ان النشاط الذي يمارسه الإنسان في مجال الفن، سواء من حيث الإبداع او التذوق يتوقف بشكل أو بآخر علـى الكيفية التي يتم بها إدراك الإنسان لنفسه وواقعه ووجوده، والفعل الإبداعي بوصفه نوعا من انواع النشاط الإنساني لا يمكن ان يفهم إلا بالوعي لمعنى الإدراك وآلياته وظروفه وكيفية تأثيره بسلوك الإنسان، فنحن بني البشر نستجيب للبيئة المحيطة بنا لا كما هي عليه في الواقع بل كما يدركها كل فرد منا.
ان سلوك كل انسان عاقل متوقف على كيفية إدراكه لما يحيط به من أشياء واشخاص ونظم اجتماعية، وهذا يتضح اكثر لو وضعنا في اعتباراتنا مسألة التمييز بين البيئة الواقعية والبيئة النفسية للفرد أو ما يسميه البعض بالمجال، فالإدراك بطبيعته هو استجابة لما يقع ضمن نطاق اهتمامنا وانتباهنا، وهناك علاقة وثيقة بين ما يدركه الإنسان وبين سلوكه، فالإدراك والسلوك استجابتان متضامنتان لا يمكن فصلهما الا بفصل وحدة الإنسان وهذا لا يكون الا عند من يعاني فصاماً او مرضاً نفسياً ما، وليس بالضرورة ان يكون هنالك تطابق بين ما يدركه الإنسان وبين الحقيقة الموجودة في الواقع الموضوعي، مما ينذر بوجود فجوة عميقة بين الحكم الذي يطلقه الإنسان وبين حقيقة الاشكال الجميلة كما هي فـي واقعها خارج الذات، وليس كما هي مدركة داخل الذات البشرية.. ولذلك فان عملية سعي الانسان للبحث وامتلاك حقيقة الجمال تشترط تناول آلية الإدراك وكيفية جعلها مطابقة لنفس الظاهرة الموضوعية، وهذا الامر في حقيقة الامر هو القلب النابض لنظرية المعرفة.
ان الإدراك في معناه الحقيقي، يجب ان يحقق الوصول إلى حقيقة الشيء.. ولكن اختلاطه مع غيره من القوى والمؤثرات يؤدي إلى انحرافه عن سياقه السليم بطريقة لا شعورية ومن النادر الانتباه لها وتلافيها او تصحيحها، لان عملية الإدراك وحسب ما ورد في اغلب دراسات علم النفس هي نوع من الاستجابة.. لا للأشكال من حيث هي مجرد أشكال حسية، بل للرموز وبعض الأشياء المحددة التي تحملها تلك الاشكال.. ولا يخفى علينا ان معاني الرموز والأشياء لابد ان تختلف باختلاف الأشخاص واختلاف الحالة النفسية لكل شخص منهم، مما ينبئ باستحالـة التطابق بين ناتج العملية الإدراكية وبين حقيقة الشيء المدرك ونوعية الإدراك وجعله ثابتة ما.. فكل يرى ما يراه بعيداً عن الآخر.
ولفهم عملية الإدراك الاجمالي بشكل ادق، وما تؤول اليه من نتائج علينا الانتباه إلى العلاقة الوثيقة القائمة بين الانتباه والإدراك، لأنهما الأساس الذي تقوم عليه سائر النشاطات العقلية التي يمارسها الإنسان- فهما عمليتان متلازمتان عادة- ، فإذا كان الانتباه هو تركيز الشعور في شيء، فالإدراك هو معرفة ذلك الشيء، وهما وان كانا متلازمين إلا ان الانتباه في طبيعته ووظيفته يسبق الإدراك، فالإنسان يدرك ما يقع ضمن نطاق انتباهه واهتماماته، وهو في طبيعة وجوده يتعرض لأنواع المنبهات سواء ما يستلمها من العالم الخارجي أو من داخله بفعل ما يزخر به جسده من إشارات مختلفة يكون مصدرها الذهن، وهذه المنبهات من الكثرة بحيث تشبه السيل الزاخر، إلا انها على تعددها لا تدخل جميعها ضمن اهتمامات الإنسان وانما يختار منها ما يدخل في نطاق احتياجاته وما يتلاءم وحالته النفسية، لذلك يختار الإنسان ما ينسجم معه ليسلط عليه مشاعره حتى يكاد لا ينتبه إلى سواه، هذه العملية بمجملها تسمى بالانتباه، فعمليـة هي الإدراك عملية معقدة لأنها تمثل استجابة تصدر عن شخصية لها خبراتها وذكرياتها وميولها واتجاهاتها النفسية الشعورية واللاشعورية، علماً ان الفرد يستجيب للبيئة لا كما هي عليه في الواقع بل كما يدركها او كما تبدو له.. حسب ما تضفي عليها دواخله من معنى وقيمة وأهمية هو يراها .
اما النشاط الفني سواء كان إبداع او تذوق، فلابد ان يكون للإدراك الحسي الاثر البالغ فيه، فالعملية الإبداعية هي عملية عقلية في الأساس، و ان أساس العمليات العقلية الإدراكية هو الإحساس أو الإدراك الحسي، والذي يعرف بانه الفهم أو التعقل بوساطة الحواس.. والذي لا يمكن فهم الفن وطبيعته دون الابتداء بتصور معين لخاصيته – أي الادراك والإحساس الجمالي - .. وهذا ما اكده مؤرخ الفن الانكليزي هربرت ريد برأيه في انه لا بد لأي نظرية عامة في الفن، من ان تبدأ بالإحساس او الإدراك الحسي.. فان الإنسان يستجيب لشكل الأشياء القائمة أمام حواسه وسطحها وكتلتها، وينتج تناسق معين متعلق بسطح الأشياء وشكلها وكتلتها، ومن ثم ينتج الإحساس بالمتعة، بينمـا يؤدي الافتقار إلى مثل هذا التناسق إلى خلق شعور بعدم الارتياح أو اللا مبالاة أو حتى الرضا أو النفور.. ثم يقرر هربرت ريد بان الإحساس بالجمال أو بالقبح هما الإحساس بالتناسق الممتع أو الإحساس المضاد وعلى التوالي.
وعليه يمكننا القول، ان الإحساس بالجمال يتمثل في الاستجابة العاطفية للشيء والناجمة عن إدراكه من جهة كون الإدراك تصوراً وليس تصديقا.. فالإدراك لا يكون إلا من جهة المشاعر والعواطف، لكن في حالة الاعتماد على الأساليب العقلية لغرض التصديق بالقيمة الجمالية للشيء فسيكون لدينا حكم وليس إدراكاً اولياً، أي إن الفرد منا يعنى برؤية جمال الشيء حين تفاعله معه وحصول عاطفة تجاه صفاته الجميلة، في حين إننا في حال رؤية صفات الاشياء الجميلة ليس بالضرورة ان تخالجنا العواطف مالم نتفاعل معها.
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق