أسماء بنت عميس.. ذات الهجرتين

روحٌ تكللت بشذى بيت النبوة واستنشقت عبير الإمامة، خفق قلبها بحب النبي وأهل بيته وسارت على خطاهم بوجهها المضيء وأنفاسها المطمئنة، فشاء لها الله أن تنتقل مع برعمها الطاهر وهو غضّ يانع إلى بيت العترة الطاهرة، فتغذّيا من عقيدته وسُقيا من نوره، فتصلّب عودهما وترسخت جذورهما من وحيه، وتوهجّت أنفاسهما بالعقيدة والإيمان كما تتوهّج الأزهار بقطرات الندى، فكانا منه وإن جاءا من أرض غير أرضه، فالفطرة هي التي تولد انطباعاً لدى الانسان بأنه ينتمي إلى من يحمل نفس صفاته وملامح شخصيته.

أسماء بنت عُميس الخثعمية (رضوان الله عليها) أحدى (الأخوات المؤمنات) كما وصفهن رسول الله واختلف في عددهن فقيل: هن عشر أخوات ست منهن لأم وأب، فمن أخواتها لأمها أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث، زوجة النبي، و(لبابة) زوجة العباس بن عبد المطلب، وأم أبنائه الفضل وعبد الله، و(سلمى) زوجة الحمزة بن عبد المطلب.

أما أسماء فقد تزوجت من جعفر بن أبي طالب، لذلك قيل في أمهنّ خولة بنت عوف الكنانية بأنها: أكرم الناس أصهارا. 

من الصحابيات الجليلات السابقات إلى الإسلام أسلمت قبل دخول النبي دار الأرقم وهاجرت إلى الحبشة مع زوجها الاول جعفر بن ابي طالب، وهناك أنجبت له عبد الله وعون ومحمد ثم هاجرت إلى يثرب، لذا لقّبت بذات الهجرتين كما لقبها بذلك رسول الله عندما قال لها عمر بن الخطاب بعد رجوعها من الحبشة: نعم القوم لو لا أننا سبقناكم إلى الهجرة، فذكرت ذلك للنبي فقال: بل لكم هجرتان: إلى أرض الحبشة، وإلى المدينة. (1)

وبعد استشهاد زوجها جعفر في معركة مؤتة تزوجها أبو بكر بن أبي قحافة فولدت له محمداً ولما مات أبو بكر تزوجها أمير المؤمنين فولدت له يحيى وعون.

كانت أسماء من النفوس التي عشقت بيت النبوة ولم تفارق أنفاسها أريج الوحي وهو ينشر شذاه على أرجائه، وعندما حضرت أم المؤمنين خديجة الوفاة كانت أسماء إلى جانبها، فبكت خديجة ...

فقالت لها أسماء: أتبكين وأنت زوجة النبي ومبشّرة على لسانه بالجنة ؟ ولكن خديجة لم تكن تبكي على نفسها، بل كانت عينها متعلقة بابنتها، وقلبها ينبض حباً ولوعة على فراقها، وروحها تحوم حولها.

فقالت: ما لهذا بكيت، ولكن المرأة ليلة زفافها لا بد لها من امرأة تفضي إليها بسرها وتستعين بها على حوائجها، وفاطمة حديثة عهد بصبا وأخاف ألا يكون لها من يتولى أمرها حينئذ.

فقلت لها أسماء: يا سيدتي، لك عهد الله عليّ إن بقيت إلى ذلك الوقت أن أقوم مقامكِ في ذلك الأمر.

ووفت أسماء بعهدها، فلما تزوجت فاطمة أمر رسول الله النساء بالخروج فأخبرته أسماء بالخبر، فبكى رسول الله وقال لأسماء: فأسأل الله أن يحرسك من فوقك، ومن تحتك، ومن بين يديك، ومن خلفك، وعن يمينك، وعن شمالك، من الشيطان الرجيم.

طرقت النوائب والمآسي قلب أسماء وتحمّلت الشدائد في سبيل الدعوة الشريفة، وموالاة أهل البيت وأول مصاب نزل عليها كان استشهاد زوجها جعفر في مؤتة.

فذهب رسول الله إلى بيتها فقال لها: يا أسماء أين بنو جعفر ؟

فجاءته بهم، فضمَّهم وشمَّهم..

فقالت أسماء: يا رسول الله، لعله بلغك عن جعفر شيء ؟

قال: نعم، قُتل جعفر... ودخلت فاطمة تبكي وتندب عمها:

وا عماه ! فقال رسول الله: على مثل جعفر فلتبك البواكي 

ودخله هم شديد حتى أتاه جبرئيل، فأخبره أن الله قد جعل لجعفر جناحين مضرجين بالدم يطير بهما مع الملائكة. فالتفت إلى أصحابه وقال: اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد شُغلوا عن أنفسهم اليوم.

وتوالت الفجائع على قلب أسماء فقد كانت ملازمة للصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء وموضع سرّها ومحل حوائجها.

وهي التي أشارت عليها بصنع النعش الذي رأته بأرض الحبشة فقالت لها الزهراء: اصنعي لي مثله سترك الله من النار، وقد أوصتها الصديقة الطاهرة أن لا يغسلها إلا هي ــ أسماء ــ وعلي (2)

وبقيت أسماء على ولائها الصادق لأهل البيت طيلة حياتها، وحتى في غير بيتهم فقد روى الطبرسي: إن الشيخين بعثا إلى خالد بن الوليد فأتاهما فقالا نريد أن نحملك على أمر عظيم. فقال خالد: احملاني على ما شئتما ولو على قتل علي بن أبي طالب. فقالا: فهو ذلك. فقال خالد متى أقتله؟ قال أبو بكر: احضر المسجد وقم بجنبه في الصلاة فإذا سلمت فقم إليه واضرب عنقه. قال: نعم.

فسمعت أسماء بنت عميس وكانت زوجة أبي بكر فقالت لجاريتها: اذهبي إلى منزل علي وفاطمة وأقرئيهما السلام وقولي لعلي: إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين.

ففعلت كما أمرتها، فقال أمير المؤمنين للجارية: قولي لها إن الله يحول بينهم وبين ما يريدون. (3)

وفي بيت أمير المؤمنين فُجعت أسماء بنبأ استشهاد ولدها محمد بن أبي بكر وقتلته الشنيعة على يد عمرو بن العاص فقامت إلى المسجد (كان في بيتها مسجد) وكظمت غيظها حتى شخب ثدياها دماً واستعانت بالصبر والصلاة على ما ألمَّ بها.

لقد غذت هذه السيدة الجليلة أولادها كلهم على محبة أهل البيت وساروا على خطاها في حبها وولائها فروت أحاديث النبي في فضائل أمير المؤمنين. ومنها ما رواه السيوطي عنها عن النبي:

قالت: سمعت رسول الله يقول: اللهم إني أقول كما قال أخي موسى واجعل لي وزيراً من أهلي أخي علياً اشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيراً ونذكرك كثيراً إنك كنت بنا بصيرا. (4) توفيت أسماء (رضوان الله عليها) سنة (40هـ).

........................................................

1 ــ فتح الباري ــ العسقلاني ص 554

2 ــ كشف الغمة في معرفة الأئمة ــ للأربلي ص 500 ــ 503 / الإصابة ــ ابن حجر ج ٤ ص ٢٢٥ / أسد الغابة ــ ابن الأثير ج ٥ ص ٣٩٥ / أعلام النساء ــ ابن طيفور ج ١ ص ٤٦

3 ــ الاحتجاج ص 94

4 ــ ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى ص 63

المرفقات

كاتب : محمد طاهر الصفار