كيف تضيع الدَّولة؟

الحمد لله ربِّ العالمين حمدًا كثيرًا كما يستحقُّه وكما هو أهله، والصلاة والسلام على خير خلقه محمَّد وآله الطاهرين...

كل من يتأمَّل التاريخ يجد على امتداده الواسع وفي كلِّ مراحله الزمنيَّة انبثاق دول وانهيار أُخرى، وكلُّ دولة عندما تقوم تبدأ بأوجِّ قوَّتها وعظمتها ثمَّ تضعف شيئًا فشيئًا حتَّى تضمحل وتصبح تابعةً بعدما كانت امبراطوريَّةً ذات نفوذ واسعٍ وقوَّةٍ عالية، وقد أشار أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام) إلى هذا المعنى بقوله: ((لكلِّ دولةٍ برهة))([1])، والبرهة مدَّة زمنيَّة محدَّدة .

ولو بحثنا عن الأسباب التي تؤدِّي إلى ضعف الدولة أو زوالها فيمكن أن نجد مجموعةٍ من الأسباب التي تؤدِّي إلى ذلك، وقد أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى تلك الأسباب محذِّرًا منها، وداعيًا الحكَّام إلى تجنُّبها وعدم الوقوع بها، ومن تلك الأسباب ما نصَّ عليه (صلوات الله عليه) بقوله: ((يستدل على زوال الدول بأربع: تضييع الأصول، والتمسك بالفروع، وتقدم الأراذل، وتأخير الأفاضل))([2]) . وهذا القول من أمير المؤمنين (عليه السلام) يجعلنا أمام سياسةٍ متكاملة لحفظ الدولة ومؤسساتها، وذلك بالاعتماد على أربعة محاور فيما لو التزم بها الحكَّام فإنَّهم سيحافظون على دولهم وحكوماتهم، وأمَّا إذا أخلَّوا بها فإنَّ دولهم حتمًا ستنتهي إلى الزوال .

فهم إذا أضاعوا الأصول وتمسكوا بالفروع فإنَّ الدولة ستنهار؛ لكونهم تركوا أساسيات عملهم السياسي، من ترصين سياسة البلد الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والاهتمام بالدَّخل اليومي للأفراد بما يتناسب مع وضعهم العام، بحيث يضمن الحاكم مستوىً معيشي محترم لكلِّ أفراد رعيته، ثمَّ الاهتمام بالمؤسسة العسكرية والأمنيَّة والتعليميَّة وغيرها من الأمور الرئيسة في قيادة الدَّولة، وأمَّا لو استنفد الحاكم طاقته في تنمية ماله الخاص، وكان ساعيًا للاستحواذ على المكاسب والمناصب، وصارت الدولة عبارة عن مقاولاتٍ ومزايدات تديرها فئة محدودة فإنَّ مآل هكذا دولة إلى الخراب والزوال . ومن الأمور أيضًا التي يجب أن يُراعيها الحاكم في اسناد مناصب الدولة وإداراتها اختيار ذوي الكفاءة والتجربة والمهارة في إدارته، وأن يكونوا من الأخيار؛ كي يضمن أمانتهم وحرصهم على أداء واجباتهم، وأمَّا لو اختار الحاكم الأراذل وجعلهم الوسيلة في إدارة دولته فإنَّه سيفشل وستضيع حقوق النَّاس؛ لأنَّ وسائله سيكون همُّها مصالحها ومكاسبها الشخصية، ممَّا يؤدِّي إلى تفشِّي الفساد في أروقة الدَّولة، والفساد من أكبر الأمراض التي تنتهي بالدولة إلى الزوال، وخصوصًا الفساد المالي والإداري . وإذا ما قدَّم الحاكم الأراذل فإنَّه حتمًا سيؤخِّر الأكارم والأفاضل من الناس ذوي الرأي الصائب والأمانة في الأداء . وهذا المعنى أشار إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) في مورد آخر بقوله: ((زوال الدول باصطناع السُّفْل))، فالدولة تزول متى ما اصطنع الحاكم طبقةً فاسدة وضيعةً من أراذل المجتمع وجعل مقاليد السلطة بأيديهم؛ لأنَّهم لا ينصحون له في أدائهم وإدارتهم لمسؤولياتهم؛ لعدم وجود الوازع الدِّيني الذي يعمل على صدِّ الإنسان عن المحرمات، وبذلك يتحولون إلى معاول حادَّة تهدم بنيان الدولة ممَّا يرجع على الحاكم بالدَّمار والضياع، وفي هذا المعنى يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): ((احذر الشرير عند إقبال الدولة لِئلا يُزيلها عنك، وعند إدبارها لِئلا يُعِين عليك))([3]).

ومن الأمور التي تنتهي بالدولة إلى الضياع هو الاستئثار بالمناصب والامتيازات لفئةٍ معيَّنة من غير معيار الأمانة والموضوعيَّة، وهكذا أمر سينتهي بالدولة إلى الحرب الداخليَّة بين مكوناتها الاجتماعية أو أحزابها المسيطرة على مقاليد السلطة، وقد أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى هذا المعنى بقوله: ((الاستئثار يوجب الحسد، والحسد يوجب البِغضة، والبِغضة توجب الاختلاف، والاختلاف يوجب الفرقة، والفرقة توجب الضعف، والضعف يوجب الذلّ، والذلّ يوجب زوال الدولة وذهاب النعمة))([4]) .

ولم يكتفِ أمير المؤمنين (عليه السلام) ببيان الأمور التي تؤدِّ إلى زوال الدولة فقد؛ بل سعى أيضًا إلى بيان الأصول التي تحفظ الدَّولة وتحميها من الانهيار، ومن تلك الأصول التي أقرَّها ما جاء بقوله (عليه السلام): ((ما حُصِّن الدولُ بمثل العدل))([5])، فالحكم بالعدل بالنسبة للدولة كالسور الحامي للدولة من الانهيار والضياع، ولذلك على الحاكم أن يضع ميزان العدل منهجًا له في كلِّ تصرفاته وأعماله، حتَّى يضمن السلامة لدولته ومجتمعه . ومن الأمور الأُخرى التي تساهم في حفظ الدولة وسلامتها عدم الغفلة في الإدارة والمتابعة؛ لأنَّ الغفلة تجعل تؤدِّي بالإدارة إلى الانفلات وعدم الضبط، ولذلك يجب أن يكون الحاكم متيقظًا وواعيًا ومتحسِّبًا لأيِّ ظرف يمرُّ به، وفي هذا المعنى يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): ((من دلائل الدولة قلة الغفلة))([6])، وقوله (عليه السلام): ((من أمارات الدولة التيقظ لحراسة الأمور))([7]) .

وممَّا سبق يظهر أنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قد أبان الاستراتيجية الحقَّة للحكَّام فيما لو سعوا إلى الحفاظ على دولهم ورعيتهم، وكذلك أبان عن أهمِّ الأمور التي تنتهي بهم إلى الضياع والزوال . اَللّـهُمَّ اِنّا نَرْغَبُ اِلَيْكَ في دَوْلَة كَريمَة تُعِزُّ بِهَا الاْسْلامَ وَاَهْلَهُ، وَتُذِلُّ بِهَا النِّفاقَ وَاَهْلَهُ، وَتَجْعَلُنا فيها مِنَ الدُّعاةِ اِلى طاعَتِكَ، وَالْقادَةِ اِلى سَبيلِكَ، وَتَرْزُقُنا بِها كَرامَةَ الدُّنْيا وَالاْخِرَةِ.

([1]) ميزان الحكمة: 2/936 .

([2]) عيون الحكم والمواعظ: 550 .

([3])عيون الحكم والمواعظ: 104 .

([4]) موسوعة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في الكتاب والسنة والتاريخ: 4/326 .

([5]) عيون الحكم والمواعظ: 476 .

([6]) ميزان الحكمة: 3/2282 .

([7]) عيون الحكم والمواعظ: 469 .

المرفقات

: د. عمَّار حسن عبد الزهرة: : دار القرآن الكريم