الطرف عنها. مثل هؤلاء سيئون لأنَّهم يحاسبون غيرهم على الظنون ويغضُّون الطرف عن أخطائهم التي يُحرزون يقيناً انَّهم قد ارتكبوها.

والحمد لله رب العالمين

.

.

.

الهوامش:

1- سورة القلم/10-13.

2- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 16 ص 162.

3- سورة الهمزة/1.

4- عيون الحكم والمواعظ -علي بن محمد الليثي الواسطي- ص 38.

5- سورة القلم/10-11.

6- نهج البلاغة -خطب الإمام علي (ع) (تحقيق صالح)- ص 429.

7- نهج البلاغة -خطب الإمام علي (ع)- ج 3 ص 86.

8- عيون الحكم والمواعظ -علي بن محمد الليثي الواسطي- ص 97.

9- شرح نهج البلاغة -ابن أبي الحديد- ج 20 ص 342.

10- عيون الحكم والمواعظ -علي بن محمد الليثي الواسطي- ص 405.

11- الكافي (مُشَكَّل) -الشيخ الكليني- ج 2 ص 355.

12- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 15 ص 292.

13- كنز العمال -المتقي الهندي- ج 3 ص 249.

14- سورة المائدة/32.

15- كنز العمال -المتقي الهندي- ج 3 ص 249.

16- "من أطفأ عن مؤمن سيئة كان خيرا ممن أحيا موؤودة". كنز العمال -المتقي الهندي- ج 3 ص 248.

17- كنز العمال -المتقي الهندي- ج 3 ص 248.

18- كنز العمال -المتقي الهندي- ج 3 ص 250.

19- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 72 ص 321.

20- ميزان الحكمة -محمد الريشهري- ج 3 ص 2208.

21- ميزان الحكمة -محمد الريشهري- ج 3 ص 2208.

22- كنز العمال -المتقي الهندي- ج 3 ص 248.

23- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 14 ص 305

المرفقات

: معهد الإمام الحسين (عليه السلام) للدراسات القرآنية التخصصية