موقف الإمام موسى بن جعفر الكاظم "عليه السلام" من الانحرافات الفكريّة

 

ان دور أهل البيت "عليهم السلام"  كان يمثل في أن يرصدوا السَّاحة الاسلامية؛ أي كيف تتحرّك..؟ ، وإلى أين تتَّجه ..؟ ، وما هي السَّلبيات التي تدخل في عمق الفكر الإسلاميّ، من خلال تأسيس حركة فوضى في الوعي الثّقافيّ الاسلامي..؟ ، وما هو الإسلام في العقيدة والشَّريعة والمنهج وحركة الحياة..؟ .

يمكن القول ان الإمام موسى بن جعفر الكاظم "عليه السلام" عاش حياةً متحركةً في الواقع الإسلاميّ، بسبب الوضع السّلطويّ الّذي امتدَّ من عهد المنصور العباسي إلى هارون الرَّشيد العباسي، حيث تميز ذلك العهد بانفتاح على تطوّرات وحركات متنوّعة التي انطلقت من أكثر من موقعٍ من مواقع الهاشميّين، وتمثَّلت فيها أكثر من مجزرة تقترب في بعض مشاهدها من مجزرة كربلاء المقدسة.

يبدو ان الحركة الثقافيّة آنذاك، كانت تنطلق لتثير الكثير من علامات الاستفهام والتعجب حول مفردات العقيدة من جهة، وخطوط الشَّريعة الاسلامية من جهةٍ أخرى، فضلا عن الواقع السّياسيّ من جهةٍ ثالثة. وذلك كانت تلك المدة لا تخلو من الاقصاء والعنف السّياسيّ والأمنيّ، لأنَّ السّلطة الّتي كانت تتمثّل في حكام بني العباس، على سبيل المثال لا الحصر "المنصور، والمهدي، والهادي، والرّشيد"، حيث انها كانت تخشى الاتّجاهات والحركات المضادَّة، ولذلك، كانت تقصي وتعنف في المواجهة إلى حدِّ الوحشيَّة في التَّعذيب والقتل وإزهاق الأرواح .

وعليه ان الامام موسى بن جعفر الكاظم "عليه السلام" قد عاش في هذه المدة التاريخية المهمة، واستطاع أن يملأها علماً وفكراً ، وأن يرصد كل  الانحرافات الفكرية الّتي كانت تفرض نفسها على الساحة الفكر الإسلاميّ، ليصحّحها ويقوّمها في الاتجاه الصَّحيح، ومنها:

اولا :- صفات الله.

رصد الامام "عليه السلام" الانحرافات التي كانت تثار في الوسط الإسلاميّ حول عقيدة التوحيد، حيث كانت هناك حركة منحرفة تتحدَّث عن الله "عزوجل" و صفاته: هل هو جسم كبقيَّة الأجسام؟، أو هو جسم لا كالأجسام؟، أي أنّه جسم من نوع آخر لا نعقله، وليس كالأجسام الّتي يعرفها النّاس في الموجودات الماديّة؟

قد عالجها، بأكثر من أسلوب وفكرة، اذ بين الامام "عليه السلام" قائلا:" إنَّ الله أعلى وأجلّ وأعظم من أن يبلغ كنه صفته، فصفوه بما وصف به نفسه، وكفّوا عمّا سوى ذلك" ([1]). يبدو ان الامام "عليه السلام" يريد أن يبين أنَّنا لن نستطيع أن نعرف الله في صفاته إلا من خلاله، لأنّه لا يعرف الله حقَّ معرفته إلا هو، فهو الّذي أحاط بذاته، ولم يحط بذاته أحد، لأنَّ الله "عزوجل" هو المطلق الّذي لا حدود لأيّة صفة من صفاته، ولهذا، فإنَّ المحدود، مهما كانت عظمته، لا يستطيع أن يفهم حقيقة الله.

في الوقت نفسه، إنَّ الإمام "عليه السلام"  يؤكد لنا، إذا أردتم أن تعرفوا الله في صفاته، فاعرفوه بما وصف به نفسه، فإنّ ما وصف به نفسه هو الّذي يمكن لنا أن نطلّ من خلاله على الحقيقة الكامنة في صفات الله، أمّا أنتم، فقد تصفون الله من خلال ما تتخيَّلونه وتنظرونه.

ثانيا:- مصدر العقيدة ...القرآن انموذجا.

يؤكد لنا الإمام "عليه السلام" إذا أردتم أن تأخذوا عقائدكم، فخذوها من القرآن، والسنَّة أكّدها القرآن في قوله تعالى: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾. يقول الحسن بن عبد الرّحمن الحمّاني: "قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر، إنَّ هشام بن الحكم زعم أنَّ الله جسم ليس كمثله شيء"[2]، أيان لله "عزوجل" جسم ليس كالأجسام الّتي يراها النّاس في الموجودات الماديّة، ولكنه جسم من نوع آخر. وتابع هشام كلامه فقال: "عالم سميع بصير قادرٌ متكلِّم ناطق، والكلام والقدرة والعلم يجري مجرى واحداً، ليس شيء منها مخلوقاً"[3]. فقال الامام "عليه السلام":" قاتله الله، أما علم أنَّ الجسم محدود"، يبدو ان كلام الامام هنا موجَّه إلى الفكرة لا إلى الذّات، ثم اكمل الامام قوله "والكلام غير المتكلّم"، أي لا يمكن أن يكون الكلام صفةً في الذات، بمعنى أن يكون داخلاً في تكوين الذّات، كما يظهر من كلام هشام، "معاذ الله وأبرأ إلى الله من هذا القول، لا جسم ولا صورة ولا تحديد، وكلّ شيء سواه مخلوق، إنّما تكون الأشياء بإرادته ومشيئته من غير كلام ولا تردّد في نفس ولا نطق بلسان" [4]،  أي ان الامام "عليه السلام عمل على تصحِّيح هذه الفكرة المنحرفة الّتي تبتعد عن صفاء التّوحيد في صفات الله.

ثالثا :- تصحيح في الأدعية والزّيارات

هناك حقيقة الا وهي أنَّ الأدعية تمثِّل الثّقافة الروحيَّة التي تنطلق فيها المفاهيم الإسلاميَّة، فعندما ندعو الله ونتحدّث عنه وعن صفاته، وعن النبيّ وصفاته، وعن الإمام وصفاته، فذلك يمثِّل بمجمله منظومة المفاهيم الإسلاميَّة، وقد يقول بعض النّاس عن الله أو الحديث عن أنبياء الله وأوليائه، أو الحديث عن بعض الخطوط الرّوحيّة والأخلاقيّة والفكريّة، بأنّها تمثّل منهجاً إسلاميّاً في المفاهيم الإسلاميّة المتَّصلة بهذا الجانب أو ذاك.

ولذلك، يجب علينا أن لا نأخذ من الأدعية إلاّ ما ثبت لنا صحّته، إمَّا عن طريق القرآن الكريم، أو من النّبيّ الاكرم محمد "صلى الله عليه واله" أو عن ما ورد عن الأئمَّة الاطهار "عليهم السلام" ، وذلك  ان الأدعية، وحتى الزّيارات للائمة المعصومين، فهي بحاجةٍ إلى توثيق، كما نوثِّق الأحكام الشّرعيَّة التي تحتاج إلى بحثٍ وتمحيص، كذلك عندنا مفاهيم إسلاميّة تحتاج إلى ذلك، يمكن القول أنّ تراثنا ، سواء في باب الواجبات، أو باب المستحبّات، أو باب الأدعية، أو باب الزّيارات وغيرها ، لا بدَّ من أن نخضعه للدّراسة العلميّة، حتى لا يدخل إلينا مفهوم غير إسلاميّ.

يروي عبد الله بن يحيى الكاهلي، قال: "كتبت إلى أبي الحسن في دعاء: الحمد لله منتهى علمه، فكتب إليَّ: لا تقولنَّ منتهى علمه، فليس لعلمه منتهى، ولكن قل منتهى رضاه"[5]. أي نحن يجعل علم الله محدَّداً فيما بين البداية والنّهاية، ولكن الامام بين الحقيقة أنَّ علم الله يتحرَّك في خطّ اللانهاية، لأنّه العلم اللامحدود، فيجب علينا ان نقول منتهى رضاه، لأنَّ رضاه يتَّصل بالمخلوقين في درجات تتحرّك حتى تبلغ منتهاها، ولا يتعلَّق ذلك في ذاته وفي صفته.

رابعا:- مناقشة آراء المجسّمة

يؤكد يعقوب بن جعفر الجعفري عن الإمام موسى بن جعفر الكاظم، قال: "ذكر عنده قومٌ يزعمون أنَّ الله تبارك وتعالى ينزل إلى السَّماء الدّنيا" فقال "عليه السلام": "إنَّ الله لا ينزل ولا يحتاج إلى أن ينزل، إنَّما منظره في القرب والبعد سواء، لم يبعد منه قريب، ولم يقرب منه بعيد، ولم يحتج إلى شيء، بل يحتاج إليه، وهو ذو الطّول، لا إله إلاّ هو العزيز الحكيم. أمَّا قول الواصفين: إنّه ينزل تبارك وتعالى فإنَّما يقول ذلك من ينسبه إلى نقصٍ وزيادة ،وكلّ متحرّك محتاج إلى من يحرّكه أو يتحرّك به، فمن ظنَّ بالله الظّنون هلك، فاحذروا في صفاته من أن تقفوا له على حدٍّ تحدّونه بنقصٍ أو زيادةٍ أو تحريكٍ أو تحرّكٍ أو زوالٍ أو استنزالٍ أو نهوضٍ أو قعود، فإنَّ الله جلَّ وعزَّ عن صفة الواصفين، ونعت النّاعتين، وتوهّم المتوهّمين، وتوكّل على العزيز الرّحيم الذي يراك حين تقوم وتقلّبك في الساجدين" [6]. يمكن القول أنَّ الإمام الكاظم "عليه السلام" رصد الانحراف في تصوّر الله "عزوجل"، وكيف عمل على وضع المسألة في نصابها التَّوحيديّ بالدَّرجة التي جرّدت الله "عزوجل" عن كلّ صفات، واكد الامام الكاظم في قوله هذا للنّاس أن لا يخوضوا في صفاته بما لا يملكون معرفته وعمقه، بل يجب المسلمين أن يصفوه بما وصف به نفسه.

سادسا: مفهوم الرِّزق والقضاء

يبن لنا الإمام الكاظم "عليه السلام" موقف الإنسان المؤمن من الله عندما يعيش بعض الضّيق في رزقه، وعندما يعيش المشكلة في قضائه، وقد يتضايق من بعض القضاء الَّذي يمثِّل لوناً من ألوان القسوة في حياته.

يروي صفوان الجمَّال عن الامام موسى بن جعفر الكاظم "عليه السلام"، قال: " ينبغي لمن عَقِلَ عن الله أن لا يستبطئه في رزقه ، ولا يتّهمه في قضائه "[7]، يمكن ان نقول ان الامام الكاظم اراد ان يقول لنا ان من وعى وعرف الله، واستطاع أن يعرف صفاته في حكمته وقدرته ورحمته أن لا يستبطئه في رزقه ، اي إذا أبطأ عليك الرّزق، فلا تشعر بالسَّلبيّة في ذلك، لأنَّ الله عندما يقدِّر أو يوسِّع عليك رزقك، ذلك ينطلق من معرفته بمصلحتك، ولا يتَّهمه في قضائه أي لا يتَّهمه بالظّلم، ولا بأيِّ شيءٍ لا يتناسب مع حكمته ورحمته وعظمته ولطفه ورعايته لعباده.

سابعا:- صفات الشيعي الموالي لمدرسة أهل البيت "عليهم السلام"

من هو الشّيعيّ الّذي يمثّل النّموذج الّذي يحبّه الله ورسوله وأهل بيته؟ من هو يا ترى الشيعي الذي يحمل روح سلمان وروح المقداد وعمار بن ياسر وحجر بن عدي الكندي؟ في حديث عن الامام موسى بن جعفر الكاظم "عليه السلام" وهو يوجِّه كلامه إلى الشّيعة..!! قال: "ليس من شيعتنا من لا تتحدَّث المُخدَّرات بورعه في خدورهنّ، وليس من أوليائنا من هو في قرية فيها عشرة آلاف رجلٍ فيهم من خلق الله أورع منه "[8]،  أي اراد ان يؤكد لنا الامام "عليه السلام" ان من يريد ان يصل إلى مرتبةٍ من الورع عن الحرام في قوله وفعله وعلاقاته ومواقفه، فينتشر أمره بين النّاس، حتى إنَّ المخدَّرات المحجَّبات اللاتي لا يتحركن في المجتمع، تصلهنَّ أخبار ورعه، بحيث يتحدَّثن عن ورعه.  ثم اكد مره اخرى لو كان عندنا عشرة آلاف رجل، وفيهم شيعيّ، فلا بدَّ من أن يكون هذا الشّيعيّ أورع من هؤلاء كلِّهم.

ومن هنا، نعرف أنَّ التشيّع ليس كلمةً، وليس عاطفةً، وليس مجرّد دمعة. ولكنَّ التشيّع هو كما قال الإمام الباقر "عليه السلام" : "فوالله، ما شيعتنا إلا من اتّقى الله وأطاعه، وما كانوا يعرفون يا جابر إلا بالتّواضع والتخشّع والأمانة وكثرة ذكر الله... وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء" [9] .

 

 

ثامناً: العلاقة بين المسلمين

يروي عن محمد بن سنان، عن عمار بن مروان، قال الإمام موسى بن جعفر الكاظم "عليه السلام":" اصبر على أعداء النعم، فإنك لن تكافي من عصى الله فيك بأفضل من أن تطيع الله فيه"[10] يبدو ان الامام يشير إلى الّذين يحسدون غيرهم في قوله، لأنَّ الله أعطاهم من النّعم ما لم يعطهم، ويحقدون عليهم لأنَّ الله جعل لهم فضلاً لم ينعم عليهم به في الوقت نفسه، هؤلاء الَّذين يعادون نعم الله عليك، فيتعقّدون منها، ويحاولون أن يثيروا الحقد في أنفسهم ضدَّك، فإنَّ من يحقد عليك، إنما يحقد على نعمة الله الّتي أنعمها عليك، مما أعطاك الله من علمٍ أو كرمٍ أو خلقٍ أو ما إلى ذلك، فهو قد عصى الله فيك، فحقد عليك وحسدك، فأطع الله فيه بأن تكظم غيظك، فتكون من المحسنين. والله تعالى يقول في كتابه الكريم﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ[11].

وعن أبي حمزة قال سمعت الامام موسى بن جعفر الكاظم "عليه السلام" يقول: "من زار أخاه المؤمن لله لا لغيره، يطلب به ثواب الله وتنجّز ما وعد الله عزَّ وجلّ ، وكّل عزَّ وجلَّ به سبعين ألف ملكٍ من حين يخرج من منزله حتى يعود إليه، فينادونه: ألا طبت وطابت لك الجنَّة، تبوّأت من الجنّة منزلاً "[12]، يبدو ان الامام الكاظم قسم الزّيارة على قسمين؛ الاولى تزور أخاك لغرضٍ في نفسك، أي زيارة مصلحيّة نفعيّة، أو لتحصل على مكسبٍ من خلال زيارتك له، اما الثانية هي قربةً إلى الله "عزوجل" من أجل أخوّة الإيمان بينك وبينه حيث وكّل الله به سبعين ألف ملكٍ من حين يخرج من منزله حتى يعود إليه.

 

جعفر رمضان

 

[1] للمزيد من التفاصيل ينظر . الكليني ، الكافي ، تحقيق، علي اكبر الغفاري، (طهران: المطبعة الحيدرية ، 1363ش)، ج1، ص .102

[2] المصدر نفسه، ص106

[3] المصدر نفسه

[4] المصدر نفسه

[5] محمد باقر المجلسي ، بحار الأنوار، الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار (طهران: احياء الكتب الإسلامية )، ج ٤ ، ص٨٣.

[6] العاملي، الانتصار" أهم مناظرات الشيعة في شبكات الإنترنت"،(بيروت: دار السيرة، 2000)،  ج2 ، ص102

[7]الكليني ، المصدر السابق، ج 2، ص 61.

[8] حسين البروجردي، جامع أحاديث الشيعة ،( قم: مطبعة العلمية،1399ه)،  ج ١٤ ،ص ٢٦٩

[9] الكافي ، المصدر السابق، ، ج 2، ص 74.

[10]  المصدر نفسه، ج 2، ص 109.

[11] سورة آل عمران ، الآية  134.

[12] هادي النجفي،  موسوعة أحاديث أهل البيت "عليهم السلام"،(بيروت: دار احياء التراث العربي، 2002)، ج ٤ - الصفحة ٤٤٠

المرفقات