بقلم: علي الخفاجي
وهب الله تعالى للإنسان حنجرة ليست كالحناجر، ولساناً ليس كبقية الألسنة، ووهبه وسيلة للتعبير عن أفكاره ومشاعره من خلال تركيب حروف لتكون منها لغة يتفاهم بها مع أبناء جنسه، حتى أصبح كائناً ناطقاً من بين الخلائق ومستنطقاً لبقية المخلوقات بعقله وفكره، ومن حكمته سبحانه أنْ جعل الأصوات مختلفة لاتشبه بعضها، وهو الذي لاتشتبه عليه الأصوات، فهو خالقها ومبدعها، كما جعلها تتميز عن بعضها بالجاذبية والجمال ليظهر قدرته جلَّ وعلا في بديع صنعه، وليكون لها تأثير في الأسماع.
وعندما نتحدث عن إمكانية صاحب الصوت المميَّز في تقليد الأصوات أو في التنوع بالأداءات، فقلَّما يمتلك قارئ ما المهارة والإبداع في الجميع، فمن خلال التجربة لوحظ إخفاق البعض في التلاوة بعد أن اتجه للإنشاد أو المراثي، أو فعل العكس، وقليلٌ من وُفِّق في أكثر من أداء، ولعلَّ السبب أنَّ القارئ عندما يريد أن يختصَّ ويبدع في مجال مُعيَّن فإنَّ ذلك يحتاج إلى استحضار منه لأصول ذلك الفن، وحضور قلبي لغرض تصوير النص وتطبيق القواعد النغمية الخاصة به من استهلال وصعود ونزول وختام دون أن يعرض له خلل في الانتقالات والنبرات، وهو مايسمى بـ(النشاز) إضافة إلى توفر عنصر الارتكاز الذي تظهر فيه معالم الأداء بالشكل الصحيح ومعها يتوضَّح نوع النغم(المقام)، ولأنَّ كلَّ أداء له نغميَّته فقد تختلط الأنماط وتضيع مفاتيحها -لو صحَّ التعبير- ممَّا يجعل المتلقي يتنبِّهُ إلى أنَّ القارئ خرج عن المطلوب أو حصل مايشبه الضبابية التي لاتتميز بها تلك الأنماط، فالمقامات النغمية هي نفسها تستعمل في كلِّ الأداءات، ولكنَّ النصوص مختلفة، فلكلِّ نصٍّ محتواه وصورته التي يجب الحفاظ عليها، لذا استنكر الشارع المقدس أن تحاكي التلاوة القرآنية نغمية الغناء، كما ليس صحيحاً أن تتأثر بالإنشاد وغيره، ولو أردنا تقريب الفكرة فإنَّ هذه المقامات مثل الأدوات المعروفة التي يستعملها النجار والسمكري فهي نفسها تقريباً، ولكنَّ المنتجات والصور مختلفة، لذا ترى البعض ينتقد من يجمع بينهما خشية ضياع مهارة أحدهما أو كليهما، وبمناسبة الحديث عن القارئ للنص القرآني، فإنَّ القارئ الذي يمتلك ثقة واعتداداً بقدراته الحقيقية لايكون عرضة للاختبار في المواقع التي ينتظر فيها المتلقي القارئ المستعد والكفء ليستمع له، فقد تجدُ قارئاً مُجيداً في المحافل ولكنه لايخوض تجربة الاشتراك في المسابقات أو يُجيد التلاوة ولايُجيد الإنشاد أو المراثي أو قراءة الأذكار والدعاء، لأنَّ جميع ذلك مبنيٌّ على الثقة بالقدرات الحقيقية والحرص عليها، أتذكر يوماً أحد القراء ممَّن نال الفوز بالمراتب الأولى في مسابقات دولية كثيرة اعتذر عن قراءة الدعاء عندما عرض عليه ذلك، ولم ينقص ذلك من قدراته وسمعته شيئاً، كما لاتوجد جهة تجبر القارئ بغير ما يُجيد، فليس ذلك من المعقول أنْ يحصل، ويدخل في ذلك التمجيد وقت السحر في شهر رمضان، فله أسلوبٌ ونمطيةٌ عهدها الناس.
وخذوا مثالاً آخر على الرثاء كما في قراءة(المقتل)الذي نجح في نمطية عهدها القاصي والداني ولم ينجح من حاول ابتكار نمطية مختلفة عنها.
فالذي يقبل تعدد الأنماط -حقيقة- هي التلاوة بالدرجة الأولى، ومع ذلك لكلِّ نمطية مدرسة تحتفظ بأصولها، وأنا لاأؤمن بنظرية الاشتراك لأجل الاشتراك أو الاشتراك لأجل نيل الثواب حتى لو كان خارج الاختصاص، ونيل الثواب له مجاله ولكن خارج المشاركات الاستعراضية التي يتصدى لها المميزون، ومثل هذا يقع في المشاركات الخاصة بالختمات المرتلة والمحافل الكبرى، كما لاأؤمن بالبقاء على قارئ أو مؤذن واحد كما كان في الماضي، إنما أؤمن بالتعدد مع الحفاظ على النمطية، وأتمنى أن يضع كل قارئ بنظر الاعتبار أذواق الناس ونقدهم ويقسموها على قسمين: قيِّمة تنطلق من المحبة والحرص، وليست ذات قيمة، وأن لايجافي القارئ أهل النظر والاختصاص ومن يقدم له النصح ويهندس له حنجرته بما ينسجم مع القوانين والأصول الفنية.
اترك تعليق