الشعر في ضوء القرآن الكريم

ميّزت نظرة القرآن الكريم إلى الشعر بين الشعر الذي يساير الحقيقة والمبادئ الإنسانية والأخلاقية والمثل العليا وبين الشعر الذي يدعو إلى الإنحلال والنفاق والكذب والرذيلة، فالله (عز وجل) خلق الإنسان والطبيعة ليرى الناس قدرته وحسن صنيعه، ومنح الإنسان مواهب الفكر والحس المرهف والخيال المبدع ليستشفّ ويستجلي جواهر الاشياء فيكشف عن علاقتها القريبة والبعيدة فتتجلّى له قدرة الخالق ويتجلّى له بديع صنعه، فيدعو إلى ما أمر الله به وينهى عما نهى عنه، فالشعر في ضوء القرآن الكريم رسالة نبيلة على الشاعر أن يؤديها بأمانة وصدق، وقد حدد القرآن الكريم هذين المفهومين للشعر في الآية الكريمة: 

(وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)

فالغاية من الشعر هو الدعوة إلى العمل الصالح بالقول والفعل، وقد أولى الإسلام قضية الشعر أهمية فجاء لينقّيه ويهذّبه ويشذّبه من الكذب وسفاسف الجاهلية والقول الفاحش وكل ما ينافي هدى الدين وآدابه وأخلاقه ويصبه في صالح قضايا الأمة ويعطيه سمة إخلاقية وإنسانية.

وجاءت أقوال الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) لتؤكد هذا المعنى، فالنبي هو أفصح العرب وهو القائل: (لا تدع العرب الشعر حتى تدع الإبل حنينها) والقائل: (إن من البيان لسحراً، وإن من الشعر لحكمة) وقد لخص (صلى الله عليه وآله) نظرته إلى الشعر وفق منهج القرآن الكريم فقال: (إنما الشعر كلام مؤلف فما وافق الحق فهو حسن، وما لم يوافق الحق فلا خير فيه).  

فهذه النظرة تعطي للشعر معنى سامياً وتنتشله من اللغو والإنحطاط فكان للشعر دور كبير في نصرة الإسلام، فالنبي (صلى الله عليه وآله) كان أمام تحدّيات قريش واليهود الذين كان شعراؤهم يهجون الرسول والإسلام، ولا يخفى ما للشعر من تأثير كبير في النفوس فكان على الرسول أن يواجه تلك التحديات، فحث شعراء المسلمين على نصرة الإسلام وله في ذلك أقوال كثيرة، فكان للشعر دور بارز في نصرة الإسلام والإنسانية وأدى رسالة كبيرة في نشر مبادئ الدين الحنيف فواجه الشعراء المؤمنون شعراء قريش وردوا كيدهم إلى نحورهم.

فحينما هجا عمرو بن العاص وعبد الله بن الزبعرى وأبو سفيان وغيرهم من شعراء قريش المشركين رسول الله (صلى الله عليه وآله) والإسلام تصدى لهم شعراء الإسلام وعلى رأسهم أبي طالب (عليه السلام) عم الرسول (صلى الله عليه وآله) الذي دافع عنه بيده ولسانه وله في نصرة الرسول الكثير من الأشعار تضمنها ديوانه أبرزها (لاميته) الشهيرة التي يقول عنها ابن جني: (إنها أبلغ من المعلقات السبع) ومن الشعراء المسلمين الذين دافعوا عن الرسول والإسلام حسّان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك الأنصاري وغيرهم

فكان (صلى الله عليه وآله) يشجّعهم ويحثّهم ويثيبهم على نصرتهم الإسلام فكان يقول لهم حينما ينشدون الشعر لنصرة الدين: (إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه والذي نفسي بيده لكأنما ترمونهم به نضح النبل)، كما كان يجزل لهم العطاء فقد وهب بردته لكعب بن زهير حينما قرأ عليه قصيدته المشهورة، ولما أنشد النابغة الجعدي النبيَّ قصيدته (الرائية) بشرّه بالجنة، ويدلنا قول أبي حاتم الرازي على عناية النبي بالشعر الحق وبشعراء الإسلام حيث يقول:

(إن النبي (صلى الله عليه وآله) ما كان يحب الشعر فحسب، بل يستنشده وينصت له ويعفو ويصفح به عن المجرمين ويقبل التوبة والمعذرة منهم، ويستمع إلى الشعر ويثيبهم على الشعر الجيّد ويجيزهم ويحنو عليهم باستماع شعره)، وقال الدكتور شوقي ضيف: (إن الشعر ظلّ مزدهراً في صدر الإسلام وليس بصحيح أنه توقّف أو ضعُف)

كما كان الأئمة المعصومون (عليهم السلام) وهم القرآن الناطق ينشدون الشعر وهناك الكثير من الشعر المنسوب إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، يقول الشعبي: (كان أبو بكر يقول الشعر، وكان عمر يقول الشعر، وكان عثمان يقول الشعر، وكان علي (عليه السلام) أشعر من الثلاثة)، وفي (عيون أخبار الرضا) أن المأمون قال للإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام): هل رويت من الشعر شيئاً ؟ فقال : قد رويت منه الكثير، فقال: أنشدني، ثم ذكر أشعاراً كثيرة أنشدها له في الحلم والسكوت عن الجاهل، وترك عتاب الصديق واستجلاب العدو، وكتمان السر، وغير ذلك مما كان يقوله ويتمثل به.

فالشعر في نظر الإسلام هو قضية إنسانية تهدف إلى بث مكارم الأخلاق في المجتمع كما تهدف إلى الإنتصار للحق وتمجيد أعمال العظماء والتأسي بهم والإقتداء بأعمالهم ولا تجد في التاريخ أعظم من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كما لا تجد من قدم عطاء للأنسانية كالحسين لذلك حث الأئمة (عليهم السلام) على إنشاد الشعر في الحسين (عليه السلام) وهناك ما لا حصر له من الروايات عنهم في الحض على إنشاد الشعر في رثاء الحسين وتشجيع الشعراء على ذلك فالإسلام بدعوته إلى العدل والحق والإخاء والمساواة دعا إلى العمل على نصرة هذه المبادئ السماوية الإنسانية والأخلاقية بالقول والفعل والشعر وحضّ وشجّع على الشعر الذي يدعو إلى هذه المفاهيم العليا التي تليق بالمجتمع البشري وفطرته السليمة، كما نهى عن الشعر الذي يدعو إلى الفحش والرذائل ويخالف مفاهيم الشريعة الإسلامية، وهو الشعر الذي نهى النبيّ (صلى الله عليه وآله) أيضاً وحرّمه الإسلام ومنه الهجاء الفاضح وشعر الفخر القبلي الجاهلي والغزل الفاحش والشعر الوثني، والشعر الذي هاجم الدعوة الإسلامية وشعر المديح الكاذب.

وقد حرم الإسلام مدح السلاطين والركون إليهم في الكثير من الآيات كما نهى النبي (صلى الله عليه وآله) عن ذلك فقد ورد في كتاب وسائل الشيعة (ج17ص168) الباب 43 ـ باب تحريم مدح الظالم قوله (صلى الله عليه وآله): (احثوا في وجوه المداحين التراب). وورد هذا الحديث أيضاً في كتب السنة عن المقداد بن الأسود الكندي بما نصه: (أمرنا رسول الله أن نحثوا في وجوه المداحين التراب)، ولا يخفى أن المراد بالمدّاحين هنا هم مدّاحوا السلطان بالباطل ووصفه بما ليس فيه، وإلا فقد مُدح رسول الله في الأشعار والخطب والمخاطبة ولم يحث في وجوه المداحين التراب بل لم ينه عن ذلك.

 وروي عن أَمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال : قال رسول اللَّه (صلى الله عليه و آله): (من مدح سلطاناً جائراً، أَو تخفَّف و تضعضع لهُ طمعاً فيه ، كان قرينه في النار)

وورد في نهج البلاغة (ص483) تحقيق صبحي الصالح أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال لرجل أَفرط في الثَّناء عليه و كان له متّهِماً: (أَنا دون ما تقول و فوق ما في نفسك)

فقول أمير المؤمنين (عليه السلام) لهذا الرجل المادح المنافق على ما يظهر من كلمة (متّهِماً) و(فوق ما في نفسك) تدل بوضوح على علم الإمام (عليه السلام) بما في نفس الرجل المُثني الذي خالف قلبه لسانه، والغرض منها تنبيهه علّه يرتدع عما بدر منه من النفاق، كما تدل على تنبيه الناس منه فهو (عليه السلام) يريد أن يشير إلى الناس أن هذا الرجل مدحه لا لكونه (عليه السلام) يستحق المدح بل لكونه في موضع القيادة فهو يتزلّف للوصول إلى غايات مادية ودنيوية فقطع (عليه السلام) الطريق على المتزلفين من أمثاله من الوصوليين والمنفعين، والأمر المهم في هذه الكلمة العظيمة هو أنها عبرت عن تواضع من الإمام لتعليم الأمة هذا الخلق الرفيع.

فالإسلام أوضح نظرته إلى الشعر من خلال القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة وروايات المعصومين (عليهم السلام) وهي تتمثل في الدعوة إلى الحق والعدل ونصرة العقيدة وتمجيد المبادئ الإنسانية، ورغم هذه النصوص المقدّسة التي ميّزت بين مفهومي الشعر، إلا أن كلا المفهومين قد سايرا الشعر على مدى أدواره السحيقة، فمثلما كان الشاعر في صدر الاسلام قد توحّد لسانه وقلبه في القول في الدفاع عن الإسلام ومبادئه، ومثلما تابعه على منهجه شعراء العقيدة الذي حملوا الشعر رسالة نبيلة للارتقاء بالأهداف السامية، فقد برز المفهوم السلبي للشعر أيضاً وهو الذي خلا من الصدق والهدف وما يفرضه الدين والاخلاق فكأن الدين والاخلاق بمعزل عن الشعر فزوّقت كلمات هؤلاء الشعراء عروش الظالمين ورصّعت تيجانهم بالمدح الكاذب اتّباعاً لأهوائهم وطلباً للكسب من ذوي النفوذ والجاه واستهين بقيمة الشعر كرسالة سامية. 

ومن يسبر غور التاريخ يجد هذه الحقيقة تتجلّى بأوضح صورها في العهود التي تلت صدر الإسلام فبعدما كان الشاعر ينطق بـ (روح القدس)، حتى جاءت الدولة الاموية والعباسية فخضع أغلب الشعراء للسلاطين الأمويين والعباسيين وأخذوا يمدحونهم مقابل الهبات والهدايا وجعلوا الشعر متجراً يتّجر به، فنزلت مكانة الشعر وهان لأنه جاء منافياً للحقيقة والصدق.

ورغم أننا نجد في المقابل من الشعراء من حافظ في شعره على رسالته السامية فنجد من يقول (كلمة حق عند سلطان جائر) ومن (يحمل خشبته على ظهره ينتظر من يصلبه عليها في سبيل قول الحق), إلا أن المفهوم السلبي طغى في العهود الأخيرة ونبذ الشعراء رسالتهم الإنسانية التي أمرهم بها القرآن وخضعوا لسلاطين الجور وتحوّل الشاعر الى مادح متسوّل على أبواب القصور.

وبدلاً من أن يتسامى الشاعر إلى قمم الفضيلة والبطولة والتضحية والخير بتناوله سير الأئمة المعصومين (عليهم السلام) العظيمة وسير الأولياء وتضحيات الشهداء وفضائل العلماء وغيرها، فقد خان رسالته وجحدها ووجهها لمدح حكام الجور كما استخدمها في معانٍ منحطّة وسفّ بها الى مستوى منحدر كالمجون والخلاعة.

ففي فترات سابقة كان تعامل الشاعر مع الشعر على أنه حرفة تدرّ عليه مالاً ولم يكن يهمه خلو هذه (الحرفة) من القيم الإنسانية والصدق ما دامت هذه الحرفة هي ما تقوي أواصره بالسلطة الحاكمة، وهذا ما أدى الى فصل الشعر عن هدفه في نشر القيم الأخلاقية فطغى مفهوم شعراء التكسب واحتراف شعر المديح، وتكاد تكون تلك الفترة من أقسى الفترات التي مرّ بها الشعر فبدلاً من أن تكون الكلمة تنبع بالموقف وتصدع بالحق أصبحت وسيلة لتسلّق سلم المصالح الشخصية والتملّق للسلطة، وبما أن الشعر لا يزدهر ولا ينفتح إلا في مناخ من الحرية الكاملة فقد تفاءلنا خيراً بطمس تلك الفترة وإدبارها إلى غير رجعة وكنا نرجو أن يكون الشعر بعد مضي تلك الفترة وسيلة للشعب بعد أن كان وسيلة للحكام.

وبعد أن أصبح من العسير إدامة تلك الآصرة المنفصلة في (العهد الجديد) فقد استخدم الشعراء الشطر الثاني من انشطارهم الذهني حيث طغت الروح التجارية على الشعراء بشكل آخر, فبعد أن كان يتم تجنيد الكثير من الشعراء وتوجيههم نحو شعر المديح المتضمن مبادئ السياسة الحاكمة أصبح المطلوب من الشاعر هو تقديم الخدمات الإعلامية لجهات معينة وليس في ذلك مما يشين ولكن المشين هو أن أغلب الشعراء الذين توجهوا هذا التوجّه عملوا في جهات تخالف توجهاتهم وأيديولوجياتهم تماماً.

لقد كان هذا ديدنهم في السابق فالشعر لا يدر ربحاً وعلى الشاعر أن يكون (واقعياً) في شعره لأن العالم المحيط به مضبب لا يعرف مصيره فعندما يجوب عقله الخيال الشعري فإنه يجب أن يرسخ أقدامه على أرض صلبة حتى لا يتهاوى به الخيال إلى السراب، إنهم الآن قد عرفوا أُصول اللعبة, فبعد أن احتل بعض الشعراء (النظّامين) مكانة صغيرة في التأريخ المنقرض من خلال منجزاتهم (المبوّقّة) فإنهم لم يفقدوا جبلتهم في فرض شخوصهم بالقوة وليس بقوة على الساحة الشعرية باتخاذهم اتجاهاً جديداً وهو التزلف لبعض الجهات والتظلم من (النظام السابق) الذي كان يطاردهم ويعذبهم في قصص اخترعوها رغم إنهم كانوا يزعقون له ليل نهار.

لقد بقي أُولئك المزمّرون يحاولون إسكات الأصوات المرتفعة ضدهم من أجل أن يبقى مشعلهم متميزاً ومتوهّجاً, وقد شكل هذا الواقع أزمة على صعيد الإبداع الشعري.

وقد بقيت هذه الأزمة دون حل لأن الشعر قد اختص بشريحة صغيرة من الناس لكن في الوقت الذي يجب أن يستمر فيه الشعر فإنه يجب أن يكسب اتصالاً بجمهور أوسع ويكون شيوعه كشيوع التلفزيون والمسلسلات المدبلجة فيكون اتصاله بالجمهور المثقف وغير المثقف لكي يستطيع أن يزوده بصورة حية عن الحقيقة التي تساعد على العلاج لحالة الشعر المتأزمة.

إن قيمة الشعر الحقيقية مُحقت بتذبذب الشاعر وموقفه المتهالك في التشبّث بأنظمة وتوجهات لا توائم توجهه، فتلوّنت كتاباته وتوجهاته على عدة اتجاهات خلال فترة وجيزة وحتى نوضح أكثر نقول (ان أهل مكة أدرى بشعابها) والكل يعرف الكتابات الرازحة تحت مفاعيل بوقية (وتكريمية) خاصة ويعرف أصحابها والخائضون غمارها، فما عدا مما بدا حتى يقوم (الصفوة) من أخلاء بعض الشعراء وليقدموا له شهادات وتزكيات في الأماسي الشعرية ويتناوبوا على ذلك، أليس الأولى أن يقدم هؤلاء (الصفوة) التاريخ الحقيقي لهذا الشاعر ويحدّوا من سلطويته على الشعر ؟

إن الأمانة الأدبية تفرض استقلالية الحديث فيجب أن يتكلم الشاعر عن الشاعر بعيداً عن النفاق والمصلحة الشخصية كاشفاً عن القناع الذي انطوى تحته لتصب هذه الأحاديث في المصلحة العامة للشعر وليس في مجرى المصلحة الخاصة لهذا الشاعر أو ذاك.

 

المرفقات

: محمد طاهر الصفار