أن التفكير الحسي لا يفهم ما هو خارج عن حدود المادة، فالموجود عندهم مادي بالضرورة، وهذا في الحقيقة إشكالية لها علاقة بنظرية المعرفة، فمن يحصر أدوات المعرفة في الحواس لا يعترف بشيء خارج عن حدود الحواس، فلا يعترف مثلاً بوجود العقل والروح بوصفهما خارجان عن حواسنا.
أما من يؤمن بالعقل طريقاً إلى المعرفة بجانب الحواس، يمكنه التصديق بما هو خارج عن حدود الحواس؛ وذلك لأن العقل له قدرة على الاستنتاج والاستنباط واستخلاص النتائج من المقدمات، أي أن العقل له القدرة على الانتقال من بعض الأسباب والظواهر لأثبات حقائق أخرى غير منظورة حسياً، فمثلاً من يرى سيارة في الشارع يمكنه أن يعتقد بأن لهذه السيارة صانع مع أنه لم يرى الصانع وهو يصنع السيارة؛ وذلك لحكم العقل بأن الشيء لا يمكن أن يوجد ذاته، فعليه من المستحيل أن تكون السيارة هي التي صنعت نفسها بنفسها، وكذلك يمكنه أن يستنتج فكرة أخرى وهي أن صانع هذه السيارة (عالم وصاحب خبرة) وهذه صفة اثبتها العقل للصانع من غير ان يتعرف عليه بحواسه؛ وذلك لأن التصميم الدقيق والتركيب المتناسق بين الأجزاء يدل بشكل قاطع أن صانعها عالم وخبير، وهكذا يمكن للعقل أن يستنتج حقائق أخرى مثل أن يقول أن صانعها حكيم، وذلك لأن السيارة لها غاية وهدف محدد وهذا لا يكون إلا إذا كان صانعها حكيماً، وكل هذه المعارف تحصل للإنسان حتى لو لم يكن الصانع واقعاً تحدت حواسه. وبالتالي مشكلة التعلق بالطبيعة ناتجة من رؤية منحرفة حول طبيعة المعرفة عند الإنسان، وفي هذه المرحلة لا يكون نقاشنا مع الملحد حول وجود الله وإنما ينحصر الكلام معه حول ابطال كون الحس هو الطريق الوحيد للمعرفة.
كما أن مفهوم الطبيعة غير واضح عند الملحد، فماذا يقصد بان الطبيعة هي التي خلقت وأوجدت الأشياء؟ هل يقصد بالطبيعة نفس الأشياء مثل السماء والأرض والحيوان وغير ذلك؟ أم يقصد بها السنن والقوانيين التي تحكم الكون؟ أم يقصد بها قوة خفية وراء هذا الكون هي التي اوجدت الأشياء؟
فإذا كانوا يقصدون المعنى الأول أي ان الأشياء هي التي أوجدت الأشياء فهذا معنى لا يستقيم ؛ لأن العقل لا يسلم بأن الشيء يوجد نفسه، فإن كان بمقدور الأشياء أن توجد ذواتها لأوجدتها كاملة لا نقص فيها ولكان وجودها دائم لا يعتريه العدم، في حين اننا نرى النقص في الموجودات لحاجتها لبعضها ولغيرها، فمثلاً لو كان وجود الإنسان من ذاته لأوجد نفسه تاماً كاملاً عالماً لا يخفى عليه شيء، وقادراً على كل شيء، وحي لا يموت، وهكذا لجمع كل الكمال لنفسه طالما هو الخالق لنفسه، فلماذا يخلقها ناقصة ومحتاجة؟
أما إذا كانوا يقصدون بالطبيعة القوانين التي تحكم الكون، أي أن لهذا الكون قوانين تسيره وتنظم أموره، مثله كمثل الساعة التي تسير بدقة وانتظام دهراً طويلاً، فإنها تسير بذاتها بدون مسيّر. وهذا الافتراض هو في الواقع هروب من أصل السؤال وهو من خلق الكون؟ فالكشف عن القوانين الدقيقة لا علاقة له بما يفترضه الإلحاد من عدم وجود إله، فكما سألنا عمن خلق الأشياء؟ يبقى السؤال قائماً من خلق القوانين؟ أو من خلق هذا الكون المنظم بالقوانين؟ وليست لنا مشكلة في كيف يعمل الكون، سوى كان ذلك العمل طبقاً لقانون أو طبقاً لأمر اخر.
أما الافتراض الثالث وهو أن المقصود بالطبيعة هي قوة خفية خارجة عن الأشياء وليست شيئاً منها؛ لأنها لو كانت شيئاً منها لاحتاجت هي نفسها إلى طبيعة أخرى توجدها. وعليه هذه القوة لابد أن تكون قوة حيّة سميعة بصيرة حكيمة قادرة وبالتالي كاملة وغير عاجزة. وهذا في واقع الامر اعتراف بما لم يريدوا الاعتراف به، أو كما يقال نقضوا غزلهم بعد قوة انكاثاً.
اترك تعليق