في مدينة تقدّست وتشرّفت باحتضان جسد سيد الشهداء الإمام الحسين (ع) أبصر الشيخ محمد صادق الكرباسي النور, فتبرعم عوده على العلم, وانفتحت قريحته على الأدب, ونشأ وترعرع على يد العلماء, وتنقل في المدارس العلمية والحوزوية والحلقات الدراسية حتى بزغ نجمه في سماء المجد عالماً وفقيهاً وأديباً ومفكراً.
كان من لطف الله بهذا الصبي أن يولد في هذه المدينة التي ارتبطت منذ قرون سحيقة بالعلم, وتبوأت مكانة دينية وعلمية وأدبية بارزة وصلت في بعض المراحل التاريخية إلى زعامة العالم الإسلامي, فانتشرت بها المدارس العلمية التي أنجبت أفذاذ العلماء والمفكرين الذين كان لهم أثر كبير في رفد الثقافة الإسلامية والإنسانية.
فقد كان وجود هذه المدارس والحوزات العلمية من مظاهر هذه المدينة ومن سماتها البارزة, فكانت القراءة والبحث والدراسة من حيثيات الحياة اليومية الكربلائية, فازدهرت المدارس العلمية رغم صغر حجم المدينة قياساً بالمدن الأخرى, فكان لهذه الحركة العلمية والدينية في كربلاء أثراً بارزاً ومتميزاً في إغناء الفكر الإسلامي والحضارة الإنسانية, رغم النكبات والهجمات الكثيرة التي تعرضت لها هذه المدينة على مدى تاريخها الطويل, والظروف القاهرة التي عاشتها.
ينتمي الكرباسي لأسرة علمية عريقة, لها تاريخ حافل بالعلم, زاخر بالعطاء, مشرق بالعلماء الأعلام الذين حملوا العلم أمانة ورسالة, وكان لهم دوراً كبيراً ومؤثراً على الساحة العلمية والدينية وتركت بصمتها الواضحة على الحراك العلمي والثقافي والسياسي في المجتمع.
وقد أفرز تاريخ هذه الأسرة العلمي والفقهي والأدبي كثيراً من الآثار والمؤلفات العلمية والفقهية والفكرية والفلسفية والأدبية, وحتى السياسية والاجتماعية, وقد ساعد على إنماء هذا التاريخ الطويل والحافل بالمنجزات لهذه الأسرة عوامل روحية تربطهم بمكوناتها الدينية والثقافية.
فقد تشرّفت هذه الأسرة بمجاورة سيد الشهداء (ع) فوجدت في هذه المدينة المقدسة عوامل مساعدة لنشر علومها وثقافتها, كون هذه المدينة تشكل أهمية لدى المسلمين عامة والشيعة خاصة, حيث يتوافد عليها الزائرون من كل حدبٍ وصوب, فبقيت هذه الأسرة ترفد بعلومها الأجيال جيلاً بعد جيل على مدى قرون طويلة, وواصل أبناؤها السير على خطى الآباء والأجداد في الحفاظ على الطابع الأسري العلمي وإبقاء جذوة العلم مشتعلة.
ينتهي نسب الكرباسي الشريف إلى الصحابي الجليل مالك الأشتر النخعي (رضوان الله عليه) صاحب أمير المؤمنين (ع) وقائد جيشه, فهو الشيخ محمد صادق بن محمد بن علي (أبو تراب) بن محمد جعفر بن محمد إبراهيم (صاحب كتاب الإشارات) بن محمد حسن بن محمد جعفر الأخوند بن محمد قاسم بن محمد صادق (الشريف).
ولد عام 1366هـ/1947م وانضم منذ بواكير عمره إلى حلقات الدروس العلمية ونهل من علوم العربية والعلوم الفقهية إضافة إلى دخوله مدرسة السبط الإبتدائية ولكنه كان أميل إلى الدراسة الحوزوية فقد شده إليها حلقات ودروس المرجعين الكبيرين الميرزا مهدي الشيرازي والسيد محسن الحكيم (قدس سرهما).
ما إن أكمل الكرباسي الدراسة الإبتدائية حتى تفرّغ للدروس الحوزوية استجابة لطلب السيد محمد الشيرازي فدرس البحث الخارج عند والده إضافة إلى استمراريته حضور دروس الشيخ يوسف الخراساني في مدرسة السليمية فبرز نبوغه بين أقرانه لذكائه وفطنته
ولم تقتصر دراسته على العلوم الدينية والحوزوية كعلوم العربية وكتب الفقه والشرائع فقد كان بحق طالب علم لا يمل كما قال أمير المؤمنين (ع): منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب دنيا. فكان الشيخ الكرباسي مصداقاً ومثلاً لطالب العلم الذي لا تقف أمامه الحواجز والعقبات دون الحصول على مبتغاه العلمي, فدرس التفسير والأخلاق والرجال والحديث والتاريخ والفلسفة والرياضيات وفقه اللغة والعروض وعلم الأديان والمناظرة, كما درس الكيمياء والجبر والفلك والطب والصيدلة والأحياء والرياضيات والجغرافية وغيرها من العلوم.
وطبقا لحديث الرسول الأكرم (ص): زكاة العلم نشره. فقد شرع الكرباسي يدرُس ويدرِّس في نفس الوقت في مدرسة (بادكوبة) التي يتولى شؤونها والده, فتخرج على يديه كثير من العلماء الأعلام وبقي يرفد الساحة العلمية والثقافية بعلومه وآدابه.
كان الكرباسي من المناهضين للنظام البعثي البائد وله نشاط في مقارعته فضيّقت السلطة عليه فاضطر لمغادرة العراق إلى إيران وأقام في طهران فكان يدرِّس فيها السطوح في مسجد مروي ثم انتقل إلى مدينة قم المقدسة وفيها وجد ضالته المنشودة وهي حلقات العلم ولقاء العلماء فحضر بحوث المراجع الكبار فيها وعلى رأسهم السيد محمد رضا الگلبايگاني والسيد محمد كاظم الشريعتمداري والشيخ كاظم التبريزي إضافة إلى الشيخ شهاب الدين المرعشي النجفي صديق والده.
كما توطدت علاقته مع بقية العلماء والمراجع فتكررت زيارته لبيت آية الله العظمى محمد حسين الطباطبائي والشيخ راضي التبريزي فنهل منهما المسائل الفلسفية فكانت إقامته في هذه المدينة من أخصب الفترات العلمية التي مر بها في حياته.
وأثناء إقامته في قم المقدسة جاءته دعوة من السيد الشهيد حسن الشيرازي لزيارة بيروت فسافر إليها عن طريق دمشق وفيها زاول نشاطه العلمي والفكري نظراً للحرية التي يتمتع بها هذا البلد دون غيره من البلاد العربية وبعد سقوط الشاه عاد إلى قم لزيارة والده المريض الذي توفي بعد أيام قليلة من عودة الكرباسي.
رجع الكرباسي إلى بيروت وبقي يتنقل بينها وبين قم وفي إحدى زياراته لإيران شهد تشييع جثمان صديقه ورفيق دربه في الجهاد والنضال السيد الشهيد حسن الشيرازي.
كان الكرباسي دائم النشاط والمثابرة على بناء مؤسسات لخدمة الدين والمذهب والعمل التبليغي والتوجيهي واستطاع إنشاء مؤسسات في بيروت ودمشق وطهران وقم وقبرص ولندن
استقر الكرباسي أخيرا في لندن ليواصل نشاطه العلمي والفكري حيث بلغت مؤلفاته أكثر من ألفين وثلاثمائة مؤلف توجّها بالموسوعة الكبيرة (دائرة المعارف الحسينية) والتي لا يزال العمل بها مستمراً وقد أنجز منها أكثر من مائة مجلد.
محمد طاهر الصفار
اترك تعليق