توكلت على الله

تقتضي اشتراطات الحياة البشرية ميل الانسان نحو التحول والحركة التطورية الدؤوبة للابتعاد عن السكون السلبي الى الحركة الايجابية ، باستنفاركل معطيات النفس " حسية كانت اومعنوية " ، والفن التشكيلي هو احد الطرق الممهدة لانطلاق واستنفار كوامن النفس البشرية " بشقيها المادي والمعنوي " التواقة دوما للحركة والتميز، فهو " الفن التشكيلي " لغة عالمية لها عمومية الفن وخصوصية البيئة كتعبير ثقافي حضاري يقدم فقرات الحياة الإنسانية بعاداتها وتقاليدها وأساليبها في الميادين المختلفة ، محاكيا نفوس الاخرين باحثاً في ذات الوقت عن شعور جمعي مشترك ، ليسجل و يكتب آثار الأمم وحضاراتها وما يميزها عن غيرها ، ليرسم لها خصوصية تميزها عن الاخرى كما فعل الفنان المسلم بجعله الفن احد المرايا العاكسة لمبادئ الاسلام وجماليات فكره القويم وتمييزه بفرادة اسلوبه عن فنون الامم والحضارات الاخرى ، بغوره دواخل المتلقين المتذوقين ومحاكاته أفئدتهم واستشعارهم للجمال الالهي الحق من خلال سعيه لتحقيق ثنائية الشكل والمضمون في منجزاته الفنية الابداعية.

اللوحة من المنجزات الابداعية للفنان العراقي الموصلي " راكان دبدوب " ، وهو من فناني جيل الرواد في الفن التشكيلي العراقي .

ولد راكان عام 1941 بمدينة الموصل شمال العراق ، وقد ابتدأ هاويا لفن الرسم في المرحلة الابتدائية  ثم التحق في وقت لاحق بمعهد الفنون الجميلة ببغداد وتخرج منه عام1961 ليلتحق باكاديمية الفنون الجميلة في روما ليتواصل بعد ذلك بدراسة عامة للفنون التشكيلية ، تحقيقا لامنيته بان يعيش فنه ويشترك في خضم الحركة الفنية مع فناني العالم لرفع مستوى الحركة الفنية في العراق .

ركز الفنان جل اهتمامه بمتانة بنيان لوحاته ، فقد تميزت بقوة التأسيس وترابط عناصرها ، مما حدى ببعض النقاد والمتذوقين الى القول بان دبدوب " يرسم كأنه ينحت " ، وبالفعل فقد كانت اعماله المنفذة وعلى وجه الخصوص اواخرالعقد الثمانيني واوائل التسعيني من القرن المنصرم من القوة والكثافة اللونية وتنوع التقنيات ما يوحي للناظر بانها ذات بعد ثالث.

صور الفنان في المنجز اعلاه رموزا تعبيرية لبعض من المقدس في الشارع العراقي ، بمزيج مركب من الخط العربي الغير منتظم بقاعدة وبعض من الزخارف الهندسية المحيطة بقبة ذهبية اللون كأنها احد قباب المراقد المقدسة لأهل بيت النبوة " عليهم السلام " ، فقد توسط اللوحة شكل مقوس لبوابة إسلامية مفتوحة الطرف الاعلى مثلت بلون اقرب للسمائي ، وقــد برز بداخلها شكل لقبة ذهبية اللون توسطت اللوحة ، مرتكزة على قاعدة مربعة الشكل مرتبطة بيمين البوابة ، ميزها الفنان بلون الطابوق المفخور، تتوسطها نقوش كتب فيها عبارة " توكلت على الله " وبالوان متعددة  ، فضلا عن كتابات اخرى احاطت بالبوابة وبالخط الكوفي تحديدا وهي " الله الرحمن" من اليمين و " الله علم العلم " من الجهة اليسرى وقد ميزهما الفنان بلون احمر ذي ظلال من اللون الرصاصي المائل للزرقة ، أما فضاء اللوحة فقد ميزه الفنان  باللون الأرجواني في ثلثيه العلويين، في حين  قسمت قاعدة البوابة الثلث السفلي إلى قسمين، فكان باللون النيلي المائل إلى السواد القاتم .

   يتجلى للمشاهد المتذوق من خلال المشهد التصويري اعلاه أن الفنان وظف ثلاثة رموز إسلامية ، هي القبة الذهبية التي احتلت مركز السيادة وسط اللوحة ، والبوابة الإسلامية المحيطة بها ، فضلاً  عن توظيف الخط العربي في المنجز بطريقتين احداهما الخط كرمز واخرى كجانب تزييني جمالي أحيط بالبوابة واسفل القبة ممثلا قاعدتها  .

  فالقبة الذهبية رمزاً إسلامياً يمثل المرقد الذي اختص به أهل البيت " عليهم السلام " وما يمثلونه بطهارتهم ونقاءهم وقربهم من الله سبحانه وتعالى ، في تحمل دلالة دينية روحية تتمثل في لون القبة الذهبي الذي يحقق الراحة والطمأنينة بوصفها نقيضاً لقوى الشر والظلام الذي مثلها الفنان بالالوان القاتمة المعتمة ، فضلا عن ارتباط القبة بالمفاهيم الدينية والاجتماعية المشتركة بين المسلمين ، حيث إقامة الصلاة والعبادات الأخرى في الزيارات للاماكن المقدسة  مستلهما " الفنان " ذلك الرمز من الواقع البيئي المحلي ليعبر به عن نفسه ومجتمعه .

   أما البوابة الإسلامية فقد حملها الفنان معنى رمزي من خلال موقعها في المنجز الذي احتل الوسط وجعلها بين مساحتين الأرجواني المعتم والسمائي الفاتح ، لتتبدو للمشاهد كأنها الوسيط بين عالمين متناقضين يمثلان " الظلمة والنور "، وجعلها  أداة وصل بين العالم الدنيوي والسماء من خلال تركه خلفية القبة السمائية اللون مفتوحة من الاعلى لتحقق الطمأنينة والسكينة وراحة النفس لمن يتواصل مع الله جل جلاله.

اما  الخط العربي فقد عمد الفنان الى توظيفه في قاعدة القبة من خلال رقعة خط عليها عبارة " توكلت على الله " وما لهذه العبارة من مضامين روحية ومادية كثيرة ، جاءت بتكامل مع العبارات الروحانية المحيطة بالبوابة ، والتي أشارت إلى احد أسماء الله الحسنى وهو الرحمن  للدلالة على سعة رحمته ، وعبارة " الله علم العلم " وهي دعوة الفنان المسلم للنهوض بواقع العلم  في الإسلام والمسلمين بوصفهم أصحاب القرآن  ومنه يستقون علمهم وعلم ما قبلهم وما بعدهم ، في حين كانت عبارة "الله الحق " اسفل اللوحة تحمل دلالة  أن الله هو الحق وهو أحق بالعبادة ، لذا جاءت هذه العبارات لتحمل وظيفة رمزية تؤكد الجانب الروحي للإسلام المتمثل بقوة الإسلام وشموليته وقدرته على منح الراحة للنفوس ،كذلك لم يهمل الفنان الجانب الجمالي للخط العربي حيث جعله بمثابة شريط زخرفي أحيط بالبوابة وهذا مستلهم من الوظيفة الزخرفية في الفن الإسلامي بشكل عام ، حيث استخدم الفنان المزخرف الخط والزخرفة لتزيين واجهات العمارة الإسلامية كالمساجد والأضرحة الدينية المقدسة ، ليصبح بذلك التكوين العام للوحة وما يحمله من قيمة تشكيلية بعناصره المجتمعة هو اللغة البصرية الجمالية والوسيلة المثلى لايصال العقيدة الاسلامية الى الاخروالتأثير به وبالمحصلة تعميم الهوية الإسلامية على الحضارات والامم الاخرى .

سامر قحطان القيسي

المرفقات