الإمام الباقر(عليه السلام) قدوة الإنسانية وإمام المسلمين

من الأمور الأساسية التي ميزت الشريعة الإسلامية أنها حينما أسست مبادئ العقيدة, وأمرت المسلمين بسلوك الطريق الموصل إلى رضوان الله تعالى, بالتزام الطاعات, واجتناب المحرمات, فإنها- في الوقت ذاته- قدمت من يجسد هذه المهام والمسؤوليات على أرض الواقع, وهم رسول الله وأهل بيته (صلوات الله عليهم) . والإمام محمد بن علي الباقر(عليه السلام) هو أحد هؤلاء القادة والمجسدين للشريعة المقدسة,  وخامس أئمة أهل بيت العصمة والطهارة الذين خصهم الله تعالى بالعلم والفضل, ووهبهم الدرجات العلى من الكمال الإنساني.

 وقد استأثر الإمام الباقر(عليه السلام) باهتمام صاحب الشريعة الغراء قبل مولده, فقد روي أن النبي(صلى الله عليه وآله) قال لجابر الأنصاري "يوشك أن تبقى حتى تلقى وليدا لي من الحسين يقال له (محمد) يبقر العلم   بقرا, فإذا لقيته فأقرئه مني السلام " . حتى أدركه جابر واستقى من علومه, وكان يقول له "يا باقر العلم لقد أوتيت الحكم صبيا".

وكانت الفترة التي عاشها الإمام الباقر(عليه السلام) في ظل حكم بني أمية قد تفشى فيها التخلف الاجتماعي في البلاد الإسلامية, وكان الولاة ينهبون الأموال ويظلمون العباد, وكانت البلاد الإسلامية تعيش حياة الجاهلية, مبتعدة عن روح الإسلام, وفي ظل هذه الأوضاع كان الإمام الباقر(عليه السلام) الملجأ والملاذ الآمن لأمة جده المصطفى(صلى الله عليه وآله) بما يحمله من خلق وسيرة عظيمين, تحكي خلق وسيرة جده(صلى الله عليه وآله), ليكون المثل الأعلى لمصلحي المجتمع الإسلامي وقيادة الأمة نحو التكامل الإنساني.

فقد كان للإمام الباقر(عليه السلام) الفضل في استقلالية الاقتصاد والنقد الإسلامي من تبعية الدول المعادية للإسلام, وذلك حينما أشار على عبد الملك بن مروان بسك العملة الإسلامية, على الرغم من العداء الذي كان يبطنه عبد الملك بن مروان لأهل البيت(عليه السلام),إلا أنه كان يلجأ إلى الإمام(عليه السلام) حينما تدلهم عليه الأمور, فيجود عليه بالنصح والتوجيه, ويحل له ما أشكل عليه من الأمور.

وورث الإمام الباقر(عليه السلام) الكمال من آبائه(عليه السلام), وتأثر بشخصية أبيه زين العابدين: سيرة وسلوكا وعبادة وانقطاعا عن الدنيا وتوجها إلى الله تعالى. يقول الإمام الصادق(عليه السلام) متحدثا عن أبيه الباقر(عليه السلام): كان أبي كثير الذكر, لقد كنت أمشي معه وهو يذكر الله, وآكل معه الطعام وهو يذكر الله, ويحدث القوم وما يشغله عن ذكر الله. وقد أبطأ ذات ليلة فأتيت المسجد أطلبه, فإذا هو ساجد في المسجد, وليس في المسجد غيره, فسمعت حنينه وهو يقول "سبحانك اللهم أنت ربي حقا حقا سجدت لك يا رب تعبدا ورقا, اللهم إن عملي ضعيف فضاعفه لي"

ويعد الإمام الباقر من مؤسسي جامعة الفقه والحديث وبقية العلوم في مسجد جده (صلى الله عليه وآله), مستفيدا من هدوء الأوضاع السياسية, وضعف حكام بني أمية, فقد كانت الدولة الأموية في نهايتها واهية البنيان, وانشغل حكامها بألوان الترف واللهو والمجون, فضلا عن الخلافات السياسية العميقة بينهم والتي أدت إلى تصفية بعضهم بعضا. فاستكمل الإمام الباقر(عليه السلام) ما بدأه أبوه زين العابدين(عليه السلام) من بناء الأمة فكريا وعقائديا وأخلاقيا. فقصده رجال الفكر من المذاهب الإسلامية كافة, للاستفادة من علومه والانتهال من فيض معارفه, أمثال: أبان بن تغلب وزرارة بن أعين ومحمد بن مسلم الثقفي وحمد بن عيسى بن النعمان, المعروف بـ(مؤمن الطاق) والفضيل بن يسار وجابر الجعفي.

 يقو ل عبد الله بن عطاء المكي "ما رأيت العلماء عند أحد قط أصغر منهم عند أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين, ولقد رأيت الحكم بن عيينة, مع جلالته في القوم, بين يديه كأنه صبي بين يدي معلمه"

وأما السلطة الأموية, والمتمثلة بهشام بن عبد الملك في حينه, فلم يكن ليهدأ له بال وهو يرى الآلاف من علماء المسلمين وهم ينهلون من علومه, وقد ملك قلوب الناس بأخلاقه وحسن سيرته, وارتقى منصب المدافع عن شريعة المسلمين, وهو يبين للناس ما اشتبه عليهم من أمور دينهم, ويناظر أهل الأديان والملل على اختلافهم حتى صرح كبير النصارى بقوله "لقد جئتموني بأعلم مني وأقعدتموه معي حتى فضحني وأبان عجزي".

ولم يكن رد الجبابرة والظلمة يوما على من يفوقونهم في خصال الكمال, أن يقل عن التآمر عليه بالتصفية والقتل, فأوعز هشام بن عبد الملك إلى عامله بالمدينة أن يدس سما في سرج ويقدمه هدية للإمام الباقر(عليه السلام) . وما إن ركب الإمام السرج حتى أحس بحرارة السم, وهو ينتقل إلى جوفه, وبقي أياما يصارع الألم والمرض, حتى انتقلت روحه إلى بارئها,

 فسلام على الإمام المسموم محمد بن علي الباقر(عليه السلام) يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيا.

الكاتب: السيد نبأ الحمامي

gate.attachment