يولد الإنسان وقد ركب الله تبارك وتعالى به نظاماً أساسياً يسمى بالنظام الفطري والفطرة هي الخلقة، ويمكن أن نفهمها فيما يتعلق بحياتنا الدنيا بأنها ذلك النظام الذي هو في واقعه المعيار الذي يحتكم إليه الإنسان في تقييم المدخلات الخارجية والسلوكيات الصادرة منه، فضلا عن كونها هي الرابطة بين الله تبارك وتعالى والإنسان، وقد أشار الإمام الصادق(عليه السلام) إلى هذه العلقة الفطرية في جواب سائل سأله: ((يا بن رسول الله دلني على الله ما هو؟ فقد أكثر علي المجادلون وحيروني، فقال له: يا عبد الله هل ركبت سفينة قط؟ قال: نعم، قال: فهل كسر بك حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك؟ قال: نعم، قال: فهل تعلق قلبك هنالك أن شيئا من الأشياء قادر على أن يخلصك من ورطتك؟ فقال: نعم، قال الصادق(عليه السلام): فذلك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حيث لا منجي، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث))[1].
فالفطرة موجودة في الإنسان قبل ظهورها منذ الولادة، أي قبل أن يكتسب الفرد المعلومات الحياتية من الدرس والدراسة والتعلم.
فالفطرة هي منبع التدين، يقول الله تبارك وتعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}[2]، وهي الدافع الوحيد والمحرّك لعملية البحث في قضايا الإيمان، وبوحي منها يتحرك العقل فيبرهن ويستدل ويحاكم في المعلومات الاكتسابية.
لذا لم تستطع الأيدولوجيات المخالفة للإسلام طمس أو إطفاء نور الفطرة، ولكنها غير كافية في التعلم، والدليل على ذلك المتحصل من قول النبي الأكرم محمد(صلى الله عليه وآله): ((كل مولود يولد على الفطرة، وإنما أبواه يهودانه وينصرانه))[3]، وهذا يدل على عدم كفاية الفطرة في التعلم، إذ لو كانت كافية لما احتجنا لاكتساب المعلومات ولما امكن تغير شيء من الإنسان.
ومن هنا جاءت ضرورة التعلم للإنسان، فالعلم الذي يتعلمه الإنسان يلزم أن يكون موافقاً للفطرة الإنسانية منسجماً معها، لذا أصبح الهدف الأساس ليس التعلم فقط، بل العناية بالعلم واختياره متوافقاً والفطرة، وقد تحدث القرآن الكريم عن هذا الموضوع في قول تعالى: {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ}[4]، اذ روى بسنده زيد الشحام عن أبي جعفر محمد ابن علي(عليهما السلام) في قول الله(عز وجل): فلينظر الإنسان إلى طعامه، قال: قلت ما طعامه؟ قال(عليه السلام): ((علمه الذي يأخذه، عمن يأخذه))[5]، ولكي يكون التعليم نافعاً ومثمراً، كان يجب أن يتحول إلى معرفة جزئية تفصيلية، يتدرب عليها ويطبقها باستمرار لتتحول إلى مهارة.
فكانت ضرورة ممارسة التربية سواء كانت ابتدائية تأسيسية، أو ثانوية تقويمية، حيث تشتمل التربية الأساسية على الجانب:
1- المعرفي، وهو التغذية المعلوماتية والمعرفية.
2- السلوكي، والذي يتطلب ما يعرف بالنمذجة السلوكية.
3- النفسي، والذي يتطلب ما يعرف بالنمذجة النفسية.
وفي جميع هذه الجوانب يجب أن تتوافق مع الفطرة السليمة، لذا كانت التربية من أهم الوظائف التي يقوم بها الإنسان وأخطرها، لأن الله تبارك وتعالى خلق العقل في الإنسان وخصوصيته أنه:
1- محتوى لجميع المعلومات.
2- الآلة التي تدوِّر هذا الفكر وتخلطه في عملية تفكر منطقية عقلانية.
3- انتاج الأفكار، والتي تصنع الحياة.
وعلى هذا يكون العقل أشبه بالطاحونة التي يوضع فيها مواد متنوعة ومختلفة، يبدأ ذاتياً بتحريكها وخلطها في عملية(إجالة الفكر في المعلومات المتوفرة) لإنتاج ناتج جديد يدخل في تكوين احتياج الإنسان.
لذا فإن المربي هو المغذى للمعلومات في الذهن البشري، والتي يجب أن تتوافق مع الفطرة، فالإنسان في مقتبل العمر ليست لديه قدرة على الاختيار، بل المربي هو صاحب القدرة والاختيار، ومن هنا كانت مسؤوليته عظيمة، وقد قال النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله): ((كل مولود يولد على الفطرة، وإنما أبواه يهودانه وينصرانه))[6]، وقال أيضاً في إرشاداته لاختيار الزوجة الصالحة لأهمية ذلك: ((أيها الناس إياكم وخضراء الدمن قيل: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في منبت السوء))[7]، وقال(صلى الله عليه وآله) في اختيار الزوج الصالح لنفس الغرض: ((من شرب الخمر بعدما حرمها الله على لساني فليس بأهل أن يزوج إذا خطب، ولا يشفع إذا شفع، ولا يصدق إذا حدث، ولا يؤتمن على أمانة، ...))[8]، وفي حال المخالفة يحدث ما لا يحمد عقباه في الاجيال المتلاحقة، يقول الله تبارك وتعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}[9].
فالإنسان متقوم بالعلم الذي يحمله، والأدب الذي يغشيه، فشرافته ونقاهته ومتانته وحسنه تجعل من إناءه طاهراً نقياً رصينا جميلاً لا يقبل النفرة والخطأ، وإلا العكس هو المتعين، ولا يكون ذلك إلا إذا غذي الإنسان من أشرف المصادر العلمية وأمتنها على وجه الكرة الأرضية وهو القرآن الكريم، وما صدر عن النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) والأئمة المعصومين(عليهم السلام) الذين هم عدل القرآن الكريم من علم وسلوكيات يتدرب عليها، فقد تواتر بين العامة والخاصة عن النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) أنهم هم عدل القرآن الكريم، قال(صلى الله عليه وآله): ((إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي وأنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض))[10].
والواسطة في هذه التغذية الأساسية بهذا المصدر وغيره هي الأم بالدرجة الأساس، والتي تتوقف عليها هذه التغذية الأساسية وتعليمها للأبناء فتؤسس المحتوى الذهني الذي يحمله الإنسان والذي تنشأ منه وعلى أساسه الأفكار التي تبنى عليها الحياة، ويشارك في هذا الدور الأب الذي يبدأ هذا بتلاوة الأذان والإقامة في أول الولادة، ثم يكمل هذا التأسيس العلمي بالتعليم والتعلم، والاثنان يدعمان هذ العلم بالتعليم العملي والمهاري الذي نسميه بالسلوك.
وقد سطر الشيخ علي الجشي في هذا المعنى أبياتاً قال فيها:
لا عذب الله أمي انها شربت *** محبة المرتضى في الروح والبدن
ولم ترد منهلاً في الحب قط سوى *** حب الوصي واسقتنيه في اللبن
وكان لي والد يهوى أبا حسن *** ولا يرى حب أعداه من الحسن
فتلك غذت وذا ربي بنور هدى *** فصرت من ذي وذا أهوى أبا حسن
ولكن على الرغم من كل ذلك تبقي الأهمية القصوى للأم في الأساس التأسيسي للمحتوى الذهني لا الأب، وقد أشار رسول الله محمد(صلى الله عليه وآله) إلى ذلك في قوله: ((كيف بكم إذا فسدت نساؤكم وفسق شبابكم ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر، فقيل له: ويكون ذلك يا رسول الله؟ فقال نعم وشر من ذلك كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف، فقيل له: يا رسول الله ويكون ذلك؟ قال: نعم، وشر من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكرا والمنكر معروفا))[11]، وبالتأكيد أن النساء التي قصدها الحديث الشريف هي الأم لا غير.
لذا فالاستقامة الإنسانية لكلا الجنسين في السلوك والعقيدة يعود أساسها وفضلها للأم، ولكنا وللأسف الشديد نرى في هذا العصر نسائنا قد تركت دورها التربوي واستهانت واستخفت به، وتمحورت نقاشاتها حول محور القدرة البدنية والامكانية العقلية وإمكانية الفهم تاركة وراء ظهرها الاساس المحرك لهذه القدرة والمغذي لهذه الإمكانية، الذي يخلق من هذه الشخصية أنساناً مبدئياً وعقائدياً يصح الاتكاء عليه في صناعة الأجيال، كأم البنين(عليها السلام) التي ولدت وربت أربعة أبطال عقائديين كانوا ركناً أساسياً في نجاح أعظم خروجي بوجه الظلم في التاريخ بعد بعثت النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله)، وهو خروج الإمام الحسين(عليه السلام) بوجه الظلم، حيث كانت تعلم هذه المرأة الطاهرة أنها متخذة لمهمة إنجاب غلام ينصر أخاه الحسين(عليه السلام) بكربلاء، ولكنها لم تتململ من ذلك أو تشعر بالهوان والإهانة أو أن هذا ليس شأنها ولا تقدير لها يتناسب وشأنها كونها امرأة كما تشعر به الكثير من نسائنا اليوم، والتي تنتفض لمجرد سماعها أن وظيفتها إنجاب الأطفال ودورها تربيتهم التربية الصالحة، والتي من المفترض أنها تخلق رجالاً بمنزلة أبي الفضل العباس ابن أمير المؤمنين(عليهما السلام)، قائلة أن دوري أعظم وأكبر من ذلك، وبالمقارنة بين أم البنين(عليها السلام) وبين غيرها من النساء تتبين النتيجة، أن أم البنين(عليه السلام) خلفت وربت إنساناً تنتفع منه كل البشرية وهو باب للحوائج، إنساناً قال له الإمام المعصوم، وهو الإمام الحسين(عليه السلام) اركب بنفسي أنت.
وبناء على ما سبق فإن من الأجدر بنسائنا اليوم أن يتخذن من أم البنين قدوة حسنة في أفعالها وممارساتها، والعزوف عن النماذج البالية التي لا تسمن ولا تغني من جوع، والثقافة البائسة التي يحملنها، حيث لم تستطعن انشاء حياة مستقرة خالية من الحروب والموبقات من الأفعال، وتنزيه مسامعهن عن الأصوات المخالفة للفطرة الإنسانية، والقيام بدورهن الذي حدد في الشريعة الإسلامية لنيل سعادة الدنيا والآخرة.
قال الشاعر...
أم الـبـنـيـن أنــــا والــكــلُّ يـعـرفـني *** فـــي كـنـيـتي نــبـأً بـالـغـيب مـتـصلا
أم الــبــنــيـن أنـــــــا والله أيـــدنـــي *** بــأنـجـم نــورهــا تـــالله مـــا أفـــلا
عـلـمتهم حـب أهـل الـبيت فـي صـغر *** فاستعصموا بالولا والقصدُ قد حصلا
قـد قـدموا الـنفس فـي مـرضاة خالقهم *** فـالـبذلُ شـيـمتهم، أعـظـم بـمـا بُـذلا![12]
الهوامش:-------
[1] التوحيد، الشيخ الصدوق، ص: 231.
[2] سورة الروم : 30.
[3] شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد المعتزلي، ج4، ص: ١١٤.
[4] سورة عبس: 24.
[5] أصول الكافي، محمد ابن يعقوب الكليني، ج1، ص: 50.
[6] شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد المعتزلي، ج٤، ص: 114.
[7] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج ٢٠، ص: ٤٨.
[8] فروع الكافي – محمد ابن يعقوب الكليني، ج ٦، ص: ٣٩٦.
[9] سورة مريم: 59.
[10] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج ٢7، ص: 34.
[11] أصول الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج ٥، ص: ٥٩.
[12] مقطع من قصيدة الشاعر: عقيل اللواتي.
اترك تعليق