حفيد السبط الشهيد الإمام محمّد الباقر بن الإمام عليّ السجّاد زين العابدين، بن الإمام الحسين بن الإمام عليّ بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليهم.
قال فيه أبو نعيم الأصفهاني في (حلية الأولياء): هو الحاضر الذاكر، الخاشع الصابر، أبو جعفر محمد بن علي الباقر، كان من سلالة النبوة، وممن جمع حسب الدين والأبوة، تكلم في العوارض والخطرات، وسفح الدموع والعبرات، ونهى عن المراء والخصومات.
يكنى بأبي جعفر, وجعفر هو ولده وهو الإمام الهمام جعفر الصادق عليه السلام.
وإذا أُريد التمييز بينه (عليه السلام) وبين الإمام الجواد (عليه السلام) قيل: أبو جعفر الأوّل، وعن الإمام الجواد عليه السّلام بأبي جعفر الثاني.
وكان أشهر ألقابه عليه السلام «الباقر»، لقّبه بذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله، حيث روي بطرق عدّة أنه صلى الله عليه وآله قد بشّر جابر بن عبد الله الأنصاري بأنّه يدرك زمان الباقر عليه السلام ، وسمّاه له ولقّبه ، وذكر بأنّه يبقر العلم بقراً ، وأنّ الله يهب له النور والحكمة ، وأبلغه سلامه.
روى الطبري عن أبان بن تغلب ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : « جاءني جابر بن عبد الله وأنا في الكتّاب ، فقال لي : اكشف لي عن بطنك ، فكشفت له عن بطني فقبله ، ثم قال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله أمرني أن أقرئك السلام ».
وروى جابر عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، قال : « يا جابر ، يوشك أن تبقى حتى تلقى ولداً من ولدي ، يقال له محمد بن علي بن الحسين ، يبقر العلم بقراً ، فإذا رأيته فاقرأه مني السلام. قال جابر رضي الله عنه : فأخّر الله تعالى مدّتي حتّى رأيت الباقر، فأقرأته السلام عن جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله ».
وروى المديني عن جابر ، أنّه قال للباقر عليه السلام وهو صغير : رسول الله صلى الله عليه وآله يسلّم عليك ، فقيل له : وكيف ذاك ؟ قال : كنت جالساً عنده والحسين في حجره ، وهو يداعبه ، فقال : « يا جابر ، يولد له مولود اسمه علي ، إذا كان يوم القيامة نادى مناد : ليقم سيد العابدين ، فيقوم ولده ، ثم يولد له ولد اسمه محمد ، فإن أدركته يا جابر ، فأقرئه منّي السلام ».
وفي بعض الأحاديث : وإن لقيته فاعلم أنّ بقاءك بعده قليل ، فلم يعش جابر رضي الله عنه بعد ذلك إلاّ قليلاً ، وذلك من أعلام النبوة.
وقالوا في معنى يبقر العلم بقراً الواردة في حديث رسول الله صلى الله عليه وآله : أي يفجّره تفجيراً ، ويظهره إظهاراً.
قال ابن حجر الهيثمي في صواعقه: أبو جعفر محمد الباقر، سمي بذلك: من بقر الأرض، أي شقها وأثار مخبآتها ومكامنها، فلذلك هو أظهر من مخبآت كنوز المعارف، وحقائق الأحكام والحكم واللطائف ما لا يخفى إلا على منطمس البصيرة، أو فاسد الطوية والسريرة، ومن ثم قيل فيه:
هو باقر العلم وجامعه، وشاهر علمه ورافعه، صفا قلبه، وزكا علمه وعمله، وطهرت نفسه، وشرف خلقه، وعمرت أوقاته بطاعة الله، وله من الرسوم في مقامات العارفين ما تكل عنه ألسنة الواصفين، وله كلمات كثيرة في السلوك والمعارف لا تحتملها هذه العجالة.
وقال الصبان في إسعاف الراغبين: هو صاحب المعارف، وأخو الدقائق واللطائف، ظهرت كراماته، وكثرت في السوالك إشاراته، ولقب بالباقر، لأنه بقر العلم، أي شقه، فعرف أصله وخفيه. وقال أبو زهرة: كان رضي الله عنه مفسراً للقرآن، ومفسراً للفقه الإسلامي، مدركاً حكمة الأوامر والنواهي، فاهماً - كل الفهم - لمراميها، وكان راوية للأحاديث، يروي أحاديث آل البيت، ويروي أحاديث الصحابة من غير تفرقة، ولكمال نفسه، ونور قلبه، وقوة مداركه، أنطقه الله تعالى بالحكم الرائعة، ورويت عنه عبارات في الأخلاق الشخصية والاجتماعية، ما لو نظم في سلك لتكون فيه مذهب خلقي سامٍ، يعلو بمن يأخذ به إلى مدارج السمو الإنساني.
ونقل في بعض الأحاديث أنّ آباء الباقر عليهم السلام قد أبلغوه سلام جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله أيضاً ، ففي وصية أمير المؤمنين علي إلى ولده الحسن عليهما السلام : أنّه أخذ بيد علي بن الحسين ، وقال : « وأمرك رسول الله صلى الله عليه وآله أن تدفعها إلى ابنك محمد بن علي ، فأقرئه من رسول الله ومنّي السلام ».
وقال أبو جعفر الباقر عليه السلام : « أجلسني جدّي الحسين بن علي في حجره ، وقال لي : رسول الله صلى الله عليه وآله يقرئك السلام. وقال لي علي بن الحسين : أجلسني علي بن أبي طالب في حجره ، وقال لي : رسول الله صلى الله عليه وآله يقرئك السلام ».
وفي حديث عن أمير المؤمنين علي عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله : أنّه أقبل على الحسين عليه السلام ، فقال : « سيولد محمّد بن عليّ في حياتك ، فأقرئه منّي السلام ».
وله عليه السلام ألقاب أخرى, وهي:
الشبيه (إذ كان يشبه رسول الله صلّى الله عليه وآله، فهو ربع القامة رقيق البشرة), ضامر الكشح، حسن الصوت, الشاكر لله، والهادي، والأمين.
وهو خامس أئمّة أهل البيت عليهم السّلام, وُلد عليه السلام يوم الجمعة وقيل: السبت أو الاثنين أو الثلاثاء غرّة رجب، أي أوّل يوم منه سنة سبع وخمسين من هجرة النبيّ صلّى الله عليه وآله، وهو الأشهر، وقيل: سنة ستٍّ وخمسين، أو ثمانٍ وخمسين.
وكان مولده المبارك في دار أبيه الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السّلام، في مدينة الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله.
اُمّه هي ابنة عمّ أبيه، فاطمة بنت الإمام الحسن المجتبى عليه السّلام, تُكنّى اُمَّ عبد الله، وقد رُويت لها كرامات، وذكرها الإمام جعفر الصادق عليه السّلام فقال: كانت صدّيقة، لم تُدرَك في آل الحسن عليه السّلام امرأة مِثلُها.. فيكون الإمام الباقر عليه السّلام هاشميّاً من هاشميَّين، وعلويّاً من علويَّين، وفاطمياً من فاطميَّين، وأوّلَ هاشمي اجتمعت له ولادة طيّبة من الإمامين الهمامين الحسن والحسين صلوات الله عليهما.
ومن إخوته عليه السلام: زيد الشهيد، عبد الله الباهر، عمر الأشرف، الحسين الأكبر، عبد الرحمن، عبيد الله، سليمان، الحسن، الحسين الأصغر، عليّ الأصغر، محمّد الأصغر.
ومن أخواته عليه السلام: فاطمة، عليّة، خديجة، أمّ كلثوم.
ومن زوجاته: أمّ فروة بنت القاسم بن محمّد بن أبي بكر، وأمّ حكيم بنت أسد بن المُغيرة الثقفيّة.
ومن أولاده: الإمام جعفر الصادق عليه السّلام، وعليّ، وإبراهيم، وعبيد الله، وعبد الله.
ومن أصحابه ورواته: زُرارة بن أعيَن، وأبو بصير الأسديّ، وفُضَيل بن يسار، ومحمّد بن مسلم، ويزيد بن معاوية العِجليّ، وجابر بن يزيد الجُعفيّ، وحُمران بن أعيَن، وبُكير بن أعيَن، ومحمّد بن إسماعيل بن بزيغ، وأبو هارون المكفوف، والكُميت بن زيد الأسديّ.. وغيرهم.
وكانت مدّة إمامته عليه السلام تسعة عشر عاماً.
عاش مع جدّه الإمام الحسين عليه السّلام أربع سنين، فشهد واقعة كربلاء وأسر مع أبيه وعمّات أبيه والنساء والأطفال وأخذوا إلى الكوفة ثمّ إلى الشام، ثمّ إلى كربلاء فالمدينة، وكان ذلك سنة 61 هجريّة.
وعاش عليه السلام في ظلّ أبيه الإمام زين العابدين عليه السّلام ثمانيةً وثلاثين عاماً, وفي سنة 95 هجريّة استُشهد أبوه الإمام عليّ السجّاد عليه السّلام، فقام بتجهيزه ودفنه.
وقد عاصر جملة من حكام الجور قبل إمامته وبعد إمامته, وإليك ذكرهم:
معاوية بن أبي سفيان ـ يزيد بن معاوية ـ معاوية الثاني بن يزيد ـ عبد الله بن الزبير ـ مروان بن الحكم ـ عبد الملك بن مروان .
فهؤلاء قبل إمامته, أما الذين عاصرهم بعد إمامته عليه السلام, فهم:
الوليد بن عبد الملك ـ سليمان بن عبد الملك ـ عمر بن عبد العزيز ـ يزيد بن عبد الملك ـ هشام بن عبد الملك .
تصدى إمامنا الباقر عليه السلام للرد على أصحاب الشبهات والتشكيكات التي طرحت من قبل علماء مذاهب وأديان مختلفة ثبّت من خلالها ركائز مدرسة أهل البيت عليهم السّلام في العقيدة والفقه والقيم الأخلاقيّة، وسواها, فكان العلماء بشتى انتماءاتهم المذهبية والدينية يذعنون لمقامه العلمي الذي لا يدانى.
نقل الشبلنجي في نور الأبصار عن صاحب الإرشادات قوله: لم يظهر أحد من ولد الحسن والحسين من علم الدين والسنن، وعلم القرآن والسير، وفنون الأدب، ما ظهر من أبي جعفر الباقر، روى عن معالم الدين بقايا الصحابة ووجوه التابعين والسير، وسارت بذكر علومه الأخبار، وأنشد في مدائحه الأشعار، فمن ذلك ما قاله " مالك بن أعين الجهني " من قصيدة يمدحه فيها:
إذا طلب الناس علم القرآن * كانت قريش عليه عيالا
وإن فاه ابن بنية النبي * تلقت يداك فروعاً طوالا
وكان لإمامنا الباقر عليه السلام دور مهم في رد مكيدة ملك الروم, إذ علّم (عليه السّلام) عبدَ الملك بن مروان سكَّ الدراهم والدنانير الإسلاميّة، وكان ذلك سنة 76 هجريّة. (راجع القصة في كتاب المحاسن والمساوئ).
هذا, وقد أحضر إمامنا الباقر هو وابنه الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام إلى الشام قهراً مِن قِبل هشام بن عبدالملك، ليكون تحت رقابة السلطة الأمويّة.
فتحين الفرصة حتى أمر إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك أن يدس السم إلى الإمام عليه السلام, فتناوله الإمام عليه السلام فأثّر في بدنه وأخذ يدنو من الموت وهو متوجه إلى الله تعالى ويتلو القرآن الكريم، وبينما لسانه مشغول بذكر الله إذ وافاه الأجل المحتوم، ففاضت نفسه المطمئنة إلى ربها راضية مرضية، وكان ذلك يوم الاثنين السابع من ذي الحجّة سنة 114 هجريّة على المشهور، وعمره الشريف يومذاك سبعة وخمسون عاماً, فقام وصيه وخليفته الإمام أبو عبد الله جعفر الصادق بتجهيز جثمان أبيه فغسله وكفنه بما أوصى به وصلى عليه، ونقل الجثمان العظيم بالتهليل والتكبير وقد حفّت به الناس يلمسون نعش الإمام ويبكون لمصابه.
ودفن الإمام الباقر عليه السّلام في بقيع الغرقد جنب أبيه علي بن الحسين وعم أبيه الحسن بن علي عليهما السلام في القبة التي فيها العباس بن عبد المطلب.
وكان له قبر شاخص تؤمّه جموع المؤمنين، حتّى هُدم في الثامن من شوّال سنة 1344هـ ,فيما هُدم من قبور بقيّة الأئمّة عليهم السّلام على أيدي الحركة التكفيرية الوهابية, فإنا لله وإنا إليه راجعون.
الكاتب: السيد مهدي الجابري
اترك تعليق