بين الصفة والموصوف: (قمر بني هاشم) إنموذجاً

سطور تدور حول صفات شخصية ولي من أولياء الله الذي يعد من أبرز القيادات في التأريخ الإسلامي ألا وهو قائد معسكر الحسين بن علي بن أبي طالب (العباس بن علي بن أبي طالب) عليهم السلام، الذي قاد جيش الإمام الحسين عليه السلام بوجه فرعون زمانه يزيد بن معاوية وجيشه، فهذه بضع حروف عسى وأن توضح ولو الشيء اليسير من صفاته العظيمة.

 

تمهيد

قبل الشروع بالبحث عن صفات ذلك الفارس الهمام وليث الوغى نوضح بعض الأمور لتبيين أسباب البحث عن صفات أبي الفضل العباس عليه السلام وتمهد لنا الطريق في فهمها:

 

الأمر الأول: الصفة والموصوف

جاء في المعجم الجامع معنى الصَّفة لغةً : الحالة التي يكون عليها الشيءُ من حِلْيته ونعْتِه : كالسَّواد والبياض ، والعلم والجهل...، والصَّفة (عند النحويين) : الكَلِمَةُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى مَعْنىً يُضَافُ إِلَى الاِسْمِ لِلدَّلاَلَةِ عَلَى حَالَةٍ لَهُ وهي النَّعتُ، واسمُ الفاعل، واسمُ المفعول، والصفةُ المشبهة، واسمُ التفضيل أيضاً.

كما جاء في قاموس المعجم الوسيط، الصفة: 1- مصدر وصف. 2- نعت. 3- ما يقوم به الموصوف كالعلم والسواد والحسن. 4- علامة يعرف بها الموصوف.

والمَوصوف: (اسم مفعول) من وَصَفَ.

 

الأمر الثاني: المعرفة بالصفات

إذا أردنا أن نعرف أي شيء مجهول سواء كان الجهل تاماً أم جزئياً، علينا أن نعلم صفاته وما يحتوي عليه من كمالات وغيرها، وخير شاهد على ذلك هو في معرفة الخالق -الذي هو أهم مَنْ يُعرف على الإطلاق- فأول خطوة يخطوها كل من بحث عن معرفته هي: البحث عن صفات الخالق.

كما يوضح ذلك: وصية النبي الأعظم صلى الله عليه وآله إلى أبي ذر الغفاري رضوان الله عليه: (... وَ اعْلَمْ : أَنَّ أَوَّلَ عِبَادَةِ اللَّهِ الْمَعْرِفَةُ بِهِ ، فَهُوَ الْأَوَّلُ قَبْلَ كُلِّ شَيْ‏ءٍ فَلَا شَيْ‏ءَ قَبْلَهُ ، وَ الْفَرْدُ فَلَا ثَانِيَ لَهُ، وَ الْبَاقِي لَا إِلَى غَايَةٍ، فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ  وَ الْأَرْضِ وَ مَا فِيهِمَا وَ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ شَيْ‏ءٍ، وَ هُوَ اللَّهُ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ، وَ هُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ) [1] فهاهنا أول شيء بدء ببيانه النبي من معرفة الخالق هي الصفات، لأننا عادة نجهل حقائق المخلوقات فكيف بحقيقة الخالق التي يستحيل معرفتها إلا بالصفات.

وكذلك بعض جوانب الإنسان لا يمكن معرفة حقيقتها إلا من خلال الصفات كالروح والملكات النفسية. هذا إذا أردنا معرفة أهم مخلوق ألا وهو الإنسان، فكيف إذا أردنا معرفة أكمل مخلوق فحتماً سنجهل كنه حقيقته إلا من خلال صفاته بل وحتى بعض الصفات لا نعلم منها إلا الاسم كالعصمة.

وأيضاَ لا بد من انطباق الصفة على الموصوف، فهنالك صفات ذاتية للشيء وهنالك صفات إضافية فإذا أردنا إضافة صفة لشيء يلزم أن تكون الصفة مناسبة له كالشجاعة فلا يمكن اطلاقها على شخص الجبان.

 

الأمر الثالث: الوضع والإستعمال اللغوي

الوضع في اللغة إما تعييني أو تعيني، فالأول ناشئ من وضع خاص أي وضع واضع معين، والثاني ناشئ من كثرة الإستعمال بدرجة توجب الألفة الكاملة بين اللفظ والمعنى، وأما إستعمال اللفظ كما ذكره السيد محمد باقر الصدر -قدس سره- فينقسم إلى قسمين حقيقي ومجازي:

فالاستعمال الحقيقي: هو إستعمال اللفظ في المعنى الموضوع له الذي قامت بينه وبين اللفظ علاقة لغوية بسبب الوضع، ولهذا يطلق على المعنى الموضوع له إسم " المعنى الحقيقي".

والاستعمال المجازي: هو إستعمال اللفظ في معنى آخر لم يوضع له ولكنه يشابه ببعض الاعتبارات المعنى الذي وضع اللفظ له، ومثاله أن تستعمل كلمة " البحر" في العالم الغزير علمه لأنه يشابه البحر من الماء في الغزارة والسعة، ويطلق على المعنى المشابه للمعنى الموضوع له إسم " المعنى المجازي " وتعتبر علاقة اللفظ بالمعنى المجازي علاقة ثانوية ناتجة عن علاقاته اللغوية الأولية بالمعنى الموضوع له، لأنها تنبع عن الشبه القائم بين المعنى الموضوع له والمعنى المجازي.[2] انتهى.

وأما إستعمال اللفظ في المعنى المجازي فلقد أُختلف فيه -كما لا يخفى على الباحثين- في أنه هل هنالك إستعمال مجازي للفظ أم حقيقي فقط؟ فقد أفترقوا إلى فرقتين، بعضٌ ذهب إلى أن الإستعمال المجازي ثابت في اللغة، وآخرون ذهبوا إلى أن جميع الإستعمالات هي على نحو الحقيقة، أي أنه لا مجاز في اللغة كما هو إختيار السيد الخوئي -رضوان الله عليه-، ولكن المشهور بين اللغويين هو الأول.

 

الوصف الأول للعباس بن علي عليهما السلام

هنالك صفات عديدة لتلك الشخصية العظيمة ولكن أردنا البدء بالصفة المخطوطة على الراية التي تعلو قبة مرقده الطاهر ألا وهي (يا قمر بني هاشم) وتفصيل الكلام عنها في أمور:

 

الأمر الأول: معنى القمر

المعنى الحقيقي للقمر كما في معجم المعاني الجامع (القَمَرُ : جِرْمٌ سماوىٌّ صغيرٌ يدور حول كوكب أَكبرَ منه ويكون تابعاً له، ومنه القمرُ التابع للأَرض، والأَقَمارُ التي تدور حول كواكب المِرِّيخِ وزُحَلَ والمشْتَرِي).

المعنى المجازي المستعمل فيه هذا اللفظ لدى العرب هو : (حسن الوجه).

ولكن هل هنالك فرق بين قول (حسن الوجه) أو (قمر)؟ نعم هنالك فرق، وهو المبالغة في الجمال أي شديد الجمال، وذلك ثابت بالوجدان، كما ذكر المقرم في كتابه (العباس) في معنى قمر بني هاشم (...وقيل له: " قمر بني هاشم " لوضاءته وجمال هيئته وإنّ اسرة وجهه تبرق كالبدر المنير، فكان لا يحتاج في الليلة الظلماء إلى ضياء.) [3] فقصد المبالغة ظاهر وواضح.

 

الأمر الثاني: استعمال لفظ القمر

هل إطلاق لفظ (القمر) لشخصية العباس كانت بالإستعمال التعييني أم التعيني؟ والتأكد من ذلك يستدعي منا مراجعة النصوص التاريخية التي ذكرت تلك التسمية، وأول من ذكرها من المؤرخين -المولود بعد إستشهاد العباس عليه السلام قرابة الثلاثين عام- هو أبو مخنف الأزدي، فقد ذكر في مقتله (...وأول ما ولدت العباس يلقب في زمنه قمر بني هاشم...)[4] وتبعه بعض المؤرخين كأبي الفرج الاصفهاني -المتوفى سنة 356 هـ- فجاء في مقاتله (... وكان يقال له قمر بني هاشم...)[5] وكذلك ابن شهر آشوب -المتوفى سنة 588 هـ - فذكر في مناقبه  (...وكان عباس السقاء قمر بني هاشم...)[6] فالذي يظهر من عبارتهم أن الإستعمال كان تعيني.

 

ولكن الفاضل الدربندي ذكر في أسراره نقلاً عن بعض المقاتل (فلما أتاه الحسين بعد أن ناداه، رآه صريعاً على شاطيء الفرات فبكى وقال: " وا أخاه وا عباساه، الآن انكسر ظهري وقلت حيلتي"، ثم قال: "جزاك الله عني يا أخي يا أبا الفضل العباس"، قيل ثمّ أنشأ يقول:

أخي يا نور عيني يا شقيقي *** فلي قد كنت كالركن الوثيق

أيا ابن أبي نصحت أخاك حتى *** سقاك الله كأسا من رحيق

أيا قمرا منيرا كنت عوني*** على كل النوائب في المضيق...)[7]

ونقلت عنه بعض كتب المتقدمين.

فصريح هذا النص أن الإمام الحسين عليه السلام استعمل لفظ (القمر) على أخيه، ويمكن أن يقال –مجرداً عن القرائن الأخرى- أنه بحسب هذا النص يكون الإستعمال تعييني.

 

وفيه:

أولاً: سند الرواية فيه ضعف لإرسالها، ويمكن دفعه أنه في المواضيع التاريخية التي لا يترتب عليها أمر شرعي لا يضر ضعف السند إن كان المضمون تام، وإن كان هنالك نقاش في بعض مضمون النص السابق لكن يمكن دفعه ببعض التوجيهات اللغوية.

ثانياً: وقت الإستعمال هذا كان حين مصرع العباس عليه السلام، ولكن في مقابله ظاهر نقل المؤرخين أن اللفظ لم يطلق في وقت واقعة الطف فحسب، بل كان يطلق عليه قبلها وبشكل مستمر ومشهور، فقد مر علينا بالنصوص السابقة (يلقب في زمنه)،  (وكان يقال له).

ثالثاً: أن الإستعمال المجازي للفظ القمر في وصف شخص بالإستعمال التعيني أقوى من التعييني لأنه ينبأ عن أن تلك الصفة التي أستعمل لها هذا اللفظ كانت ظاهرة وبارزة للجميع حتى أصبحوا يطلقوا عليه تلك التسمية، فالإطلاق لم يأتي ليُظهر صفة، بل أُطلق لظهور صفة بشكل ملفت، بدليل أن المؤرخين ذكروا الصفة قبل ذكر لفظ (القمر)، (...وكان العباس رجلاً وسيماً جميلاً...)[8]

 

الأمر الثالث: المجازية في لفظ القمر

إن كان الإستعمال المجازي على قول المشهور واقع في اللغة فيكون إطلاق لفظ القمر على أبي الفضل العباس عليه السلام هو إطلاق مجازي، وعلى قول السيد الخوئي ومن تبعهم هو إطلاق حقيقي، ويظهر الفرق في أن لفظ القمر يكون وصفاً لشخصية العباس عليه السلام على مبنى القول الأول، أو وصف لصفة من صفات شخصيته عليه السلام على مبنى القول الثاني، ولكن لا فرق في النتيجة.

 

 

وجه آخر للمشابهة بين معنى القمر والعباس

وأما إستعمال لفظ القمر في خصوص أبي الفضل العباس عليه السلام يمكن إستفادة معنى آخر غير شدة الجمال التي تعتبر من أوصاف القمر التي ذكرها اللغويون وهو: (يدور حول كوكب أَكبرَ منه ويكون تابعًا له) فشخصية أبا الفضل عليه السلام كانت تدور حول شخصية الإمام الحسين عليه السلام كالشمس والقمر، فإمتداد نوره من شمس الحسين عليه السلام.

كما تساعد بعض النصوص على ذلك كالسبب الذي تزوج فيه أمير المؤمنين من أم البنين عليهما السلام، فقد جاء في كتاب الخصائص العباسية : قال الإمام أمير المؤمنين لأخيه عقيل، وكان نسّابة عالماً بأنساب العرب وأخبارهم: ((انظر لي امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب لأتزوجها، فتلد لي غلاماً فارساً)). وفي خبر: ((لكي أُصيب منها ولداً يكون شجاعاً وعضداً ينصر ولدي الحسين، ويواسيه في طفِّ كربلاء)).[9]

فالسبب الأساس في إيجاد أبي الفضل العباس عليه السلام هو أن يكون عضداً ومرافقاً وتابعاً لأخيه الإمام الحسين عليه السلام.

 

نص تفصيلي لوصف العباس بالقمر

هنالك نص آخر يوضح أنه عليه السلام وصف بالقمر قبل ولادته عليه السلام وقبل زواج أبيه من أمه فقد ذكر الكلباسي النجفي في خصائصه وصاحب كتاب قمر بني هاشم عن أم البنين عليها السلام أنها رأت رؤيا قبيل خطبة أمير المؤمنين عليه السلام لها، فتقول مخاطبة أمها : (يا أُمّاه، رأيت في منامي البارحة كأنّي جالسة في روضة غنّاء، ذات أشجار مثمرة، وأنهار جارية، وكان الوقت ليلاً لكن ليلة مقمرة، حيث السماء صاحية، والنجوم ساطعة، والقمر تامّاً، وقد أرسل القمر أضواءه الفضيّة على الروضة وأكسبها جمالاً فائضاً، وبهجةً رائعة.

وكنت أنا في تلك اللحظات أُفكر في عظمة الله خالق السماء والأرض، ومبدع الشمس والقمر، فبينا أنا كذلك وإذا بالقمر قد انقضّ من كبد السماء وهوى نحو الأرض ووقع في حجري، وهو يتلألأ نوراً يغشي الأبصار ويبهر العيون، فتعجّبت من ذلك كثيراً! ولكن زاد تعجّبي عندما رأيت ثلاث نجوم زواهر تنقضّ من السماء نحو الأرض وتسقط في حجري أيضاً، وهي تتلألأ نوراً وتشعّ سناً وضوءاً، وإذا بهاتف يهتف بي حينئذ ويقول:

بـشراكِ فـاطمةٌ بالسادةِ الغررِ

                ثـلاثةِ أنـجمٍ والـزاهرِ القمرِ

أبـوهم سـيّدٌ فـي الخلقِ قاطبة

                بعدَ الرسولِ كذا قد جاءَ في الخبرِ) [10]

 

والخلاصة مما تقدم:

أن الصفة علامة يعرف بها الموصوف وطريق إلى معرفته. أن وصف العباس عليه السلام بالقمر كان بالوضع أو الإستعمال التعيني. أن وصفه بالقمر كان منذ ولادته بل قبلها. أن وجه المشابهة بين العباس والقمر ليس شدة الجمال فقط بل معنى آخر للقمر وهو أنه كوكب يدور حول كوكب أكبر منه ويكون تابعاً له.

إبراهيم السنجري

____________________________________________________

مكارم الأخلاق ص458 دروس في علم الاصول ج1 ص71 العباس للمقرم ص122 مقتل ابي مخنف الأزدي ص176 مقاتل الطالبيين ص 56 مناقب آل أبي طالب ج3 ص256 أسرار الشهادات ج2- ص506 مقاتل الطالبيين ص56 الخصائص العباسية ص22 الخصائص العباسية ص30  - قمر بني هاشم ص8 -مع اختلاف يسير-

 

المرفقات