دعبل الخزاعي .. شاعر ملأ الناس وشغل السلطة

 

لم تلعب السياسة دوراً في ضياع شعر شاعر كما لعبته في ضياع شعر دعبل, فقد فرضت هذا الضياع على التاريخ فرضاً، فرغم أن التاريخ يقول أن دعبلاً قال الشعر وهو صبي ولم ينقطع عنه منذ بدأ يقوله إلا أن ما وُجِد في ديوانه لا يصل إلى النتيجة المنطقية لهذا القول.

يقول الجاحظ: (أن دعبلاً قال الشعر مدة ستين سنة ماذرّ شارق إلا قال شعراً), وإذا عرفنا إن دعبلاً عاش 98 سنة فقد كان لا بد من وجود ديوان يفوق ديوانه (المطبوع) بعدة مرات.

ومع اعترافنا أن الشعر لا يُقاس أي لا يكون قليله دليلاً على كثيره, وقصيدة أو اثنتان لا تكفي أن تظهر حقيقة الشاعر وأن تكشف لنا عن تميّزه, إلا أن شاعراً مثل دعبل لحقيق أن نحكم عليه أنه من كان من فحول الشعراء باعتراف الكتاب والمؤرخين، وأكبر الظن إن تائيته العصماء الشهيرة لم يحفظها له المؤرخون إلّا بعد أن تناقلتها الألسن وأنشدتها الأفواه كونها آية في سمو الفكر وصفاء السريرة وقوة العقيدة، ولكن لماذا شعر دعبل بالذات؟

هل كان دعبل شاعراً مغموراً خافياً على شعراء عصره؟ التاريخ يقول العكس!!

فهذا المرزباني يقول: (دعبل بن علي: كان شاعراً مجيداً)، ويقول عنه السمرقندي (له فضل وبلاغة زيادة على الوصف وكان متكلماً، أديباً، شاعراً، عالماً), ويقول عنه الذهبي في ميزانه: (دعبل بن علي الخزاعي الشاعر المفلق), وقال عنه ابن حجر في لسانه: (تعاطى أول أمره الأدب فمهرَ فيه وقال الشعر الرائق), وقال عنه ابن خلكان: (كان شاعراً مجيداً), وقال عنه أبو الفرج في أغانيه: (شاعر متقدّم مطبوع), وقال مثله الحموي في معجمه, كما شهد له شعراء عصره بهذا التفوّق, فهذا البحتري يفضله على مسلم بن الوليد وهو أمير الشعراء في وقته وعنده (أنه يجاري أبا نؤاس, وقد بزّه)!! إذن كان دعبل شاعراً مجيداً متقدِّماً على شعراء عصره، ويبقى السؤال لماذا لم يحفظ لنا التاريخ من شعره إلّا النزر القليل؟

المطّلع على ما تبقى من ديوان دعبل يعرف إجابة هذا السؤال.. ففي العصر الذي كان الشعراء يتحفّزون للوصول إلى قصر الخلافة وتقبيل الأرض بين يدي الخليفة ومدحه نفاقاً وتملقاً لكي يحصلوا على بعض الهدايا والهبات, لم يسلم من هجاء دعبل خليفة ولا وزير ولا قائد, ويدلنا قول عبد الله بن طاهر وهو قائد عباسي كبير على ذلك عندما عُوتب على السكوت عن دعبل؟ فقال (أترى دعبلاً يخشاني وهو لم يخشَ المأمون ولا غيره من الخلفاء)!!

أجل كان دعبل من أولئك المجاهدين الأبطال الذين يقفون بوجه العواصف السياسية الهوجاء كالجبل الأشم، صلب العقيدة، راسخ الايمان، لا يخشى في إطلاق كلمة الحق أي أحد, ولا يبالي من كان خصمه حتى ولو كان الخليفة نفسه, ولم ينحرف دعبل عن هذا المبدأ طيلة حياته حتى أطلق كلمته العظيمة التي سجّلها له التاريخ بحروف الخلود: (إني أحمل خشبتي ستين سنة ولم أجد من يصلبني عليها) فهو يدافع بلسانه ما استطاع ولو دعيَ لحمل السلاح لما تأخر, بل ويصّرح بذلك في تائيته الشهيرة بقوله:

فإن قرّبَ الرحمنُ من تلكَ مدَّتي   ***   وأخّرَ من عمري لطولِ حياتي

شفيتُ ولــــم أتركْ لنفسيْ رزيّةً   ***   وروّيتُ منهم منصــلي وقناتي

فدعبل الذي ولد في الكوفة والتي هي قبلة الثورات ضد السلطة الأموية ومرجع كل من أقضّ مضاجع الخلافة الأموية والعباسية على السواء ومهوى أفئدة الشيعة في كل دعوة ظهرت لآل محمد قد رضعَ حبّ أهل البيت وهو صغير ونهل منه وشبّ عليه شأنه شأن خزاعة ولكن دعبل انصرف بكل جوارحه نحو هذا الحب ولم يشغله عنه شاغل فيقول:

في حبِّ آلِ المصطفى ووصيهِ   ***   شغلٌ عن اللــذاتِ والقيناتِ

إنّ النشيــــــــدَ بحبِّ آلِ محمدٍ   ***   أزكى وأنفعُ لي من القنياتِ

فاحشِ القصيدَ بهم وفرِّغ فيهم   ***   قلباً حشوتُ هــــواهُ باللذاتِ

واقطعْ حِباله من يريدُ سواهمُ   ***   في حبِّه تحـــــللْ بدارِ نجاةِ

ألِف دعبل مجالس الكوفة بما فيها من علم وأدب ثم انتقل إلى بغداد, ولما كانت الحرب دائرة بين الأمين والمأمون ذهب إلى مكة للحج ثم تحوّل إلى مصر ومرّ بالشام إلى العراق ومنها إلى خراسان وفي ذلك الوقت لقي الإمام الرضا فأنشده (مدارس آيات) وأخيراً ينزل البصرة ومنها إلى الأهواز لتكون نهاية حياته الضخمة الطويلة.

كان دعبل شاعراً ملء إهابه، عاصر ستة من خلفاء بني العباس وله مع كل واحد منهم قصص وقصص فضلاً عن قصصه مع وزرائهم وقوادهم, ففي كل قصة يظهر دعبل مخازيهم ومساوئهم وجرائمهم ويجاهر بفضائل أهل البيت وينادي بحقهم المغتصب, تبدأ قصته مع الخلفاء مع هارون حيث يستمع الخليفة إلى إحدى جواريه وهي تغني قصيدة له فلما سمعها الرشيد قال: لمن هذا الشعر؟ قيل: لدعبل بن علي وهو غلام نشأ في خزاعة فأمر بإحضار عشرة آلاف درهم وخلعة من ثيابه ودفعه مع مركب إلى خادم من خاصته وأمره بأن يدفعها كلها له ففعل الخادم, ولكن هل مدح دعبل هارون ؟ كلا إن هذا العطاء لم يغيّر رأي دعبل في هارون, فهارون بقي في نظره هو ذلك المجرم الذي اضطهد أهل البيت ونكّل بهم وجرائمه أكثر من أن تحصى ودعبل ليس من أولئك الشعراء الذين لا يثبتون على عقيدة واحدة والذين تكون عقيدتهم في المال أينما حل فما رأي دعبل في أفعال الرشيد ؟؟ يقول دعبل:

أربعْ بطوسٍ علــــــى قبرِ الزكيِّ إذا   ***   ما كنتَ تربعُ من دينٍ على وطــــــرِ

قبرانِ في طــــوس خيرُ الناسِ كلهمُ   ***   وقبرُ شرِّهمُ هذا مـــــــــــــــــن العبرِ

ما ينفعُ الرجسَ من قربِ الزكيِّ ولا   ***   على الزكيِّ بقربِ الرجسِ من ضررِ

هيهات كلُّ امرئٍ رهـــنٌ بما كسبتْ   ***   له يداهُ فـــــــــــــــخذْ ما شئتَ أو فذرِ

ولا يحتاج هذا الشعر إلى تعليق ولا يُخفى ما تُشكّل هذه الجرأة على الخلافة العباسية لمن يتذوق الشعر على أصوله وغيره, فالمقصود واضح وهو إظهار الظلم الذي نال الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) من قبل هارون وليس نسبة الرجس ببدعة على هارون عند دعبل فهي كلمة الحق التي لابد أن يقولها مهما كان الثمن.

ولما بويع إبراهيم بن المهدي للخلافة وكان مغنياً ولاهم له سوى الطرب والشراب كان دعبل ينظر إلى هذا الأمر بحيرة وهو لا يعدم وسيلة يظهر بها ما آلت اليه أمور المسلمين فيقول:

أنى يكـــــون وليس ذاك بكائنٍ   ***   يرثُ الخلافةَ فاسقٌ عن فاسقِ

إن كان إبــراهيم مضطلعاً بها   ***   فلتصلــــحنْ من بعدهِ لمخارقِ

ولتصلحنْ من بعد ذاك لزلزلٍ   ***   ولتصلحـــــنْ من بعدهِ للمارقِ

ويخاطب المأمون بقوله:

إنّي من القومِ الذينَ سيــــــوفُهم   ***   قتلتْ أخـــــــــــــاكَ وشرَّفتكَ بمقعدِ

شادوا بذكرِكَ بعدَ طولِ خمولِه   ***   واستنهضوكَ من الحضيضِ الأوهدِ

وكانت خزاعة قد ناصرت المأمون على الأمين لما رأت ميله إلى الشيعة ورفعه شعار العلويين في بداية أمره, ومات المأمون فماذا كان رأي دعبل في المعتصم؟؟ ذلك ما يتضح من هذه الأبيات:

وقام إمــــامٌ لم يكنْ ذا هــــــــــــدايةٍ   ***   فليسَ له ديـــــــــــنٌ وليسَ له لُبُّ

وما كانت الأنبــــــــــــاء تأتي بمثلِهِ   ***   يُملّك يــــــــوماً أو تدينُ له العُربُ

لقد ضاعَ ملكُ الناسِ إذ ساسَ ملكَهم   ***   وصيفٌ وأشناسٌ وقد عظمَ الكربُ

كان من الطبيعي أن تناصبه السلطة العباسية أشد العداوة فمثل دعبل لامجال لاستمالته بالمال فطورد وشُرِّد وضاقت الأرض به وامتدت أيامه حتى آخر خلافة المتوكل ويسمع المتوكل دعبلاً وهو يهجو المعتصم حتى بعد موته ويعرّض به:

قد قلـــتُ إذ غيبوهُ وانصرفوا   ***   في شـرِّ قبرٍ لشرِّ مدفونِ

إذهب إلـى النارِ والعذابِ فما   ***   خلتــك إلّا من الشياطينِ

ما زلتَ حتى عقدتْ بيعة مَنْ   ***   أضرَّ بالمـسلمين والدينِ

وفي مقابل هجائياته المتكررة لبني العباس كانت مدائحه ومراثيه تترى لأهل البيت (عليهم السلام) وبكاؤه لهم بكاء المفجوع:

ألمْ ترَ أنّي من ثلاثيـــــنَ حِجَّةٍ   ***   أروح وأغدو دائمَ الحســـراتِ

أرى فيئهم في غيرِهم مـتقسِّماً   ***   وأيديهمْ من فيئــــــهمْ صفراتِ

فكيف يفوز الإنسان برضا الله من غير حبهم ودون البراءة من أعدائهم؟؟؟

فكيفَ ؟ ومن أنّى يطالبُ زلفةً   ***   إلى اللهِ بعد الصومِ والصلواتِ

سوى حبِّ أبناءِ النبيِّ ورهطه   ***   وبغضِ بني الزرقاءِ والعبلاتِ

وكان لسيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) نصيبٌ وافر من مراثي دعبل يقول في تائيته:

أفاطمُ لو خلتِ الحسيــــــــــنَ مجدّلآ   ***   وقد ماتَ عطشــــاناً بشطِ فراتِ

إذاً للطـــــــــــــمتِ الخدَّ فاطمُ عندَه   ***   وأجريتِ دمعَ العينِ في الوجناتِ

أفـــاطمُ قومي يا ابنةَ الخيرِ واندبي   ***   نجومَ سمـــــــــاواتٍ بأرضِ فلاةِ

قبورٌ بجنبِ النهرِ من أرضِ كربلا   ***   معرَّسَهم فيها بشـــــــــــطِ فـراتِ

توفوا عطاشى بالفراتِ فليـــــــتني   ***   توفيتُ فيهمْ قبلَ حينِ وفــــــــاتي

وذكر ياقوت الحموي بعض قصيدة قالها في رثاء الحسين وقد ضاع باقيها أو (ضُيَّع):

رأسُ ابـنُ بنتِ محــمدٍ ووصيهِ   ***   يا للرجــــــالِ على قناةٍ يُرفعُ

والمسلمـونَ بمنظرٍ وبمسمــــعٍ   ***   لا جازعٌ مـــن ذا ولا متخشّعُ

أيقظتَ أجفـاناً وكنتَ لـها كرى   ***   وأنمتَ عيناً لم تكنْ بكَ تهجعُ

كحُلتْ بمنظركَ العيـونُ عمايةً   ***   وأصمَّ نعيُكَ كـــــلَّ أذنٍ تسمعُ

ما روضةٌ إلّا تمنّـــــــــتْ أنّها   ***   لك حفرةٌ ولخطِ قبرِكَ مضجعُ

وتمتد أيام دعبل ويزداد في شعره ما يُعرضه للأهوال فيلقى القبض عليه ومع ذلك لم يمت ولكنه لم يهدأ أيضاً كان لا يألو جهداً في نصرة أهل البيت والدفاع عنهم بيده ولسانه ما استطاع فكانت محبته لأهل البيت قد ملأت عليه كل تفكير وكان كيفما فكّر ففيها يفكّر, وبقي وقد شارف على المائة مستمراً على جلاده المتواصل حتى آخر رمق في حياته وظل يتنقل بين البلاد والأمصار صادحاً بعقيدته وكان يرجو دولة العدل التي تتحقق بقيام الإمام المهدي:

خروجُ إمامٍ لامحالةَ واقعٌ   ***   يقومُ على اســــمِ اللهِ والبركاتِ

يميّز فينا كـلَّ حقٍّ وباطلٍ   ***   ويجزي على النعماءِ والنقماتِ

وكان لآخر هذا الليل من فجر ووجد دعبل من يصلبه على خشبته وكان ذلك على يد أحد جلاوزة العباسيين وذلك عام (246) للهجرة فمات شهيداً وهو يردّد:

أعدَّ للهِ يــــــــــــــــومَ يلقاهُ   ***   دعبـــــــل ان لا إله إلاّ هو

يقولها مخلصاً عســـاهُ بها   ***   يرحمه في القيــــــــامةِ اللهُ

الله مولاهُ والنبيُ ومــــــن   ***   بعدهمــــــا فالوصـيُّ مولاهُ

وفــاطمٌ بضعة النبيِّ ونـجـــــــــــــلاها من المرتضى وسبطاهُ

خمسةُ رهطٍ دعا الإله بهمْ   ***   آدمٌ من ذنـــــــــبهِ فأرضاهُ

محمد طاهر الصفار 

gate.attachment

: محمد طاهر الصفار