الحمد لله ربِّ العالمين حمدًا كثيرًا كما يستحقُّه وكما هو أهله، والصلاة والسلام على خير خلقه محمَّد وآله الطاهرين...
الشهيد هو من يُضحي في سبيل الله تعالى، فيدخل غمار الحرب واضعًا روحه على كفِّه يجود بأعزِّ ما لديه، والجود بالنفس غاية الجود، فيبرز للعدو محتملًا مفارقة الدنيا في كلِّ لحظة، إلى أن تأتي اللحظة التي يُفارق فيها هذه الدُّنيا، وهو في الدِّفاع عن دين الله تعالى ضدَّ من يُريد انتهاكه أو الإساءة إليه، وكل من يتصور هول المعارك وصعوباتها، وشراسة القتال فيها، وما يُصاحبها من خوف وجوع وعطش وتعب فإنَّه يقف للشهيد إجلالًا لعظيم ما قدَّم في سبيل الله تعالى، وفي بعض الأحيان نتصوَّر أن لا يوجد عمل يُعادل الشهادة في سبيل الله تعالى؛ لما يبذله الشهيد في سوح القتال من تفانٍ في ذات الله تعالى؛ ولكن الأمر ليس كذلك فهناك من الأعمال ما يسمو إلى مقام الشهادة؛ إن لم يكن أعظم منها، ومن تلك الأعمال (العفو عند المقدرة)، وقد نصَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) على ذلك بقوله: ((مَا الْـمُجَاهِدُ الشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَعْظَمَ أَجْراً مِمَّنْ قَدَرَ فَعَفَّ، لَكَادَ الْعَفِيفُ أَنْ يَكُونَ مَلَكاً مِنَ الْمَلاَئِكَةِ))([1]) .
فالعفيف، هو الذي يعفو عمَّن ظلمه واستباح حقِّه عند القدرة عليه، وهذا العمل يرتقي بصاحبه إلى أن يكون أعظم عند الله تعالى من المجاهد الشهيد في سبيل الله تعالى، وهذا الأمر يستدعي منَّا أن نُعيد النظر في حساباتنا، فكثير منَّا يتعامل مع الآخرين فيناله منهم الظلم والتعدِّي فتشبُّ عنده نار الانتقام فينتظر أن تحين الفرصة ليرد له الصاع صاعات؛ انتقامًا لما بدر في السابق، وهذه الأفعال ينبذها الإسلام؛ لأنَّها تتعارض مع روحه التي تدعو إلى السلم ونبذ كلِّ أنواع التطرف والظلم، والانتقام من الظالم بأكثر ممَّا فعل ظلم آخر يؤدِّي بالأخير إلى انتظار الفرصة ليظلم مرَّةً أخرى بظلمٍ يفوق السابق أضعافًا مضاعفة؛ انتقامًا لما جرى عليه، وهكذا تتطور الأمور حتى تصبح الكراهية والانتقام هي المسيطرة على تعاملات الناس، وتتحول الحياة إلى غابة يأكل فيها القوي الضعيف، ويصبح الناس كالوحوش ينتظر كل منهم الفرصة من أجل الانقضاض على صاحبه ليأكل منه ما يستطيع من دون رحمة أو شفقة .
ولهذا فقد أكَّد الإسلام على العفو بين النَّاس وجعله أسلوب تعامل في الحياة، وخصوصًا عند المقدرة، قال تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف: 199]، وقوله سبحانه: ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [البقرة: 237]، وقوله (عزَّ وجلَّ): ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [الشورى: 40] .
وأجر العفيف كما نصَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) يكاد أن يكون أعظم من أجر الشهيد؛ ذلك أنَّ الحرب حدث طارئ يلمُّ بالبلاد الإسلامية سرعان ما ينقضي فتعود الحياة إلى ما كانت عليه في سابق عهدها، أمَّا التعامل بين النَّاس فهو دائم ما بقيت الحياة، ومن هنا جاء التأكيد على العفو ليكون أسلوب حياة يعدل من يمارسه الشهادة في سبيل الله تعالى، ونحن هنا لا نريد أن نُقلِّل من أهميَّة الشهادة أو أجر الشهيد، فأجره عند الله تعالى بحسب ما بذل من غاية الجود، ولكن عمل العفيف له من الشأن العظيم؛ لما يؤدِّي إلى حياةٍ آمنة مستقرة هانئة، ومن هنا يربي أمير المؤمنين (عليه السلام) المجتمع على أن تسوده حياة العفو عند المقدرة، وقد أكَّد (عليه السلام) على هذا الخُلق القويم في أكثر من موضع في نهج البلاغة ومن تلك المواضع قوله (عليه السلام): ((إِذَا قَدَرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ فَاجْعَلِ الْعَفْوَ عَنْهُ شُكْراً لِلْقُدْرَةِ عَلَيْه((([2])، وقوله (عليه لسلام): ((أَوْلَى النَّاسِ بِالْعَفْوِ أَقْدَرُهُمْ عَلَى الْعُقُوبَةِ((([3])، وقوله (عليه السلام): ((وَالْعَفْوُ زَكَاةُ الظَّفَرِ))([4]) .
ونتيجة هذه الأقوال التأكيد على العفو بين النَّاس وإشاعة خلق التسامح في التعامل بين أفراد المجتمع حتَّى يسود الحبُّ والوئام، وتموت البغضاء والشحناء، وتختفي روح الانتقام؛ لأنَّ بالعفو تنصلح الأمم ويسود التعاون وينصلح المفسد بالعمل الصالح .
([1]) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام) ( تحقيق صالح ): 559 .
([2]) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام) ( تحقيق صالح ): 470 .
([3]) المصدر نفسه: 478 .
([4]) المصدر نفسه: 506 .
اترك تعليق