وجوب زيارة الإمام الحسين عليه السلام -القسم الثالث- ج1

 

تقدم الكلام في مقالين سابقين حول الروايات الدالّة على وجوب زيارة الإمام الحسين عليه السلام  بقسميها، وهما: ما دلَّ بالصراحة، وما دلَّ بالظهور. وقد ثبت من خلال البحث في دلالات وأسانيد تلك الروايات أنّ أكثرها له دلالة واضحة وصريحة على الوجوب، كما أنّ أسانيدها لها من القوة والوثاقة ما يجعل النفس تطمئن بصدورها عن الأئمة المعصومين عليهم السلام .

والآن وصل الكلام بنا إلى اقتطاف الثمرة النهائية من تلك الأبحاث وهي: هل يمكن أن نحكم بوجوب الزيارة بمجرد ما تقدم من الروايات، أو أنّه تُوجد موانع أُخرى في طريق ذلك الحكم؟ فلا بُدَّ إذاً من بحث الإشكالات والعقبات المحتملة التي يمكن أن تمنع القول بالوجوب، والوقوف عندها بشكل علمي دقيق؛ حتى يمكن الاعتماد على النتائج المستخلصة من الروايات المتقدمة.

ثمّ إن تمَّ دفع تلك الإشكالات ـ أو لا أقل بناءً على قول مَن لا يرى ورود تلك الإشكالات في المقام ـ لا بُدَّ من بحث حدود الوجوب الذي أثبتته الروايات المتقدمة بقسميها الصريح والظاهر.

بحث التواتر:

وقبل الدخول في الإشكالات، من المناسب أن نُشير إلى مطلب تواتر تلك الأخبار، فهل يمكن أن ندّعي أنّ روايات الوجوب متواترة؛ بحيث تكون غنية عن البحث السندي، أو ليست كذلك؟

وهذا البحث وإن كان الأنسب أن يُدرج ضمن الأبحاث السندية وطرق إثبات الصدور، إلاَّ أنّه باعتبار شموله لجميع الروايات، وقد قسمناها إلى قسمين مستقلين؛ لذلك ارتأينا إفراد هذا البحث عن كلا القسمين، وإدراجه ضمن هذه الأبحاث في هذا القسم من الدراسة.

إنّ التواتر ـ كما عرّفه علماء الأُصول والمنطق ـ: هو عبارة عن امتناع التواطئ على الكذب، وهو على ثلاثة أنحاء:

1ـ التواتر اللفظي: وهو أن تتحد ألفاظ الروايات بحيث يكون المنقول أمراً واحداً لفظاً ومعنًى، وهذا لا مجال للقول به في المقام ـ كما هو واضح ـ لعدم إمكان تحقُّق ذلك فيما نقلناه من الروايات.

2ـ التواتر الإجمالي: وهو القطع بصدور إحدى الروايات لا على التعيين. ولا مجال للقول به لعدم المحصّل منه؛ لأنّه إمّا أن يرجع إلى التواتر المعنوي أو ـ لا أقل ـ لا فائدة منه.

3ـ التواتر المعنوي: وهو اشتراك الروايات في معنى واحد، والكلام في إمكان تحقُّق هذا النوع من التواتر:

قد نُقلت هذه الأخبار عن أربعة من الأئمة عليهم السلام ، وهم: الإمام علي، والإمام الباقر، والإمام الصادق، والإمام موسى الكاظم  عليهم السلام .

وقد روى عنهم هذه الأحاديث مجموعة من الأصحاب يبلغ عددهم 21، منهم الأجلاّء، من قَبيل: محمد بن مسلم، وصفوان الجمّال، ومحمد بن أبي عمير، وأبي أيوب الخزاز، وغيرهم.

ثمّ تتكثر الطبقات إلى أن تصل إلى أصحاب الكتب والمؤلفات التي اشتُهرت وعُرفت وذاعت، والتي نقلنا عنها هذه الروايات، وهي عبارة عن: مَن لا يحضره الفقيه والأمالي والمقنعة للشيخ الصدوق، وكامل الزيارات لابن قولويه، والتهذيب للشيخ الطوسي، ومسار الشيعة والمزار والإرشاد للشيخ المفيد، والمزار لمحمد بن المشهدي، وروضة الواعظين للفتال النيسابوري، ونوادر علي بن أسباط ضمن الأُصول الستة عشر، إلى غير ذلك من المصادر التي أرسلت تلك الروايات إرسال المسلَّمات، أو نقلتها عن مصادر أُخرى، إلى أن استمر النقل في الموسوعات الحديثية وغيرها، إلى يومنا هذا.

إشكال وجواب:

ربما يُقال: إنّه قد يصعب إحراز التواتر في طبقة المؤلفين؛ وذلك لإمكان تواطئهم على الكذب، حيث إنّ العقل لا يمنع من التواطئ على ذلك ما دام الناقلون لهم ثقافة واحدة، وتجمعهم مشتركات عديدة مشخَّصة.

نعم، إن هذا الكلام وإن كان يبعد في حق أمثال هؤلاء الأجلاّء، إلاَّ أنّ شرط تحقق التواتر لا يمكن إحرازه.

ونقول ـ في مقام الإجابة عن ذلك ـ:

أولاً: إن تلك الروايات قد اشتُهرت وذاعت وعُرفت في زمن أصحاب المؤلفات، بحيث يصعب جداً تحريفها وتزويرها والتلاعب بها، هذا بالإضافة إلى أنّ أزمان المؤلفين تختلف من حيث الوفاة وزمن التأليف؛ الأمر الذي يمنع من حصول الاتفاق فيما بينهم على الكذب.

نعم، هذا قد يضرُّ بالتواتر من جهة أُخرى؛ حيث إنّ اتحاد الطبقة شرط.

ثانياً: إذا نظرنا إلى مؤلفي تلك الكتب، وعرفنا منزلتهم وتقواهم وورعهم؛ فإنّ النفس تطمئن إلى عدم تواطئهم على الكذب، وتستبعد ذلك كل الاستبعاد، وهذا ما يُعبَّر عنه بالعامل الكيفي الذي يُسرِّع تحقُّق التواتر، فهو متحقّق هنا بأجلى صوره.

نعم، هذا التواتر بهذه الكيفية يجزم به العقل الشيعي الإمامي الذي له معرفة خاصّة بأصحاب المؤلفات، لا مطلق العقول، فمَن لا يعرف هؤلاء المؤلفين، ولا يدري عن عقيدتهم وتاريخهم شيئاً، لا يمكن أن يُفرض عليه هكذا تواتر. ويمكن القول: إنّ هذا تواتر خاص لظروف خاصّة.

ومعه يحصل القطع بصدور المعنى المقصود إثباته من قِبَل أهل البيت عليهم السلام .

ولا يخفى أنّه لا بُدَّ من الاقتصار على المعنى الذي تشترك فيه جميع الروايات، وهو الوجوب الظاهري لا النصّي؛ لعدم إحراز القطع بالوجوب النصّي كما هو واضح.

وعلى كل حال؛ فمَن يعتقد بحصول التواتر من هذه الروايات، فالنتيجة واضحة عنده، ومَن لا يعتقد بذلك؛ ففي صحة الأسانيد وتمامية الدلالة الكفاية على المطلوب.

حدود الوجوب:

بعد أن ثبت أصل الوجوب من خلال الروايات ـ بقسميها ـ يصل بنا البحث إلى حدود الوجوب الذي تُثبته تلك الروايات؛ حيث إنّها قد تكون مختلفة في ذلك للوهلة الأُولى؛ لأنّ بعض تلك الروايات نصَّ على أنّ الزيارة واجبة في كل سنة مرّة، وبعضها نصَّ على أنّها في كل أربع سنوات مرَّة، وبعضها أنّها واجبة على نحو التكرار، وبعضها مطلقة.

فهنا أنحاء متعددة؛ تبعاً لمعطيات الروايات، أو القرائن الخارجية أو الداخلية المحيطة بالروايات، أو المُستنتجة من مجموعها؛ فلا بُدَّ أولاً من عرض طوائف الروايات، ثمّ بيان وجه الجمع فيما بينها:

الطائفة الأُولى: ما دلَّ على أصل الوجوب من دون تقييده بزمان أو عدد معين

 من قَبيل: ما روي عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال: ((مَن لم يأتِ قبر الحسين عليه السلام  ـ وهو يزعم أنّه لنا شيعة ـ حتى يموت؛ فليس هو لنا بشيعة، وإن كان من أهل الجنة، فهو من ضيفان أهل الجنّة))[1].

ومن قَبيل: ما روي أيضاً عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال: ((لو أنّ أحدكم حجَّ دهره ثمّ لم يزر الحسين بن علي عليهما السلام ؛ لكان تاركاً حقّاً من حقوق رسول الله عليهما السلام ؛ لأنّ حقّ الحسين فريضة من الله تعالى واجبة على كل مسلم))[2].

ومن قَبيل: ما روي عن أبي جعفر محمد بن علي عليهما السلام ، قال: ((مُرو شيعتنا بزيارة الحسين بن علي عليهما السلام ؛ فإنّ زيارته تدفع الهدم والغرق والحرق وأكل السبُع، وزيارته مُفترضة على مَن أقرَّ للحسين عليه السلام  بالإمامة من الله عز وجل))[3].

وقد تقدَّم أنّ مجموعة من هذه الروايات صحيحة السند.

الطائفة الثانية: ما دلَّ على وجوب تكرار الزيارة

 من قَبيل: ما روته أُمُّ سعيد، عن أبي عبد الله عليه السلام ، قالت: ((قال لي: يا أُمَّ سعيد، تزورين قبر الحسين؟ قالت: قلت: نعم. فقال لي: زوريه؛ فإنّ زيارة قبر الحسين واجبة على الرجال والنساء))[4].

إنّ الإمام عليه السلام  أمر أُمَّ سعيد بالزيارة، وأوجبها على الجميع، مع أنّ أُمَّ سعيد أجابت بالإيجاب عندما سألها الإمام عليه السلام  عن ذلك، فلو لم يكن تكرار الزيارة واجباً لما وُجّه عليه السلام  الأمر إليها.

وقد تقدَّم أنّ هذه الرواية تامّةٌ سنداً.

الطائفة الثالثة: ما دلَّ على وجوب الزيارة في كل أربع سنين مرّة

 من قَبيل: ما عن أبي الناب، قال: ((سألت أبا عبد الله عليه السلام  عن زيارة قبر الحسين عليه السلام ، قال: نعم، تعدل عمرة، ولا ينبغي أن يُتخلّف عنه أكثر من أربع سنين))[5].

ومن قَبيل: ما قاله أبو عبد الله عليه السلام : ((أنّه يُصلّي عند قبر الحسين عليه السلام  أربعة آلاف ملك من طلوع الفجر إلى أن تغيب الشمس، ثمّ يصعدون وينزل مثلهم، فيُصلّون إلى طلوع الفجر، فلا ينبغي للمسلم أن يتخلّف عن زيارة قبره أكثر من أربع سنين))[6].

ودلالة الرواية على المطلوب واضحة، نعم، كلا الروايتين ضعيفة السند.

الطائفة الرابعة: ما دلَّ على وجوب الزيارة في كل سنة مرَّة

 من قَبيل: ما روي عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال: ((ائتوا قبر الحسين عليه السلام  في كل سنة مرَّة))[7].

ومن قَبيل: ما عن الحلبي، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام  عن زيارة قبر الحسين عليه السلام ، قال: ((في السنة مرَّة، إنّي أكره الشهرة))[8].

الروايات في هذه الطائفة واضحة الدلالة على المطلوب، وهي صحيحة السند.

الطائفة الخامسة: ما دلَّ على وجوب الزيارة على الغني في كل سنة مرتين وعلى الفقير في كل سنة مرة

 من قَبيل: ما روي عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال: ((حقٌّ على الغني أن يأتي قبر الحسين عليه السلام  في السنة مرَّتين، وحقٌّ على الفقير أن يأتيه في السنة مرَّة))[9].

والرواية صحيحة السند.

الطائفة السادسة: ما دلَّ على وجوب الزيارة للقريب في كل شهر مرة والبعيد كل ثلاث سنوات مرة

 من قَبيل: ما روي عن أبي عبد الله عليه السلام  في حديث طويل، قلت: ((مَن يأتيه زائراً، ثمّ ينصرف عنه، متى يعود إليه؟ وفي كم يأتي؟ وكم يسع الناس تركه؟ قال: لا يسع أكثر من شهر. وأمّا بعيد الدار، ففي كل ثلاث سنين، فما جاز ثلاث سنين فلم يأته؛ فقد عقَّ رسول الله  عليهما السلام ، وقطع حرمته، إلاَّ عن علّة))[10] .

والرواية صحيحة السند.

هذه ستّة طوائف دلّت على الوجوب، إلاَّ أنّها اختلفت في تحديد فترة الوجوب التي على الزائر أن لا يتخطّاها؛ فلا بُدَّ من الجمع بين مداليل هذه الروايات.

الجمع بين الروايات:

إنّ الطوائف المتقدمة من الروايات يمكن تقسيمها إلى قسمين أساسيين:

القسم الأول: الروايات المطلقة التي صبَّت الوجوب على نفس الزيارة ولم تُقيّد بشيء.

ومن الواضح، فإنّ الروايات المطلقة لا تُعارض الروايات المُقيّدة بتعارض مستقر، بل يمكن الجمع بينهما بحمل المطلق على المُقيّد، وهو أحد وجوه الجمع العرفي بين الروايات.

القسم الثاني: الروايات المُقيّدة بشيء، وهي على نوعين أساسيين أيضاً:

النوع الأول: الروايات المُقيَّدة بمجرد التكرار، كما في الطائفة الثانية المتقدمة.

النوع الثاني: الروايات المقيَّدة بزمان مُعيَّن، كبقية الطوائف.

ومن الواضح ـ أيضاً ـ أنّ ما دلّ على وجوب التكرار لا يُعارض ما دلَّ على وجوب التكرار في أزمنة مُعيَّنة.

وأمّا ما كان منها مُقيّداً بزمان مُعيَّن، فهي على أربع طوائف: وهي ما دلَّ على الوجوب في كل أربع سنوات ـ مع غضّ النظر عن ضعف هذه الطائفة من الروايات ـ وما دلَّ على الوجوب في كل سنة مرَّة، وما دلَّ على الوجوب لبعيد الدار كل ثلاث سنين، ولقريبها كل شهر، وما دلَّ على الوجوب في السنة مرَّتين للمُوسر ومرَّة للمُعسر.

فهذه الروايات متعارضة فيما بينها، فإنّ ما دلَّ على وجوب الزيارة في كل أربع سنوات مرَّة يعارض ما دلَّ على الوجوب في كل سنة مرَّة، كما يعارض ما دلَّ على الوجوب للمُوسر في السنة مرَّتين وللمُعسر مرَّة، كما أنه يُعارض ما دلَّ على الوجوب في كل ثلاث سنوات لبعيد الدار وكل شهر للقريب... وهكذا، فإنّ كل طائفة تُعارض بقية الطوائف، إمّا بالتباين، وإمّا بالعموم والخصوص من وجه.

وجه للتوفيق بين الروايات:

إنّ هذه الطوائف المُقيّدة بزمان معين لا يمكن التمسّك بدلالة أحدها، حتى لو لم يكن هناك تعارض في البين؛ وذلك لأنّ التسالم الفقهي الإمامي قائم على عدم ثبوت وجوب الزيارة بأي نحوٍ من الأنحاء في هذه الطوائف الأربع.

وعليه؛ فالتمسك بإحداها لا يُجدي نفعاً، وبتبعه فالتدقيق أكثر في تعيين إحدى هذه الطوائف أيضاً لا يُجدي نفعاً.

فلا بُدَّ ـ إذاً ـ من بيان وجه يمكن قبوله بحيث ينسجم مع هذه الروايات، ولا يكون محطّاً لإعراض المشهور، ولا مخالفاً للتسالم الفقهي، وهذا الوجه يتشكل من خطوتين بمجموعهما يتضح المقصود من روايات الوجوب المتعارضة؛ وذلك لأنّ تلك الروايات احتوت على جهتين، بالإضافة إلى أصل الوجوب:

 الجهة الأُولى: تكرار الزيارة؛ فإنّ جميع تلك الروايات المُقيّدة بزمان مُعيّن تدلُّ على التكرار.

 الجهة الثانية: تعيين زمان للزيارة الواجبة.

الخطوة الأُولى:

إنّ مجموع تلك الروايات دلَّ على وجوب تكرار الزيارة، وهذا ينسجم تمام الانسجام مع الطائفة الثانية من روايات الوجوب، ولا يوجد أي إشكال في ذلك، ولا يوجد تسالم فقهي على خلافه، كما سيأتي بحثه عند التعرُّض لإشكال الإعراض.

الخطوة الثانية:

إنّ هناك روايات عديدة دلَّت على حرمة جفاء الإمام الحسين عليه السلام  من قَبيل: ما رواه ابن قولويه في كامل الزيارات، قال: ((حدَّثني أبي، عن سعد بن عبد الله، عن الحسن بن علي بن عبد الله بن المغيرة، عن العباس بن عامر، قال: قال علي بن أبي حمزة، عن أبي الحسن عليه السلام ، قال: لا تجفوه، يأتيه المُوسر في كل أربعة أشهر، والمُعسر لا يُكلّف الله نفساً إلاّ وسعها. قال العباس: لا أدري، قال هذا لعلي، أو لأبي ناب))[11].

وغيرها من الروايات الصحيحة بهذا المضمون، والتي تقدَّم بحثها الدلالي والسندي في مقالٍ سابق.

 فما دلّ على التقييد بزمان معين، محمول على القضية الخارجية التي يُعيّن فيها الإمام عليه السلام  المقدار الذي يجب على المكلف مراعاته حتى لا يتحقّق منه الجفاء؛ وذلك لأنّ الزيارة كما هي واجبة، فإنّ الجفاء أيضاً محرم، وتحديد الجفاء أمرٌ عرفي، يمكن أن يتغيَّر من زمانٍ إلى آخر، فما دلَّ على التقييد محمول على أقل المقدار الذي يتحقّق بتركه الجفاء، فنجد أنّ هذا المقدار تارة يكون بسنة، وأُخرى بثلاث سنوات، وثالثة بأربع، وهكذا.

وبذلك يثبت أنّ أصل وجوب الزيارة وتكرارها مما اتفقت عليه جميع روايات الوجوب، وما اختصت به كل رواية من التقييد بزمانٍ مُعيّن محمولٌ على القضية الخارجية المحددة لمقدار تحقُّق الجفاء الذي بيَّنته روايات الجفاء.

فإن قلت: لماذا لم تحمل وجوب الزيارة على مسألة الجفاء؛ فتكون الزيارة واجبة في فرض الجفاء لا مطلقاً، كما أفتى بذلك بعض مراجع التقليد؟

قلت: إنّ الحمل على خلاف ظاهر الروايات لا يُصار إليه إلاَّ مع عدم إمكان الأخذ بظاهر الرواية، فبدلاً من أن تُطرح الرواية تُحمل على معنى مقبول، وأما لو كان ظاهر الرواية لا يواجه أي مشكلة، فالأخذ به هو المتعين؛ لذلك عملنا بمثل هذا الظاهر في المقام، وحملنا ما كان ظاهراً بالتقييد بزمان معين على فرض الجفاء؛ لأنّ هذا الظاهر يُعارضه التسالم الفقهي والإعراض.

الجفاء النوعي والشخصي:

ليس الهدف من هذه الدراسة تسليط الضوء على حرمة جفاء الإمام الحسين عليه السلام  بشكل تفصيلي، وإنّما ذكرنا ذلك استطراداً، وكأحد وجوه الجمع بين بعض مداليل الروايات، ولكن لا بأس بالإشارة إلى مطلب مهم ليس عن مبتغانا ببعيد، وهو أنّ الجفاء المحرَّم هل هو الجفاء الشخصي أو الجفاء النوعي؟

بمعنى لو أنّ ملايين الناس يذهبون إلى زيارة الإمام الحسين عليه السلام  باستمرار، وكان هناك شخص لا يزور، فهل يكون الجفاء متحقّقاً من ذلك الشخص أو لا يكون؟

فإن قلنا: إنّ الجفاء نوعي، فهو غير متحقّق بحقِّ ذلك الفرد، وأمّا إن كان شخصياً، فهو متحقّق.

ولا بُدَّ من الرجوع إلى مدلول الروايات لتحديد ذلك؛ فإنّ بعضها يظهر منه الجفاء النوعي، وبعضها يظهر منه الجفاء الشخصي، إلاَّ أنّ ما صحَّ منها سنداً هو ما دلَّ على حرمة الجفاء النوعي.

والذي يؤكّد أنّ المقصود هو الجفاء النوعي ما ثبت من وجوب الزيارة مكرراً، فهي كافية في التحريك، والمنع من ترك الزيارة، وتكون حرمة الجفاء النوعي مُحفّزاً إضافياً للزيارة في حال تحقّقه؛ الأمر الذي لم يتحقّق منذ زمنٍ بعيد حتى في أشدّ الظروف وأقساها.

كيفية الزيارة:

المقصود من كيفية الزيارة: هو أنّ الزيارة الواجبة والتي تحتاج إلى تكرار؛ بحيث لا يتحقّق الجفاء بفعلها، هل هي عن قرب بحيث يكون الزائر عند القبر الشريف، أو تكفي حتّى الزيارة عن بُعد؟

إنّ المقصود من الزيارة هو الزيارة عن قرب، وعن حضور عند القبر الشريف؛ وذلك لعدّة أُمور:

الأول: إنّ المعنى العرفي المنصرف من الزيارة هو الحضور عند المزار، والتواجد الفعلي في الحضرة.

الثاني: الروايات التي أمرت بإتيان القبر والحضور عنده:

 من قَبيل: ما رواه ابن قولويه في كامل الزيارات، عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال: ((مَن لم يأتِ قبر الحسين عليه السلام  ـ وهو يزعم أنّه لنا شيعةـ حتى يموت؛ فليس هو لنا بشيعة، وإن كان من أهل الجنة فهو مِن ضيفان أهل الجنّة))[12].

ومن قَبيل: ما رواه أيضاً ابن قولويه في كامل الزيارات، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال: ((مَن لم يأتِ قبر الحسين عليه السلام  من شيعتنا كان منتقص الإيمان، منتقص الدين، وإن دخل الجنّة كان دون المؤمنين في الجنّة))[13].

ومن قَبيل: ما رواه ابن قولويه في كامل الزيارات أيضاً، عن علي بن ميمون، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام  يقول: ((لو أنّ أحدكم حجَّ ألف حجّة ثمّ لم يأتِ قبر الحسين بن علي عليهما السلام ؛ لكان قد ترك حقّاً من حقوق رسول الله صلى الله عليه وآله. وسُئل عن ذلك، فقال: حقُّ الحسين عليه السلام  مفروض على كل مسلم))[14].

فهذه الروايات جميعها تدلُّ على لزوم الحضور عند القبر الشريف، ولا تكفي الزيارة عن بُعد.

الثالث: الروايات التي بيّنت كيفية زيارة الإمام الحسين عليه السلام ، وشرحت كيفية ذلك بالغُسل والمشي والدعاء عنده، وكيفية الدخول والوقوف وتقبيل القبر ومكان الصلاة وما إلى ذلك، وهي روايات كثيرة مذكورة في محلّها، وهي جميعاً تدلُّ على أنّ الزيارة تكون بالحضور عند القبر المقدس.

الرابع: الروايات التي بيّنت كيفية الزيارة عن بُعد مع عدم إمكان التوصّل إلى القبر الشريف؛ فجعلتها في فرض مَن تعذّر عليه الحضور، وهي روايات عديدة أيضاً، وتدلُّ على المطلوب.

والنتيجة: هي أنّ المقصود من الزيارة هو الحضور عند القبر الشريف.

(الإشكالات على القول بالوجوب تأتي في الجزء الثاني)

الكاتب: الشيح رافد عساف التميمي

مجلة الإصلاح الحسيني - العدد الثالث

مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية

____________________________________________________

 

[1] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص356. واُنظر: الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج14، ص432.

[2] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص237ــ238.

[3] الصدوق، محمد بن علي، مَن لا يحضره الفقيه: ج2، ص582.

[4] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص237، واُنظر: الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج14، ص437.

[5]  ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: 293. الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج 14، ص431.

[6] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص494.

[7] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص490. الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج14، ص532.

[8] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص491. الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج14، ص532.

[9] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص490. واُنظر: الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، الوسائل: ج14، ص532.

[10] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص494. الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج14، ص535.

[11] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص491.

[12] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص356.

[13] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص 355.

[14] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص357. واُنظر: الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج14، ص432.