الأزرية... واحة في تخوم التضاريس

إذا كان للملحمة أن تعبر عن ارتباطها بالحاضر ونقل الحس التاريخي الملحمي إلى الأجيال فلابد من توفّر الحقائق التاريخية التي لا تخضع للأهواء والخرافات وأن لا تكتنفها الأساطير والموضوعات، فالملحمة تمثل للأمة وجودها التاريخي وصراعها من أجل كرامتها ومسيرتها الحضارية، وإثبات حقها وتدعيم مواقفها وأحداثها.

إنها الالتحام بين الحاضر والماضي لخلق هدف إنساني يكون مجسداً لما يحمله المجتمع من قيم ومبادئ ومعتقدات وليس لخلق حالة من الزهو الذاتي الفارغ الذي تمثله الكثير من الملاحم التي اختلطت فيها الحقائق بالخرافات، وجسدتها شخصيات اختلف في وجودها من عدمه، والتغنّي ببطولات وأمجاد قومية وقبلية ضائعة في ظلمات التأريخ وتيه الصحراء، من التبجّح بالأنساب، والغلو بالمحامد والمدائح الذي يضاهي الخوارق، والتفاخر بالغزو والسلب وغيرها.

إننا أمام ملحمة حقيقية توفّرت فيها الشروط الكاملة للملحمة حيث ارتبطت حوادثها بحياتنا وتأريخنا وديننا، وقد توحّد فيها الموضوع وتسلسلت الأحداث وتعدَّدت الصور والوقائع والحقائق التاريخية بألفاظ رصينة وتراكيب تنقّلت بين الرقة والقوة على بحرٍ واحد وإيقاع جميل منساب، ورغم خلوها من عنصر الأسطورة وحالة (الإدهاش) الذي عبر عنه أرسطو بأنه: (مستحب دائماً) والذي اعتمدت عليه الملاحم كثيمة دائمة، إلا أن هذه الملحمة مثّلت بمجملها أوج الفن الملحمي التاريخي الذي ينتصر للحق والعقيدة ويمجد المبادئ السامية والأخلاق العظيمة والصفات الفاضلة التي حملها أهل البيت (عليهم السلام) في مقابل نزوع الملاحم الأخرى إلى تمجيد القوة والبطش.

الأُزرية...

تُعدّ الأزرية آية في الفن الملحمي، ومفخرة من مفاخر الشعر العربي، بل معجزة من معاجزه، لم يسبقها إلى مثلها في طول نفسها سابق، ولم يلحقه في روعة أُسلوبها لاحق. جمعت إلى جانب المتانة والجزالة ورقة المعاني ودقة التعبير وتركيز الفكرة وقوة الحجة وسلاسة البيان وسلامة اللفظ والاستدلال المتين على العقيدة الحقة والمناحي الأخلاقية ومدح الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وآله الطاهرين (عليهم السلام) والتركيز على الحق المغتصب لأمير المؤمنين (عليه السلام) في الولاية المنصوص عليها من الله ورسوله وظلامته، إلى جانب ذكر الكثير من الحقائق والقصص في التاريخ الإسلامي وبخاصة صدر الاسلام.

اشتهرت في الآفاق واقتناها روّاد الأدب والمعرفة وحفظها أهل المنابر والخطباء وخلدت شاعرها في الطبقة الأولى من شعراء العربية، إنها القصيدة الأزرية أو (ألفية الأزري) التي أربت على الألف بيت والتي تعد ملحمة شعرية أرّخَت أهم حقبة من حقب التاريخ الإسلامي ومثّلت رأي الشيعة الإمامية في النبوة والإمامة كاملاً، كما تضمّنت الكثير من المباحث الكلامية وإقامة الحجج عليها في باب الإمامة، تُغني بجملتها عن مجلدات ضخمة، ولا شك أن تركيز الفكرة واختصار العرض وإيجاز الدليل وتلخيص الوقائع ودقة التعبير، كل ذلك لا يحصل بالنثر كما يؤديه الشعر مضافاً الى أن للشعر تأثيره الكبير في النفوس لإقناعها وتوجيهها فهو أكثر أثراً في الجدل من النثر. والألفية على قافية واحدة وهي (الهاء) وبحر واحد وهو (الخفيف)، وهي على طولها ونسقها فإنك لا تجد بين أبياتها ضعفاً أو هبوطاً عن مستواها العالي.

محمد كاظم الأزري

أما شاعرها فهو الشيخ محمد كاظم ابن الحاج مهدي بن مراد بن مهدي بن إبراهيم بن عبد الصمد بن علي الأزري البغدادي التميمي، من فحول شعراء القرنين الثاني عشر والثالث عشر، وقد جاء لقب الأزري من جدهم محمد بن مراد بن المهدي بن إبراهيم بن عبدالصمد بن علي التميمي البغدادي المتوفى في سنة (١١٦٢هـ)، وهو أول من لقّب بـ (الأزري) من هذه الأسرة لأنه كان يتعاطى بيع الأزر المنسوجة من القطن والصوف، وآل الأزري من أشهر بيوتات بغداد الثرية. وقد اشتهر من هذه الأسرة في العلم والأدب العديد من الأعلام منهم الشيخ كاظم، والشيخ محمد رضا، والشيخ يوسف الأول، والشيخ مسعود، والشيخ مهدي، والشيخ محمد كاظم الأزري صاحب الملحمة.

وقد ذكر هذه الأسرة السيد الأمين في أعيان الشيعة (ج٤٣ ص١٠١) بقوله: (بيت الأزري بيت أدب وعلم وثراء. ويظهر من ورقة الوقف المشهور الآن بوقف بيت الأزري وبعض الحجج الشرعية القديمة أن أسرة هذا البيت كانت تقطن بغداد منذ أكثر من ثلاثة قرون، أما ما قبل ذلك فلا يعلم عنها شيء. وقد اشتهر من بين أفرادها علمان هما الشيخ محمد كاظم ــ صاحب الأزرية ــ والشيخ محمد رضا).

ولد محمد كاظم الأزري في بغداد سنة (1143هـ)، وكان أبوه من تجار بغداد وأثريائها، فعاش حياة ميسورة في بداية حياته، وعُرف بشغفه بالأدب حيث وصفته المصادر بما نصه: (والمشهور بـ ملا كاظم بن محمد بن مهدي الأزري البغدادي يسكن بغداد ومدرسة النجف، صريحاً في الرأي قوي الحجة مهيباً في المطلع، وكان يتمتع بمكانة سامية في كافة الأوساط الأدبية، ولدى جميع الطبقات الشعبية، لم يكن في بغداد أشعر منه منذ نهاية العصر العباسي حتى عهده الذهبي وعاصر من العلماء الأعاظم : السيد مهدي بحر العلوم الطباطبائي، والشيخ جعفر كاشف الغطاء النجفي الكبير)

لكن حياة الغنى لم تستمر مع الأزري فقد انقلب عليه الحال فكان يفشل في الحصول على أسباب الرزق ولا يجد ما يستعين به على زمانه، ولكنه كان يتجلّد فنجده يقول:

أيروعني الزمنُ الذي لا جودُه   ***   جودي ولا إقدامُه إقدامي

لمْ يُعْيِني طلباً ولكنْ رُبَّما   ***   أتتْ السهامُ خلافَ قصدِ الرامي

وإذا طبتْ مِنِّي ولم أظفرْ بِها   ***   فالعضبُ قد ينبو نُبُوَّ كهامِ

وهذه الأبيات تدل على شاعر يعتدُّ بنفسه ويعتزُّ بأدبه. ويجده خير بديل لوراثة المال والتجارة، ولاشك أن ضيق يده وتقطع أسباب الرزق عليه هو الذي جعله في دخيلة نفسه يؤمن بالحظوظ بالدرجة الأولى وينسب كل نجاح أو فشل إليها فنراه يقول:

لولا الحظوظ لما ألفيتَ ذابلةً   ***   يجني النظارَ وشهمُ القومِ يحتطبُ

تالله كم قاعدٍ يُؤتى خزائنها   ***   وربَّما لا ينالُ القوتَ مكتسبُ

ويقول في موضعٍ آخر:

وما هو إلا الحظ يولي معاشراً   ***   نحوساَ ويولي آخرين سعودا

وله من هذا النحو في إرجاع كل شيء إلى الحظ القول الكثير الذي يدل على تأثّره النفسي الذي اضطره إلى الإيمان بالحظ الإيمان المطلق كأكثر الناس الذين لا يكون حليفهم النجاح في حياتهم المادية، وبعد هذا يستطيع الباحث أن يستخرج كثيراً من أفكاره وأحواله الشخصية من شعره، ولولا أن هذا المقال قد خُصِّصَ للحديث عن الملحمة الأزرية ولا يتسع لأبحاث أخرى لتطرّقنا إلى الكثير من جوانب حياته الاجتماعية، ولعل هذه الترجمة المختصرة تفتح الباب لمن يريد الإحاطة بأحوال هذا الشاعر الكبير الذي يُعدّ بحق مفخرة للشعر العربي وأن يوليه الدارسون الاهتمام الذي يستحقه كأحد الشعراء الكبار في تاريخنا الأدبي.

شاعرية فذة

كان محمد كاظم الأزري من شخصيات بغداد اللامعة الذين يُشار إليهم بالبنان، ليس فقط لانتسابه لآل الأزري أشهر بيوتات بغداد في القرنين المذكورين فحسب إنما كان مثارَ إعجاب الأدباء والعلماء بشاعريته وأدبه وعلمه، فكان مبجّلاً عند السيد بحر العلوم وينقل عن الشيخ صاحب الجواهر أنه كان يتمنى أن يكتب في ديوان أعماله الملحمة الأزرية مكان كتابه (جواهر الكلام) الذي اشتهر به والذي يُعد الذروة في الفقه ووصف بأنه: (لم يكتب مثله).

يكاد الأزري يشبه المتنبي في عصره فكلاهما عاشا عصراً أدبياً زاخراً بالشعراء المجيدين وكلاهما برزا في عصريهما، ولكن ما يميّز العصرين إن عصر المتنبي كان متمِّماً لما قبله من العصور الزاخرة بالأدب، أما عصر الأزري فكان عصر نهضة أدبية جديدة بامتياز بعد أن تدنّت الروح الأدبية في العالم العربي لعدة قرون، وتأخرت وتجمَّدت فيها وأصبحت صناعة لفظية باهتة، وقد بدأ الركود الأدبي منذ القرن السابع الهجري، وكلما تقدّم الزمن كانت هذه الصناعة تزداد سوءاً حتى بلغ أقصى تدنيها في القرن العاشر والحادي عشر.

النهضة الأدبية والعلمية

بعد أن بلغت الحركة الأدبية أسوأ أدوارها ظهرت فجأة تباشير حركة أدبية عالية ومتجدّدة في العراق في النصف الثاني من القرن الثاني عشر، فكان الأزري وأخوه الشيخ محمد رضا الأزري من ألمع شخصيات هذه الحركة، ولم تُعرف الأسباب الحقيقية لتلك الحركة المفاجئة على التحقيق وإن كانت التكهنات كثيرة في حين أن ذلك القرن كان كالذي قبله من أظلم القرون من الناحية السياسية التي مرّت على البلاد الإسلامية عامة والبلاد العربية خاصة ولا سيما العراق الذي كان في تلك الأيام ساحة للصراع العنيف بين الحكومتين الإيرانية والعثمانية من جانب وبين القبائل العراقية مع إحدى هاتين الحكومتين وفيما بينها من جانب آخر، وهذا عادة مما يسبب خمود كل حركة فكرية وأدبية في البلاد.

ولكن رغم تلك الأوضاع المزرية إلا أن النهضة والحركة المتجددة لم تقتصر على الساحة الأدبية فقط، إذ اتفق ظهور حركة واسعة لم يسبق لها مثيل للعلوم الدينية في العتبات المقدسة في النجف وكربلاء والكاظمية، وبرز في هذه الظروف علماء مجتهدون جدَّدوا في الفقه وأصوله، وجدَّدوا في نوع التفكير وأسلوبه، ولا تزال الدراسات العلمية تستقي من ينبوعهم إلى الآن.

الأزري العالم والشاعر

لسنا هنا بصدد البحث والمقارنة بين ظهور الحركتين، وهل كان هذا الظهور بمحض الصدفة أو أن الحركتين كانتا تستقيان من منبع واحد؟ فإن ذلك يحتاج إلى بحث طويل، ولكن كل الذي أردناه هو الإشارة إلى اقتران الحركتين اللتين أثّرت إحداهما في الأخرى، فكان أكثر الفقهاء من الأدباء وأكثر الشعراء من العلماء المتفقهين، وقد اجتمع للأزري هاتان الفضيلتان، إذ درس في النجف الأشرف على يد كبار العلماء.

ولا شك أن دراسته هذه كان لها الأثر الكبير في نمو ملكته الأدبية، وما انتقل إلى بغداد إلا وكان من أقطاب الحركتين العلمية والأدبية فيها، بل على يديه وعلى يدي شعراء قلائل في بغداد والنجف والحلة بدأ ظهور الحركة الأدبية القوية والناضجة في القرن الثاني عشر ومنهم استمدت هذه الحركة واستمرت إلى القرن الثالث عشر كله، فبلغت أوجها في أخرياته، وكان لهذه الحركة الفضل في تطوّر الشعر في القرن الرابع عشر.

أُغرم الأزري بالشعر إلى حدِّ الافراط حتى صار يأكل معه ويشرب:

أبى الشعرُ إلّا أن يحلّ بساحتي   ***   فيأكلُ من زادي ويشربُ من شربي

إذا أنا لم أعبأ به عمر ساعة   ***   توهّمَ هجراني فلاذَ إلى جنبي

فبرعَ في جميع فنونِ الشعر وأغراضه وفي كلها له آية تدل على ريادته لشعراء عصره، وله في مراثي الحسين (عليه السلام) من الشعر الخالد قصائد كثيرة لا تزال تقرأ على المنابر وتُعد في الطليعة من الشعر العربي أشهرها قصيدته الرائية الطويلة التي يقول في مطلعها:

هيَ المعاهدُ أبلتها يدُ الغِيرِ   ***   وصارمُ الدهرِ لا ينفكُّ ذا أثرِ

ومنها قوله:

وكيفَ تأمنُ من مكرِ الزمانِ يداً   ***   خانتْ بآلِ عليٍّ خيرةِ الخيرِ

أفدي القرومَ الأولى سارتْ ركائبهم   ***   والموتُ خلفهمُ يسري على الأثرِ

ما أبرقتْ في الوغى يوماً سيوفهمُ   ***   إلّا وفاضَ سحابُ الهامِ بالمطرِ

يسطو بكل هلالٍ .. كلِّ بدرِ دُجىً   ***   بجنحِ ليلٍ من الهيجاءِ معتكرِ

هُمُ الأسودُ ولكن الوَغَى أجمٌ   ***   ولا مخالبَ غيرِ البيضِ والسمرِ

ومنها أيضاً

للهِ من في فيافي كربلاء ثووا   ***   وعندهمْ علمُ ما يجري من القدرِ

سلْ كربلا كم حوتْ منهم بدورَ دُجَىً   ***   كأنها فلكٌ للأنجمِ الزهرِ

لمْ أنسَ حاميةَ الإسلامِ مُنفرداً   ***   صفرُ الأناملِ من حامٍ ومنتصرِ

رأى قنا الدينِ من بعدِ استقامتها   ***   مغموزةً وعليها صدعُ منكسرِ

فقامَ يجمعُ شملاً غيرَ مجتمعٍ   ***   منها ويجبرُ كسراً غيرَ منجبرِ

وهي طويلة جداً قاربت المائة بيت واحتوت على صور رائعة ومبتكرات في فن الرثاء لم يتطرّق إليها أحد من الشعراء قبله.

الملحمة

ولنعد إلى رائعته الألفية التي خلّدت شاعرها مع مصاف (شعراء أهل البيت) ولو لم يكن له غيرها في مدحهم (عليهم السلام) لكفاه فخراً، يبدأ الأزري ألفيته بمقدمة وجدانية تبلغ خمسين بيتاً تستحق أن تكون قصيدة لوحدها وهي على نسق واحد من قوة البيان والبلاغة الشعرية نقتطف منها هذه الابيات:

يا خليليّ كلّ باكيةٍ لم   ***   تبكِ إلّا لعلةٍ مُقلتاها

لا تلوما الورقاءَ في ذلك الوجــــدِ لعلّ الذي عراني عراها

خلّياها وشأنها خلياها   ***   فعساها تبلُّ وجداً عساها

كان عهدي بها قريرةَ عينٍ   ***   فأسألاها بالله مِمَّ بُكاها

ليت شعري هل للحمائم نوحي   ***   أم لديها لواعجي حاشاها

لو حوتْ ما حويته ما تغنّتْ   ***   سلْ عن النارِ جسمُ من عاناها

ثم يتعرّض لذكر المصطفى (صلى الله عليه وآله) وإبراز خصاله الكريمة وصفاته العظيمة ومكارم أخلاقه فيقول:

معقلُ الخائفين من كلِّ خوفٍ   ***   أوفرُ العربِ ذِمّةً أوفاها

مصدرُ العلمِ ليسَ إلّا لديه   ***   خبرُ الكائناتِ من مُبتداها

هو ظلُّ اللهِ الذي لو أوته   ***   أهل وادي جهنم لحماها

ما تناهتْ عوالمُ العلمِ إلّا   ***   وإلى ذاتِ (أحمدٍ) مُنتهاها

أيّ خلقٍ لله أعظمُ منه   ***   وهو الغايةُ التي استقصاها

وقد ضمّن الأزري في مدح النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة المعصومين (سلام الله عليهم) الكثير من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة التي جاءت في حقهم (عليهم السلام) وكذلك الوقائع التاريخية والمطالع لهذه الملحمة يتضح لديه مدى تضلّعه في القرآن الكريم وتفاسيره والأحاديث النبوية الشريفة ومدى اطلاعه واستيعابه للتأريخ الإسلامي وأحداثه يقول من ملحمته:

ورجالاً أعزّةً في بيوتٍ   ***   أذن الله أن يعزَّ حماها

سادةً لا تريدُ إلّا رضا الله   ***   كما لا يريد إلّا رضاها

خصَّها من كمالهِ بالمعاني   ***   وبأعلى أسمائه سمّاها

علماءٌ أئمةٌ حكماءٌ   ***   يهتدي النجمُ باتباعِ هُداها

من يباريهمُ وفي الشمسِ معنى   ***   مُجهدٌ متعبٌ لمن باراها

ورثوا من محمدٍ سبقَ أولاها   ***   وحازوا ما لمْ تَحزْ أخراها

الفلسفة في الملحمة

وتتجلى ثقافة الأزري الواسعة وخزينه المعرفي والتاريخي في مدح أمير المؤمنين (عليه السلام)، ورغم أن المصادر لم تدلنا على العلوم التي درسها في النجف الأشرف وعلى يد من تلقّاها إلا أن لفتات العالم بالمعارفِ الإسلامية تلوح من خلال شعره فلا يمكن لغير الدارس للفلسفة المتذوِّق لها أن يقول في أمير المؤمنين (عليه السلام) ما نصه:

وهوَ الآيةُ المحيطةُ في الكونِ   ***   ففي عينِ كلِّ شيءٍ تراها

الفريدُ الذي مفاتيحُ علمِ   ***   الواحدِ الفردِ غيرُه ما حواها

وهو الجوهرُ المجرَّدُ منه   ***   كلُّ نفسٍ مليكها سواها

لم تكنْ هذه العناصرُ إلا   ***   من هيولاه حيثُ كان أباها

فهو يعبر عن أمير المؤمنين (عليه السلام) بالجوهر المجرّد الذي منه تمتد أشخاص النوع في تكوينها وتزكية أخلاقها بتدبير المليك المصوِّر تعالى شأنه، فهو (عليه السلام) منبع العلوم والأخلاق, وهكذا نجد في أبيات كثيرة إذا تدبّرها القارئ سيجد أن الأزري صاحب فلسفة وعلم فضلاً عما ينطق به شعره وبراعته فيه من دراسته للعلوم الإسلامية وهذه الأبيات المتفرِّقة من ألفيته تفصح عما ضمَّت جوانحه من شتى العلوم:

جاءَ من واجبِ الوجودِ بما يســــتصغرُ الممكناتِ أنْ يخشاها

جوهرُ تعلمُ الفلزّاتُ من كل الــــقضايا بأنه كيمياها

هو طاووسُ روضةِ الملكِ، بلْ ناموسُها الأكبرُ الذي يرعاها

أما فيما يخص الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة التي نزلت وقيلت بحق أمير المؤمنين (عليه السلام) فكان شاعرنا ملمّاً بها وأعطاها حيزاً كبيراً من ملحمته ونترك للقارئ الحكم على مدى معرفته بهذه الآيات والأحاديث من خلال هذه الأبيات:

إنّما المصطفى مدينةُ علمٍ   ***   وهو البابُ من أتاهُ أتاها

هل أتتْ (هلْ أتى) بمدحِ سِواهُ   ***   لا ومولى بذكرهِ حلّاها

فتأمّلْ بـ(عمَّ) تُنبِئكَ عنه   ***   نبأٌ كلُّ فرقةٍ أعياها

وبمعنى (أحبُّ خلقِكَ) فانظرْ   ***   تجدِ الشمسَ قد أزاحتْ دُجاها

وتفكّرْ (بأنتَ مِنّي) تجدها   ***   حكمةً تورثُ الرقودَ انتباها

أو ما كان بعدَ (موسى) أخوه   ***   خيرُ أصحابِهِ وأكرمُ جَاها

ليس تخلو إلّا النبوةُ منه   ***   ولهذا خيرُ الورى استثناها

وهو في آيةِ (التباهلِ) نفسُ   ***   المصطفى ليسَ غيرُه إيّاها

ثم سلْ (إنّما وليُّكم الله)   ***   ترَ الاعتبارَ في معناها

آيةٌ خصّت الولاية لله   ***   وللطهرِ حيدرٍ بعدَ طه

الملحمة والتأريخ

ويسترسلُ الأزري في تعديد فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) ومناقبه التي لا تُحصى فيذكر بالتفصيل حروبه ومواقفه مع النبي (صلى الله عليه وآله) في بدر وأُحد وخيبر والخندق وحنين ثم يستعرض حادثة الغدير ويقدِّم أدلة كثيرة على أحقية الإمام (عليه السلام) بالولاية كما يستعرض أحداثاً كثيرة جرت بعد وفاة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) يطول شرحها ولا يسعها هذا المقال وفي ختام قصيدته يقول مخاطباً أمير المؤمنين (ع) بقوله:

ليت عيناً بغيرِ روضِكَ ترعى   ***   قذيتْ واستمرَ فيها قذاها

أنتَ بعدَ النبيِّ خيرُ البرايا   ***   والسما خيرُ ما بها قمراها

لكَ ذاتٌ كذاتهِ حيث لو لا   ***   إنّها مثلها لما آخاها

ونكتفي هنا بما نقلناه من هذه (الملحمة) العظيمة ولو أردنا التوسّع فيها لأخذنا سحرها إلى عوالم بلاغية وعلمية رحبة يطول الحديث عنها فهي تعد موسوعة علمية ودينية وفلسفية وتاريخية وفكرية.

التراث الضائع

بقي أن نذكر أن مما يؤسف له حقاً أن الأزري كتب ملحمته في طومار للاحتفاظ بها وهي تبلغ ألف بيت فأكلت الأرضة جملة منها والذي بقي منها (587) بيتاً، وقد خمسها العديد من الشعراء والادباء، أما شاعرها فقد توفي سنة (1211هـ) حسبما يذكره صاحبا الذريعة والكنى والألقاب ودفن في الكاظمية المقدسة قرب مدفن السيد المرتضى علم الهدى داخل بناية مقبرة السيد مع أخيه الشاعر والعالم الشيخ محمد رضا الأزري عليهما الرحمة، أما ديوانه فقد عُني السيد رشيد السعدي بطبعة سنة (١٣٢٠هـ).

محمد طاهر الصفار

المرفقات

: محمد طاهر الصفار