المنائر الذهبية

حمل الفن العراقي المعاصر منذ مطلع القرن العشرين الروح الإنسانية الشاملة ، اذ استمدت الاعمال الفنية مقوماتها الجمالية من إرث الفنان الحضاري والإسلامي العريق الى جانب بيئته المحلية المعاصرة ، اذ حاول الكثير من المبدعين ان يؤسسوا لاستلهام التراث في اعمالهم الفنية معتمدين على رموزهم الحضارية والدينية المتعددة التي تزخر بها ارض الرافدين .

واللوحة اعلاه بفضائها المغلق واسلوبها الفريد هي احد الاعمال الفنية المميزة في استلهام التراث المحلي والرموز الدينية الاسلامية وهي من المنجزات الابداعية  للرسام والنحات العراقي ( غازي السعودي ) والذي يعد احد مبدعي الجيل الستيني في الفن التشكيلي العراقي المعاصر ، وهي تحمل عنوان ( المنائر الذهبية ) ، وقد انجزت في العام 1995 بتقنية الزيت على القماش بأبعاد 100سم×80سم  .

 

في هذا المنجز الرائع استطاع غازي أن يخفف من رتابة المشهد بالمعالجة الجمالية لمكوناته المزدحمة ، حيث تخلل فضاء اللوحة كتل ومساحات لونية لا يكاد المشاهد أن يفرق بين وحداتها إلا حين يمعن النظر فيها ، فقد اعتلى المشهد في جزئه الأعلى شكل لقبتين باللون الأصفر الذهبي ، وتحيط بهما مئذنتين احدهما أحيطت بهالة من النور ، وألاخرى تجاور الشمس التي مثلها الفنان بدائرة صفراء اعلى اليسار ، ثم نجد وسط أسفل المنجز مساحة بلون ارجواني غامق بشكل مربع مربوط بحزام متقطع من المربعات الحمر ،تزدحم من حولها أقواس تمثل أبواب ونوافذ إسلامية تتوزع على الجانب الأيمن من المنجز وفي مركزه ، و نجد ايضاً شكلاً لهلالٍ أحمر موجود وسط الحافة اليسرى للوحة يخرج بقربه خطان ينتهيان بالشمس التي تعتليه .   

وظف الفنان الرموز الإسلامية الممثلة بشكل الكعبة الشريفة ( المربع الأرجواني ) والقباب والمآذن والاهلة والأبواب والنوافذ الممثلة بالأشكال المقوسة ، وهي من أهم مقومات العمارة الإسلامية ، وقام بتوزيعها بأسلوب جمالي من خلال التنظيم الإيقاعي للأشكال معتمداً على التناظر فيما بينها كما في أشكال القبتين والمئذنتين والشمس والهالة التي تعتلي إحدى المآذن والدائرة الحمراء ونظيرتها الشمس ، فضلا عن أشكال الأبواب في أسفل المشهد الذي حقق فيها توازناً ووحدةً بين كتل المشهد اللونية من خلال تنوعها وتوازنها .

لجأ الفنان إلى أسلوب التكرار في أشكاله فقد ظهرت الأشكال بشكل ثنائيات كما في شكل القبتين  والمئذنتين  والأبواب المكررة، ما عدا شكل الكعبة الشريفة في الوسط الذي مثل مركز الثقل في المنجز ، حيث مثل بحجم كبير استقر وسط أسفل المشهد وهو يحمل دلالة دينية تأتي من خلال قدسية هذا المكان الذي لا يمكن أن يتكرر بوصفه بيت الله الحرام وقبلة المسلمين ، ويأتي اهتمام الفنان بهذه الرموز سعيا منه في إحياء التراث الإسلامي وربطه بالبعد المكاني المعاصر.

  استخدم الفنان اللون الأصفر الذهبي في إبراز معالم الرموز الاسلامية بوصفه لوناً مبتكراً مستخدماً في الفن الإسلامي  مثل شكل القبتين الذي والمآذن التي تشير الى مرقد الإمامين الكاظمين (عليهما السلام) وما لهما من مكانة وقدسية دينية واجتماعية وإنسانية في حياة المسلمين ، حيث يحمل هذا الرمز دلالات روحية مبعثها الطقوس دينية والعبادات المشحونة بحقائق ومعانٍ وقيم إنسانية وروحية  تتمثل بتضحية أهل البيت (عليهم السلام) في سبيل الدين والعقيدة الإسلامية .

الفنان قد حقق رمزية الشكل من خلال رمزية اللون ،وبإجراء مقارنة بين شكل الهلال الذي يقابل قرص الشمس وبين شكل الكعبة الذي يقابل المرقد ، هناك صورة رمزية جميلة أوجدها الفنان ،فكما يستمد الهلال ( الجزء المنير من القمر ) نوره من الشمس وهي مصدر الضياء ،كذلك يستمد المرقد قدسيته من الكعبة الشريفة بوصفها مركز للعبادة وإقامة الشعائر والطقوس الإسلامية .

لو تأملنا في زحام هذا المشهد التصويري بألوانه واشكاله المختلفة لوجدنا ان الفنان قد استثمر اللون بعلاقاته المتنوعة بالخط والشكل والعمارة من خلال توظيفه للرموز الإسلامية في تعبيره عن مدلولاته الفكرية والانفعالية والعقائدية ، بإفصاح جمالي وحس مرهف تختلف عمن سواه من ابناء جلدته الفنية ، مما منح المنجز قيمة تشكيلية  وأخرى جمالية رمزية استثنائية ، فقد افلح السعودي بربط مضمون العمل الروحي بالبعد الجمالي للرموز الإسلامية التي لها مكانتها وقدسيتها في نفس الإنسان المسلم .  

 

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

  

المرفقات