كانت مدرسة الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) تتميز عن غيرها من المدارس الإسلامية التي عاصرتها أو سبقتها أوتأخرت عنها، فمدرسة الصادق (عليه السلام) شمخت بنفسها وسطع نورها حتى شغلت العيون والأفكار عما سواه فكأنك لا تكاد ترى شيئاً سواها إذا ما قيست بهذه المدرسة العملاقة. ويمكن أن نشير إلى بعض نقاط القوة التي ميزت هذه المدرسة عن غيرها من المدارس الإسلامية، وأضفت عليها هالة من العظمة والرصانة والإتقان فمن نقاط القوة هي قوة شخصية المؤسس لهذه المدرسة، وهو الأمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) وكان ذلك واحدة من امتيازات هذه المدرسة أن المؤسس لها هو شخصية أجمعت العلماء على سعة علمه ومتانة دليله وشدة ورعه وتقواه وزهده. .الجانب الثاني لتميز هذه المدرسة على غيرها من المدارس الإسلامية ، أن هذه المدرسة تتصف بالشمولية، فهي لا تقتصر على دراسة الفقه والحديث كما هو المتعارف في سائر المدارس بل كان فيها الفقه والحديث والتفسير وعلوم القرآن وعلم الكلام وفنون العربية بل تجاوزت ذلك لتشمل العلوم الإنسانية أمثال علم الكيمياء والطب والفلك وعلم الهيئة والطبيعة وغيرها . فكانت مدرسة تشتمل على أصناف كثيرة من العلوم الإسلامية والإنسانية ومن النقاط التي تمثل مواقع قوة في هذه المدرسة كذلك ، امتيازها عما سواها من المدارس هي الدقة والعمق العلمي. فمدرسة الإمام الصادق (عليه السلام ) لم تكن مدرسة سطحية بل مدرسة تعتمد الدليل والنقد العلمي، وتحليل الآراء وإرجاع الأقوال إلى أصولها ليتبين صحتها من سقمها ولذلك كان الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام ) وتلامذته لا يفحمون بمقال ولا يغلبون في مناظرة .[1] فهذه المدرسة الكبرى كانت تشتمل على كل هذا العدد الضخم من الطلاب وكــــــل هؤلاء درسوا بالمباشرة عن الإمام الصادق (عليه السلام ) ، وكان هؤلاء لتلامـــــذة الأربعة آلاف لهم تلاميذ وهناك كلمة جميلة للأديب ( جوزيف ألهاشم فـــــــي خصوص هذه النقطة يقول فيها (( لم يكن الإمام الصادق (عليه السلام ) صامتاً محايداً فأعرض عن الحرب كما اتهموه وعن إنقاذ أساس العقيدة والتشريع، لقد شنـــــها حرباً بلا هوادة على الهراطقة والطغاة والملحدين وامتشق السلاح الأمضى في معمعة الانحراف الديني والخلقي، فأنشأ جيشه المظفر، جيش الأربعة آلاف طالـــــب يعده حارساً أميناً للكيان الإسلامي، وجيلاً سياسياً صالحاً مهيئاً لتسلم مقاليد الدولـــــة وصيانة حق الشعب في مواجهة الغوغائيين والانتهازيين ) ) . إذاً فمدرسة الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام )كانت تمثل جيشاً فكرياً يقارع التيارات الفكرية المنحرفة عن خط السماء من داخل المساحة الإسلامية وخارجها، فكان تلامذة هذه المدرسة حماة الدين وحفظة الرسالة حتى أوصلوها سليمة من التحريف، نقية من الشوائب إلى الأجيال التي تلتهم ونحن نرى اليوم الحوزات العلمية الشريفة في كل بقاع الدنيا وبمختلف مواقعها وضروفها هي امتداد عقائدي وفكري للمنهج الذي وضع أسسه وحدد خطوطه أئمة أهل البيت ( عليهم السلام أجمعين ) حيث كثفوا جهودهم في أنشاء مدرسة علمية أصيلة تحفظ المسار الإسلامي من الانحراف ، وتقدم للأمة أصالة الإسلام الذي حمل رسالته جدهم الرسول الأكرم (صلى الله عليه واله). [2] وأنا هنا اطرح سؤالا مهما وهو : كيف للمسلم منا أن يصبح عنصراً فعالاً في مدرسة جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام )، ليحضى برضا الله وبرضا وليه وحجته وليفوز بكلمة تماثل ما قاله الإمام الصادق (عليه السلام ) في حق تلميذة هشام بن الحكم الكوفي [3] : ( أهلاً بناصرنا بيده ولسانه وقلبه) [4]. أن الإمام كان يتمنى أن يشترك جميع أتباعه في هذا المشروع الحضاري، ونحن هنا ومن خلال هذه الدراسة المقتضبة عن هذه المدرسة الكبرى مدرسة أهل البيت ( عليهم السلام أجمعين ) وللاجابة على هذا السؤال يكننا أن نستخلص جملةً من النتائج المهمة منها : أولا : تعريف الأمة جمعاء بما تحتويه هذه المدرسة الخالدة من أفكار ومبادئ وأسس علمية وثقافية في مختلف الميادين المعرفية الإسلامية، فعلى المؤمن أن يطلع على هذه الثقافة الجعفرية من مصادرها الموثوقة ثم يقوم بنقلها للأمة من خلال القلم والكلمة والمشاهد التلفزيونية والشعر والمنتديات الأدبية . ثانيا : التعريف برجالات هذه المدرسة وأبطالها ممن تتلمذ على يد الإمام ( سلام الله عليه ) أمثال زرارة بن مسلم [5] وبريد العجلي [6] وأبو بصير [7] وأبان بن تغلب [8] وهشام بن الحكم الكوفي، ومحمد المعروف بمؤمن الطاق [9] وغيرهم ممن أذعنت الساحة العلمية لهم وأشادت بفضلهم ، فهؤلاء العظماء الذين لا يقاس بهم أحد ممن سواهم لابد أن تعرفهم الأمة وتتعرف على سلوكهم وأخلاقهم وأفكارهم وماله من المناظرات والحجج مع علماء المذاهب والأديان. ثالثا : بيان المناظرات والمحاججات التي جرت بين الإمام الصادق ( عليه السلام ) أو أحد تلامذته وبين علماء المذاهب وعلماء الملل والأديان والملحدين والزنادقة آنذاك وحكايتها للأمة، فإن هذه المناظرات حكايات جميلة تحمل في طياتها الحكم والدليل المحكم الذي يقوي عقيدة الصديق ويستبصر بها البعيد عن معين معرفة تاثير ودور هذه المدرسة العظيمة . خامسا: أن مدرسة الأمام الصادق ( عليه السلام ) ، كانت مصدراً للعالم وينبوعاً يجود على جميع الناس دون تمييز بمناهل العلم المختلفة من مصادره الاصلية وهي بيت الوحي والرسالة ، وبالتجرد العلمي المحض ، متبعاً الأصول الحديثة، مبتعداً عن العاطفة، ومرض التعصب، وأثر الجنسية، فلا يستطيع ألا الإقرار بأنها مجموعة فلسفية قائمة بذاتها، تزخر بالحيويــــة النابضة، والروحية المتجسدة، والعقلية المبدعة التي استنبطت العلوم، وابتدعت الأفكار، وابتكرت السنن، وأوجدت النظم والأحكام . سادسا : إن المنطلقات التي تصدر من لسان الأمام الصادق (عليه السلام) وفعله لا تأتي بما قد تؤمي أليه الألفاظ حينما يَسِمَهُ العلماء بأنه عبقري عصره، في انه مفكر انعزل لعقله ووضع الأسس بشرياً كما هو عن العقل البشري غير المسترشد بالأصول الإسلامية وإنما هو(عليه الصلاة السلام) كما سلف ذكره أن الأمام (عليه السلام) كانت حركته في أطار السلسلة الذهبية للإمامة، وامتدادها للنبوة . فكان يقول (عليه السلام) ( إن حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين (عليه السلام )، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله وحديث رسول الله ( صلى الله عليه واله ) هو قول الله) [10] . سابعا : وقد ظهرت نتائج هذا التخطيط العظيم والبعيد المدى، بعد غيبة الأمام المهدي بن الحسن ( عجل الله فرجه الشريف ) حيث لم يواجه الشعيعة أزمة في استنباط الأحكام الشرعية أو في طرح الفكر الإسلامي والعقيدة الحقة ، حيث انبرى علمائهم لتوضيح الحقائق العلمية وقد نهضوا بأدوارهم العلمية في تثبيت المعالم والأصول وتوظيفها بالصورة الصحيحة في المجال العلمي . ثامنا : أسدى الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) خدمة لأتباع أهل البيت (عليهم السلام) من ناحيتين، أولاهما أنه اهتم بتعليم أتباعه اهتماماً كبيراً، ولم يقتصر على العلوم القرآنية، بل أضاف إليها علوماً زمنية مثل الرياضيات والفيزياء والجغرافيا والنجوم والهيئة والتاريخ والحكمة، وتخرج على يديه ومن مدرسته عدد غير قليل من أفذاذ العلماء ، ومن هنا يصح القول بأن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) بنى الثقافة الشيعية وأوضح معالمها هذا من جانب ومن جانبا أخر أبدى الأمام (عليه السلام ) اهتمام خاصا بأصحاب المذاهب الأخرى وعمل على تعليمهم وإبداء المشورة لهم في الكثير من المواقف . تاسعا : ولم تتح للأئمة قبل الإمام الصادق (عليه السلام) أن يؤسسوا مدرسة علمية كمدرسته، وذلك لأسباب شتى، أهمها الضغوط السياسية من جانب الخلفاء والسلطة الحاكمة واسترابة السلطة في تحركاتهم وأنشطتهم. أما الإمام الصادق (عليه السلام) فقد كان يعرف أن الشيعة تحتاج إلى مدرسة علمية قوية تكفل لها الصمود أمام التيارات المنحرفة، وتجعلها بمنأى عن التأثر بوفاة هذا أو مجيء ذاك، ومنذ اليوم الأول لقيام الصادق (عليه السلام) بالتدريس، وضع لنفسه أهدافاً معينة يتوخاها، أهمها تأسيس مدرسة علمية وإقامة ثقافة شيعية رصينة تتمثل في (المعارف الجعفرية)، لثقته من أن بقاء الشيعة رهن بما يتوافر لها من علم وثقافة. عاشراً : وكان من رأي الإمام جعفر بن محمد الصادق ( عليه السلام ) أنه ما لم تتوافر للإتباع أهل البيت ( عليهم السلام ) الشيعة قوة سياسية وسلطة مقيمة كافية، فلن تستطيع أن تحقق لنفسها موقعاً سياسياً ممتازاً، وارتأى أن أفضل طريق تسلكه هو نشر الثقافة وعلوم أهل البيت النبوي (عليهم السلام أجمعين )، وتمكين الناس من الاغتراف من هذا المنبع والارتواء منه، فسبق الأمام الصادق (عليه السلام) بذلك علماء الديانات الأخرى الذين قعدوا عن إنشاء مراكز ثقافية أو فكرية لها ولم يحفلوا بنشر ثقافتهم الدينية أو دعمها. أما التنظيم الثقافي الذي أبدعه الإمام الصادق (عليه السلام)، فقد كان بحق أكاديمية للبحث العلمي الحر، ولا سيما في الأمور الفكرية، كما ولا بد من التأكيد هنا بأن حرية البحث والفكر في مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) لم تتوافر في أي مدرسة دينية سواها . المصدر : بحث (مدرسة الامام الصادق عليه السلام ودورها الإنساني والرسالي) / المبحث الثالث / للاستاذ صافي نايف التميمي / وهو من البحوث المشارك في مهرجان ربيع الرسالة الثقافي العالمي السابع . ــــــــــــــــــــــــــــــــ [1]ــ وللمزيد من التفاصيل حول أقوال العلماء في الأمام الصادق ( عليه السلام ) ومدرسته الكبرى : ينظر : الذهبي ، تذكرة الحفاظ ، ج 1 ، ص 166 ، ابن شهر أشوب ، المناقب ، ج3 ، ص 372 ، الشيخ الصدوق ، الامالي ، ص 637 ، ابن حجر العسقلاني ، شهاب الدين احمد بن علي (ت852هــ ) الصواعق المحرقة ، ص 201 . [2]- السيد حسين بركة الشامي ، الشيخ الأنصاري دراسة في قيمته العلمية وضروفه الاجتماعية ، ( مجلة الفكر الجديد ، دار الإسلام ، لندن ، 1995م ) ، ص 380 . [3]- هشام بن الحكم الكوفي : وهو أبو محمد هشام بن الحكم الكندي الشيباني البغدادي لم تحدد المصادر سنة ولادته ولكن من المعروف هو من أعلام القرن الثاني الهجري ، ولد بمدينة واسط في العراق وقيل في الكوفة ، وقال الشيخ المفيد انه ولد في الكوفة ونشأ في مدينة واسط ، وكان يعمل بالتجارة، ثم انتقل الى بغداد أخر عمره سنة 199هـ ويقال انه توفي في هذه السنة، وقد روى عن الأمام أبي عبد الله الصادق والأمام الكاظم ( عليهما السلام ) وكان ثقة في الروايات حسن التحقيق بهذا الأمر وله العديد من المناظرات مع رؤساء الفرق والمذاهب الذين عاصرهم وصنف العديد من الكتب : للمزيد ينظر ، رجال النجاشي، ص 433 .. [4]- السيد محسن الأمين ، أعيان الشيعة ، ج3 ، 147 . [5]- زرارة بن مسلم : واسمه عبد ربه بن أعين وهو أبو الحسن بن عبد ربه زرارة بن حسن الشيباني الكوفي ولد سنة 80 هـــ ، وتوفي سنة 150هــ ، وهو من أعلام الشيعة الأمامية وقد روى عن الأماميين الباقر والصادق ( عليهما السلام ) ، السيد الخوئي (قدس ) ، معجم رجال الحديث ، ج8 ، ص 231 . [6]- بريد بن معاوية العجلي : ويكنى أبا القاسم ، وقيل بريد بن معاوية العجلي الكوفي ، وهو عربي الأصل ، وهو من حواري الأماميين الباقر والصادق ( عليهما السلام ) وقد روى عنهما ، ومات في حياة الأمام الصادق ( عليه السلام ) وهو من الذين بشره الأمام عليه السلام بالجنة ، الاسترباذي ، ميرزا محمد علي ( ت 1028هــــ ) ، منهاج المقال في تحقيق أحوال الرجال ، ( طهران ، مؤسسة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، ج3 ، 16 ، 17 . [7]- أبو بصير : وهو يحيى بن أبي القاسم ، وهو من رجال الأمام الباقر (عليه السلام ) ولقب بلبصير ألانه كان مكفوف البصر ، وهو من الرجال الثقات روى عن الأماميين الباقر والصادق (عليهما السلام ) ، وله كتاب بعنوان ( يوم وليلة ) ، توفي سنة 150هــــ ، الكليني ، الكافي ، ج 8 ، ص 210 ، 211 . [8]- أبان بن تغلب : وهو أبو سعيد إبان بن تغلب بن رباح البكري الكندي ، وهو راوي ومفسر ونحوي ، ومن الرواة الموثوق بهم ، وقد عاصر ثلاث من الأمة المعصومين الأمام زين العابدين والأمام الباقر والأمام الصادق ( عليهما السلام أجمعين ، للمزيد من التفاصيل ينظر ، الذهبي ، محمد بن احمد بن عثمان ، ميزان الاعتدال ، ج2 ، ص 297 ، الشاكري ، الحاج حسين ، موسوعة المصطفى والعترة ، ج8 ، ص 387 ، الزركلي ، خير الدين ، الأعلام ، ج1 ، ص 26 . [9]- محمد مؤمن الطاق : وهو محمد بن علي بن النعمان بن أبي طريف العجلي وهو متكلم وراوي وقد عاصر ثلاث من الأئمة المعصومين هم زين العابدين علي بن الحسين والباقر والصادق ( عليهما السلام أجمعين ) وقد لقبه الأمام الصادق مؤمن الطاق وذلك لعمله بالصيرفة وكان دكانه في في طاق محل ، احمد مصطفى يعقوب ، مؤمن الطاق ، ( الكويت ، مركز الأمام المهدي (عج ) ، 2012م ) ، ص 8 . [10]- الكليني ، الكافي ، ج 3 ، ص 233 ، القاضي أبن براج ، المهذب ، ( قم المشرفة ، مؤسسة النشر الإسلامي ، بلات ) ، ج1،ص20.
اترك تعليق