تأمُلٌ في دعاء اليوم الرابع عشر من شهر رمضان المبارك

(اَللّهُمَّ لاتُؤاخِذْني فيهِ بالْعَثَراتِ، وَاَقِلْني فيهِ مِنَ الْخَطايا وَ الْهَفَواتِ، وَلا تَجْعَلْني فيهِ غَرَضاً لِلْبَلايا وَالأفاتِ بِعزَّتِكَ ياعِزَّ المُسْلمينَ)

 

المؤاخذة

وهي تأتي على معاني منها اللوم، والعقاب، والإستعمال يحدد المعنى، قال تعالى : (قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا)[الكهق – 73]، هذا قول موسى إلى الخضر عليهما السلام، أي يطلب منه أن لا يلومه ويعاتبه بسبب نسيانه، وقوله تعالى : (فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ۗ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ)[الأنفال – 52]، أي عاقبهم بسبب ذنوبهم.

لقد استعمل القرآن الكريم المؤاخذة بمعنى العقوبة في العقاب الشديد، قال تعالى : (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً)[الحاقة – 1-]، أي عقوبة شديدة زائدة، وقوله تعالى : (وَيَا قَوْمِ هَٰذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ)[هود – 64]، فكانت عقوبة غير المؤمنين من قوم صالح (فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ)[هود – 67]، أي أصبحوا موتى منكبين على وجوههم، وقوله تعالى (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ۙ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ)[الأنفال – 52]، وقوله تعالى : (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ)[الأعراف – 165]، فالمؤاخذة هنا بمعنى العقوبة وتستعمل فييقصد بها العقاب الشديد، وأيضاً معنى العقوبة هذا هو أن العقاب الشديد يعني عقوبة الغضب التي تقضي على مستحقها، بخلاف عقوبة التأديب التي ترجع العبد إلى صوابه أو تنبهه إلى فعلته أو تكفر عن ذنوبه، كما جاء في دعاء أبي حمزة الثمالي : (اِلهي لا تُؤَدِّبْني بِعُقُوبَتِكَ) لأن العبد لا طاقة له على تحمل العقاب البسيط فكيف بالعقاب الشديد.

العثرات جمع عثرة أي الزلة والخطيئة، فالمعنى هنا أي لا تعاقبني بشديد العقاب على ما صدر مني من زلل أو خطأ.

 

(وَاَقِلْني فيهِ مِنَ الْخَطايا وَ الْهَفَواتِ)

الإقالة هنا تعني العفو والصفح، والهفوات جمع هفوة أي الزلة والسقطة، فيكون المعنى في هذا الدعاء اعفو واصفح عن اخطائي وسقطاتي، ولكن الاقالة هنا لها معنى اضافي فليس هو مجرد العفو والصفح؛ بل تعني أن ينهضه من سقطته ويخرجه ويباعده منها.

فالمقطع الأول من الدعاء يطلب عدم المعاقبة على ذنوبه، والمقطع الثاني يطلب الصفح عن ذنوبه وأن يخرجه منها ويباعده عنها، فهذه ثلاثة أمور ينبغي الإلتفات إليها، عدم العقوبة، الصفح، الإبعاد، ولكن الملفت أكثر في هذا الدعاء كأنه يخاطبنا لنتلعم منه كيف نتعامل مع من دوننا، فيعلمنا أن لا نخلط بين عقوبة الذنب الشديد وعقوبة التأديب، فكلٌ بحسبه، وأيضاً أن نعفو ونصفح عن الأخطاء التي تصدر من غيرنا بحقنا، فالسيد يغفر للعبد؛ فكيف بالعبد مع العبد، وأيضاً يعلمنا عندما نرى عبداً قد سقط في الأخطاء سواء بحقنا أو بحق الخالق، علينا أن ننتشله ونخرجه مما هو قد سقط فيه؛ بل نباعده عنه.

والروايات الشريفة أوضحت كيفية العقوبة وكيف تأتي بفوائدها، فمنها ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام : (عقوبة العقلاء التّلويح، عقوبة الجهلاء التّصريح)[غرر الحكم ج1 ص466]، أي مع العقلاء يستعمل في العقوبة إسلوب الإشارة في الكلام أو الفعل، ومع الجهلاء يستعمل أسلوب التصريح بالقول أو الفعل.

والصفح هو من الفضائل الأخلاقية التي تدل على عظم روح صاحبها لما جاء عن أمير المؤمنين عليه السلام : (الكريم إذا قدر صفح)، (الصّفح أحسن الشّيم)، (الصّفح أن يعفو الرّجل عمّا يجنى عليه و يحلم عمّا يغيظه)، (لا حلم كالصّفح). وغيرها روايات الشريفة الدالة على عظم الصفح.

 

(وَلا تَجْعَلْني فيهِ غَرَضاً لِلْبَلايا وَالآفاتِ)

يقصد بالغرض هنا: الهدف الذي يرمى إليه، أي يقصد بإستمرار، والآفة هي كلُّ ما يصيب شيئاً فيفسده، من عاهة أَو مَرَض أَو فقر، فالمعنى في هذا المقطع : أي آلهي لا تجعلني هدفاً تستمر عليه البلايا وخصوصاً البلايا التي تفسد بدني أو معيشتي؛ ولكن كيف نوفق بين معنى هذا الدعاء وبين بعض الرويات التي تمدح البلاء، كالنبوي الشريف : (إن الله يبغض العفرية النفرية الذي لم يرزء في جسمه ولا ماله)[البحار ج81 ص 174]، وأيضاً ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام : (إذا رأيت ربك يوالي عليك البلاء فاشكره، إذا رأيت ربك يتابع عليك النعم فاحذره) [التّمحيص ج1 ص6] ؟

الظاهر أن المقطع هذا مرتبط بما قبله، أي لا تجعل عقوبة ذنوبي وأخطائي هي البلاء المستمر أو الآفات المستمرة، فالبلاء هنا هو نتيجة الذنب، وليس إبتلاء رفع الدرجات.

 

بعض آثار الصبر على البلاء

وردت بعض آثار الصبر عن أمير المؤمنين عليه السلام، ذكرها الآمدي في غرر الحكم، نذكر أهمها:

1- تأدية حق الله، 2- تجعله في مأمن من عقاب الله، 3- ينال ثواب الله، فقال عليه السلام (من صبر على بلاء اللّه سبحانه فحقّ اللّه أدّى و عقابه إتّقى و ثوابه رجا)، 4- دفع بلاء الدنيا، 5- دفع عذاب الآخرة، قال عليه السلام (ما دفع اللّه سبحانه عن العبد المؤمن شيئا من بلاء الدّنيا و عذاب الآخرة إلّا برضاه بقضائه و حسن صبره على بلائه)، 6- الحصول على نعيم الآخرة، قال عليه السلام (لا ينعم بنعيم الآخرة إلّا من صبر على بلاء الدّنيا)، 7- خير الدنيا والآخرة، قال عليه السلام (ثلاث من كنّ فيه رزق من خير الدّنيا و الآخرة ... الصّبر على البلاء ...)، 8- دليل على حسن الإيمان، قال عليه السلام (ألمؤمن دائم الذّكر كثير الفكر على النّعماء شاكر و في البلاء صابر).

 

فبعد معرفة ما للصبر على البلاء من آثار وفضل ينبغي على المؤمن التحلي به؛ لينال أجر البلاء، وبخلافه يحتمل أن يأثم كما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام وقد عزَّى الأَشعث بن قيس عن ابن له:

(يَا أَشْعَثُ إِنْ تَحْزَنْ عَلَى ابْنِكَ  فَقَدِ اسْتَحَقَّتْ مِنْكَ ذَلِكَ الرَّحِمُ وإِنْ تَصْبِرْ فَفِي اللَّه مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ خَلَفٌ.

يَا أَشْعَثُ إِنْ صَبَرْتَ جَرَى عَلَيْكَ الْقَدَرُ وأَنْتَ مَأْجُورٌ وإِنْ جَزِعْتَ جَرَى عَلَيْكَ الْقَدَرُ وأَنْتَ مَأْزُورٌ.

يَا أَشْعَثُ ابْنُكَ سَرَّكَ وهُوَ بَلَاءٌ وفِتْنَةٌ، وحَزَنَكَ وهُوَ ثَوَابٌ ورَحْمَةٌ)[ نهج البلاغة ج1  ص 527].

(بِعزَّتِكَ ياعِزَّ المُسْلمينَ)

 

فالخلاصة:

أن العبد يطلب عدم المؤاخذة على الذنب لأنها تعني العقوبة الشديدة. أن العبد يطلب من الخالق أن يصفح عن ذنوبه ويخرجه منها ويباعده عنها. أن المؤمن يطلب أن لا تكون عقوبته البلاء أو الآفة المستمرة. أن الصبر والدعاء هما السلاح الوحيد لدفع البلاء. ينبغي على المؤمن التعلم من هذا الدعاء كيف يتعامل مع من دونه إذا أخطأ بحقه.

 

 

إبراهيم السنجري

مؤسسة الإمام الحسين عليه السلام للإعلام الرقمي

 

 

المرفقات